أفكار وآراء

ما بعد الفلسفة الوضعية ونتائجها التحليلية

تحدثنا الأسبوع المنصرم، عن الوضعية الفلسفية التي أقام فكرتها ـ كما أشرنا سابقًا ـ الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت، وبعض أتباعه ممن وافقوه في هذه الرؤية الوضعية التقليدية، التي ادعت أنها نهاية العلم والتقدم في العصر الحديث، أو أنها نهاية العلوم والفرضيات الجديدة، ولكن هذه الفلسفة الوضعية، تأسست في ظروف فرنسا في ذلك الوقت بعد الثورات المتعاقبة ، وسادت فيها الفوضى والتوتر والصراعات التي حدثت، والفيلسوف كونت يود الوقوف على فكرة حديثة، تلتئم التمزق الداخلي، برؤية مغلفة بالشعار العلمي الجديد، وجاءت هذه الرؤية التي اتسمت بالوثوقية أكثر مما ينبغي من يقين وحزم، من حيث مقولاتها في العلم والتقدم والتجربة الحسية، وهذا ما جعل البعض من العلماء والباحثين، ينتقدون الفرضيات النهائية في مقولاتها بـ العلموية من زاوية فلسفية أيديولوجية، وتم انتقادها واتهامها بالنظرة الأحادية التي لا تتماهى مع العلوم التجريبية الحاسمة علميًا، مع أن وضعية أوجست كونت تنتقد الفلسفة، وتعتبرها خارج الرؤى الواعية بالواقع الحسي، واستنتاجاتها من منطلق التأملات الفكرية والتصورات الخيالية.

والحقيقة أن توالي الفرضيات في الغرب في العصور الحديثة، تدعو للاستغراب من كثرة الطرح الفلسفي المتعدد والمتناقض مع ما قبله، وكذلك الفرضيات العلمية، مع أن كل واحدة من هذه الفرضيات والفلسفات، تدحض وتسفه الأخرى، وبعض هذه الفرضيات اعتبرها أصحابها، ومن شايعها في حينها أنها العلم الحقيقي الذي لا خلاف عليه علميًا، وأتذكر في سنواتي الأولى الدراسية في التعليم العام، وكنا ندرس مادة العلوم، وكان المنهج قطرياً آنذاك ، قبل تطبيق المنهج العماني، فالنظريات حول خلق الكون تبعث أحيانًا على الضحك أكثر مما تدعو للبكاء، وكانت ما يقرب من عشر نظريات تتحدث عن خلق الكون، وكل نظرية تناقض الأخرى، ومنها ـ كما أتذكر: أن سحابة مرت في الفضاء، ثم تكثفت، وتكثفت، ومن خلالها خُلق الكون، وفرضية أخرى تقول: إن كتلة ضخمة مع كتلة أخرى، تصادمتا مع بعضهما في الفضاء، ونتج عنهما الأرض والسماء، والشمس والقمر والنجوم والبحار الخ، وكنا نبتسم من هذه المقولات والتي لم تدخل في عقلنا الغض، لبساطة فهمنا في ذلك السن، مع ذلك فإن النظريات سقطت من خلال فرضيات أخرى في العصور الحديثة، ومن خلال العلوم الغربية نفسها التي تلت هذه الأفكار، والسبب أن الأحكام المسبقة، والثقافة الخاصة، والحمولة الفكرية الذاتية، أسهمت في وضع هذه الفروض التي اعتبرت في وقتها قمة العلم والمصداقية الصحيحة.

وهذا النقد لم يشمل الفلسفات والنظريات الحسية الظاهراتية ، كالفلسفة الوضعية لكونت ، بل شمل أيضا من المناهج التجريبية، كما أشرنا لبعضها في المقال السابق؛، ففي القرن السابع عشر مع بداية النهضة العلمية في الغرب برز المنهج التجريبي، عند باسكال، وبيكون، وغاليليو، لكن هذه المناهج سقطت بظهور فرضيات جديدة، بعدها جاءت نظريات أخرى، وهي النظريات الاستقرائية في الفيزياء، ومن هؤلاء العالم الشهير (ديكارت) والذي جمع بين الفلسفة وعلم الفيزياء، وصاحب المنهج الشكي المعروف (أنا أفكر إذن أنا موجود) ـ وهذه المنهجية الشكية قيل إن الأمام الغزالي سبقه في هذا المنهج قبل ستة قرون مضت ـ ولنا فيه وقفة أخرى ـ ومع ذلك لاقت الفرضية الديكارتية انتقادات في منهجها وفرضيتها. بعد ذلك جاء الفيزيائي وعالم الرياضيات الإنجليزي المعروف على نطاق واسع عالميا «إسحاق نيوتن» 1642 - 1727 م)، وهو من أشهر الشخصيات والمشاهير، من حيث إسهامه في النهضة العلمية الحديثة، وقصته المعروفة بسقوط التفاحة من الشجرة، واستنتج نيوتن من هذا السقوط (قانون الجاذبية)، ومتابعته للأجرام السماوية، ومع أن نيوتن أسهم في أرسى العلوم الحديثة، إلا أن العلوم الجديدة التي ظهرت بعده، خالفته في بعض استنتاجاته الفيزيائية، واتهم البعض «بالدوغماتي النزعة».

ومن هؤلاء الذي نقدوا الفيزيائية النيتونية، العالم الألماني ألبرت اينشتاين وصاحب النظرية النسبية، والذي يعتبر علماء الفيزياء الأكثر تأثيرًا في العلوم الحديثة، من حيث الإسهامات الفيزيائية والفلسفية، لكن بعد ذلك ظهرت العديد من الرؤى العلمية، التي أضافت إلى ما قدمه إينشتاين الكثير من الفرضيات الحديثة، وتمت مخالفته في بعض استنتاجاته، ولذلك العلوم التجريبية متغيرة لم تقف عند فرضية نهائية، مع البعض ادعى بغير ذلك.

أما نظرية (ما بعد الوضعية) والتي جاءت بعد أوجست كونت، فإنها انطلقت من النمسا، على يد مجموعة من الوضعيين من جامعة النمسا سميّت بـ»ندوة فيينا»، بين عامي 1920 ـ 1930، وأضافت للفلسفة الوضعية، العديد من المنهجيات الجديدة، على فرضيات (هيوم، وكونت ، وماخ)، واتسمت بالصرامة في أدوات التحليل، وأطلق عليها يحسب د/ محمد عابد الجابري :»التجريبية الوضعية «، وعند البعض الآخر»الوضعية المنطقية»، وعند البعض أيضاً الوضعية الوصفية، وأصدرت مجلة (المعرفة) «تنشر أفكارهم»، وتفرعت إلى بعض الوضعيين في دول عديدة، بين المتشدد في صرامتها المنهجية، وبين الواقعي المعتدل تجاه الرؤية الحسية واللاهوتية.

وفكرة الوضعية المنطقية، أو التجريبية، كما يقول أحد المؤسسين لها «كارناب» : «إن موضوع أبحاث فيينا، هو العلم، سواء باعتباره، واحداً أو فروعاً مختلفة، ويتعلق الأمر هنا بتحليل المفاهيم والقضايا والبراهين والنظريات التي تلعب فيه دوراً ما، مع العناية بالناحية المنطقية، أكثر من الاهتمام باعتبارات التطور التاريخي أو الشروط التطبيقية، السوسيولوجية والسيكولوجية. إن هذا الميدان من البحث لم يحظ لحد الآن باسم خاص به، وبالإمكان تمييزه بأن نطلق عليه اسم «نظرية العلم» وبعبارة أدق: «منطق العلم». ونعني بالعلم هنا، مجموعة العبارات enounces المعروفة، ليس فقط تلك التي يصوغها العلماء، بل أيضًا تلك التي نصادفها في الحياة الجارية، لأنه من غير الممكن فصل هذه عن تلك بوضع حدود دقيقة بينهما».

ويضيف كارناب، في التحليل المنطقي في ألفاظ اللغة عند المنطقيين الجدد، التي يرون أنه من خلال اللغة التي لها معنى عندهم، والتي ليس لها معنى، وتعتبر لديهم مرفوضة ولا يعترفون بها في تحليلهم و»يتضح مما تقدم أن ما تدعو إليه الوضعية المنطقية هو قصر التفكير الفلسفي على فحص اللغة التي تعبّر بها العلوم، فحصًا منطقيًا صارمًا، حتى يمكن تطهيرها من تلك التأكيدات الميتافيزيقية التي قد تتسرب إلى المعرفة العلمية بواسطة اللغة العادية التي لا مناص من استعمالها.. إن الوضعية الجديدة، إذن، تنفي نفيًا قاطعًا، إمكان قيام «فلسفة للعلوم» يكون هدفها تشييد نظرية، أو فلسفة في الطبيعة والكون والإنسان، أو على الأقل تعتبر مثل هذه النظرية جملة آراء وأفكار لا تصمد أمام معول «التحليل المنطقي الصارم».

والوضعية الجديدة، بتفرعاتها الطبيعية، والرياضية، والمنطقية التحليلية، واجهت العديد من الانتقادات من فلاسفة وعلماء، ناقشوا هذه المقولات، التي تم اعتبارها من التحليل العلمي، كما قال «كارناب»، بهذه الوثوقية والتي سبقتها إلى هذا الرأي، الفلسفة الوضعية الكلاسيكية، ومن النقد الذي وجه إلى الوضعيات الجديدة، وأهمها الوضعية المنطقية، أنها اهتمت بالألفاظ والعبارات في التحليل اللفظي، وترى الموسوعة السوفيتية المختصرة، «أن هذا الاسم (المنطقية الوضعية)، مميز لطائفة من أصحاب الفكر، صمموا على ألا يجاوزا الواقع بنظرهم، وعلى أن يكون هذا الواقع الذي يختصون به هو اللغة الذي يصوغ فيها سائر العلماء علومهم مع اختلاف موضوعاتها».

ومن الانتقادات لمقولة المنهج العلمي والعلم المغلف برؤية صارمة، ما قاله عالم الفيزياء النمساوي «إيرون شرود نغر» ـ وهو من الحائزين على جائزة نوبل في الفيزياء: «إن الصورة التي يرسمها العلم للعالم الحقيقي صورة ناقصة جدا، صحيح أنه يقدم حشدا من المعلومات الواقعية، ولكنه يسكت سكوتا فاضحا عن كل ما هو قريب فعلا إلى قلوبنا، بل ما يهمنا حقا، إنه لا يستطيع أن يقول لنا كلمة واحدة عن الحمرة والزرقة، وعن المرارة والحلاوة، وعن الجمال والقبح، وعن الخير والشر .. صحيح ـ كما يقول إيرون شرود ـ أن العلم يدعي أحيانا أنه يجيب عن أسئلة في هذه المجالات، إلا أن هذه الأجوبة هي في الأغلب على قدر من السخف، لا نميل معه إلى أخذها مأخذ الجد». وفي قضية الوضعية المنطقية التي تبناها شيخ الفلاسفة، ثم تراجعه عنها، وردود المفكر العربي المعروف عباس محمود العقاد على كتاب د/ زكي المنطق الوضعي.. وللحديث بقية