ثقافة

أنساغ: عن الحب وحماقات أخرى

دوستويفسكي
 
دوستويفسكي
'ستأتي الأشياء من تلقاء نفسها من دون أي جهد، أو سترحل للأبد رغم كل الجهود'

جلال الدين الرومي

(1)

سأتمكن من نسيانك في نهاية المطاف لأن المساء – كما كان يقول صديقي المسرحي والسينمائي الإماراتي محمد الدوسري – 'لا يزال طفلاً يحبو' حتى حين تقفل الشمس باب الليل، ولأنني 'أحببته وسيعلمني الحب أن أنسى' كما تقول شخصية المخرجة الهندية--الأمريكيَّة ميرا نير في نهاية تحفتها السينمائيَّة 'كاماسوترا: قصة حب' الذي تحوَّل فيه الكتاب الأيروسي المعروف إلى نص احتجاج سياسييٍّ وثوريٍّ؛ بَيْدَ أني تذكرتك بانكسار عارم وأنا آخذ ثيابي، والشراشف، والبطانيَّات، والمناشف إلى محل الغسيل الجاف القريب من البناية التي أقطن فيها على عجل في يومٍ مزدحم.

لا أحد يستطيع التحكُّم في خمسة أشياء على الأقل: الهواء، والرائحة، والحب، ومناقير الطيور، والموت. الهواء يصدر عن الماء، والحب يعصف من شرشف من النوع غير الفاخر بحاجة إلى غسيل من كل الذكريات، كما يأتي من رائحة زهرة بعيدة في كوكب آخر، ومناقير الطيور هي حماقة أعمدتنا الفقريَّة في مغبَّات 'الخروج من الغابة' وفقاً لمنظور هيغل (في الفترة الأمريكية الأولى ذهبت إلى المركز الطبي في الجامعة وأنا أشكو آلامًا مبرِّحة في الظَّهر. فحصني الطبيب وأخذ يكتب الوصفة وهو يقول بصورة بدت لي تراجيدية جداً: ' أفهمك جيداً، لكني لا أستطيع أن أفعل الكثير لمساعدتك، وذلك لأن أوجاع العمود الفقري هي واحدة من أكثر المشاكل تعقيداً التي يواجهها الجنس البشري في تاريخه'! وعندما اندلقت عيناي دهشةً لهذه العبارة الدراميَّة أردف بهدوء إكلينيكي وداروِنِيٍّ (نسبةَ إلى تشارلز داروِن): 'نعم، لأنه لم يكن يُفْتَرضُ أن نمشي من الأساس')! أما الموت، أما الموت، أما الموت فاسمعيني: لا أحد يستطيع الحديث عن الموت بالجرأة الكافية والعمق المطلوب بعد أن صار لم يعد في وسعنا – حليمة (أم طفول)، وعبدالله عبيد، وغيرهما، وأنا – أن نرى سالم علي (أبو طفول) مرة أخرى أبداً. وفي المرة القادمة أيضاً سيحدث الموت مرة أخرى للمرة الأولى.

لكن، اسمعي، ما دام غسيل الثياب الجاف هو ما سيزيل الالتباس عن الالتباس والرائحة: أعتقد أن أعظم ما في رواية باترِك زوسكند 'العطر' ليست روائح أمشاج الورود والأزهار المتضوِّعة بين الصفحات ولا طريقة بوتَقَتِها (هذا ناهيك، بالطبع، عن أن كل جرائم القتل الفظيعة التي تحدث في ذلك السرد الفاتن لم يكن المقصود منها إيذاء أي أحد بمن في ذلك القارئ)، بل تلك القدرة الهائلة والباهظة على الشَّم.

وأخالُ إنني في حالة سبق إصرار وترصُّد في الدفاع عن ما تبقى من حواسي.

(2)

سأغامر بالقول (بصورة بارادوكسيَّة جداً، ومُقْلِقَة فيما يخصني) إنه في مسألة الحب كان نيتشه أعمق بعض الشيء من ماركس (أخال أنه يحق لمن قرأ ما تيسر من كليهما لكنه عاش كليهما في الحياة أن يكون أهوجَ بعض الشيء). نيتشه كانت لديه قدرة فائقة (جينيالوجيَّة تقريباً، هو الذي كان – بصورة أُعجوبيَّة -- أستاذ كرسي الفيلولوجيا الكلاسيكية في جامعة بازل العتيدة وهو لما يزل في أوائل العشرينيَّات من العمر) على الكراهية والمقت العاليين والمتعاليين جداً من أجل تحقيق الحب في خارج ما نعرفه؛ والحقيقة أيضاً، خارج ما يعرفه هو نفسه. هنا يكمن مأزقه الذي وضعه في شبهات سياسيَّة حتى اليوم، بحيث لا يستطيع حتى أعتى المنافحين عنه تبريره أو تبرئته بالكامل.

أما ماركس فقد كان شخصاً طيِّباً (تقريباً مثلكِ، ومثل والدتك الكريمة، ومثل مريم إبراهيم، ومثلي؛ فقد استغربَ كثيراً أن يضطر الفلاحون الألمان المُدْقَعُون الذين يقضون نهارهم في الفلاحة وقطع جذور الأشجار حتى إلى دفع قيمة الأخشاب التي يستعملونها للتدفئة ليلاً في شتاء أكواخهم البائسة). وفي الحقيقة، لا أعتقد أنه في كل تاريخ الفلسفة هناك من يستحق المحبة والاحترام مثل ماركس ('الفيلسوف الوحيد الذي لا نستطيع أن نتجاوزه' كما يقول سارتر)؛ فقد أنفق هذا المسكين التَّعِس حياته في محاولة الحب هنا على الأرض، وإنقاذ أناس بؤساء لا يستحقون – في الحقيقة (كما سيتضح في كثير من الحالات فيما بعد) -- سوى المزيد من الإذلال، والظلم، والعسف، والبطش، والاضطهاد، والهتاف بحياة الجلادين. لقد كان ماركس أعظمَ قربانِ حُبٍّ للبشرية (وفي هذه التفصيلة، فهو بالتأكيد أقرب إليَّ من نيتشه، في هذا التناقض على الأقل).

بعدك، ومعك، وإلى جانبك، وحتى في هجرانك، لم أحب أي شخص كما أحببتُ ماركس في الفلسفة: 'لقد تفكَّر الفلاسفة دوماً في تفسير العالم بطرقٍ متعددة، بينما المطلوب هو تغييره'. أخال أن هذا هو أعظم نداء للبشرية والفلسفة معاً منذ الفلاسفة ما قبل السقراطيين وحتى يومنا هذا؛ غير أن خلاصة الأمر هو أنه لا احتقار 'قطيع' نيتشه وحده يكفي للخلاص، ولا الإعلاء من شأن 'جماهير' ماركس بمفرده ينجع للعتق.

أما فرويد فهو مصاب بلوثة العقل الألماني أيضاً (الذي أفسدته المسيحيَّة والجعة كما يقول نيتشه): النقد والتحليل. مشكلة فرويد (أصبحت مشكلتنا، بالأحرى) أنه اكتشف 'الأنا السفلى' حين قالت له إحدى مريضاته اليهوديات: 'أشعر أن هناك كلباً فوقي' (وليس في هذا أي عنصرية أو طبقيَّة، ولكن من النقد الذي يوجَّه إلى فرويد هو أنه بنى كل نظرياته في علم النفس بناء على الاستماع إلى مريضات يهوديات من الطبقة المتوسطة العليا فما فوق كي يحكم حتى على سكَّان مجز الصغرى). فرويد هو أفضل شخص يمكن الالتقاء به بعد الخروج من مُنْتَبَذٍ ليليٍّ في وقت متأخر جداً، وذلك بعد أن يكون 'الصراع الطبقي' قد انتهى مع انتحار ماياكوفسكي لدى اكتشافه وَهْم إيجاد جنَّة للعمَّال على الأرض، هذا بينما أصبح 'الإنسان الأسمى' أو 'الأعلى' (ubermensche) من مقتنيات سينما هوليوود فقط.

(3)

'إن الجمال مستحيل لأن الرب لم يمنحنا سوى الألغاز'، هكذا يقول دوستويفسكي في 'الإخوة كارامازوف'.

لكن يطيب لي الظن أن دوستويفسكي كان يقصد القول: 'إن الحب مستحيل لأن الرب لم يمنحنا سوى الألغاز'. ولماذا يطيب لي هذا الالتباس؟

أعتقد أن السبب هو أن دوستويفسكي كان ثرثاراً ومهذاراً كبيراً (لا أدري لماذا أتذكر في هذه اللحظة بضحكة خفيفة رسائله الاستعطافيَّة إلى زوجته لطلب المال بعد أن يكون قد خسر جولات القِمار في الحانات، مقسماً لها بأغلظ الأيمان أن هذه هي المرة الأخيرة)! أظن أن دوستويفسكي كان يتحدث كثيراً مثل الحب بالضبط (وهذا مما لا يعجبني كثيراً فيه). كان يحب الكلام مثلكِ تقريباً. يحدث دوماً ذلك التشوُّش الكبير في ذاكرتي بين 'الجمال' و'الحب' لدى الحديث عن دوستويفسكي. وأظن – استطراداً -- أن علينا حقاً عدم التردد في قبول الروايات الكبيرة، وقصص الحب العظيمة من باب تزجية ومقاومة الضجر ليس إلا (وأعلم أنك ستدهشين أن مثل هذا الكلام الفارغ يمكن أن يصدر عني)؛ فأنت وأنا أعظم ألف مرة من روميو وجولييت، أما ماكْبِثْ فهو أعظم من كل من الفاضلين شكسبير وبولانسكي معاً. وليس خروجاً عن الموضوع فإنه حين يقرأ المرء رسائل دوستويفسكي عليه الاحتياط من مغبَّاتٍ كثيرة. حين يقرأ المرء دوستويفسكي عموماً لا بد أن تكون لديه خطّة أُحبوليَّة احتياطيَّة للنجاة. وبالمناسبة، أنا حزين جداً أنه انتقل من موسكو الى الأعالي مؤخراً المترجم العراقي الفذ خيري الضامن (من دون كثير أخبار في الصحافة الثقافية العربية السيَّارة). سقى الله خيري الضامن الذي – ضمن إنجازات أخرى -- مكَّننا من قراءة رسائل دوستويفسكي.

لكن ثمَّة اعتراف واجب: في ما يخص ذائقتي الشخصيَّة، أنا أحب دوستويفسكي (في الرسائل) أكثر مما أحبه (في الروايات)، وأظن أنه لا بأس في أن يكون المرء مزهوَّاً بخباله أحياناً. في التنظيرات يحكون أن دوستويفسكي هو من أسس الفلسفة الوجودية وعلم النفس التحليلي قبل سارتر وفرويد. ولكن من أنا كي أتفق أو أختلف مع ذلك؟ بَيْدَ أن عليَّ الإضافة أني – بعيداً عن الروايات والرسائل -- أحب دوستويفسكي أكثر في لحظة وشوك تنفيذ حكم الإعدام بحقه. أعتقد ان تلك اللحظة العجيبة الغريبة هي ما وحَّد 'الكوميديا' بـ 'التراجيديا' وانتهى عصر الإغريق الكلاسيكيين مرة وإلى الأبد: لقد حدثت الحياة في آخر لحظة فقط، ولم نعد بحاجة إلى الميثولوجيا. إنني أقهقه الآن وأنا أتذكر هذا: دوستويفسكي على منصَّة الإعدام، ثم يأتي فارسٌ على صهوة جواد صارخاً: 'لقد أصدر القيصر أمراً بالعفو'! أه، حتى القيصر البليد كان يقرأ دوستويفسكي، لكن من دون أن يعلم الغبي أنه كان يفعل ذلك!