أفكار وآراء

أحوال المسلمين في ذكرى مولده

كان من ضمن المقررات علينا في المدارس الابتدائية، دعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الطائف.. ذلك الدعاء الذي ما زلت أتأثر به حتى الآن كتأثري به منذ سماعي له للمرة الأولى قبل ما يربو على نصف قرن. وكلما مرّ عليّ ذلك الدعاء، يدور في خلدي أننا - نحن المسلمين - استلمنا الدين الإسلامي بفضل التضحيات العظيمة التي قدّمها الرسول وأصحابُه الكرام، وأتساءل هل نحن حافظنا على الدين الذي وصلنا بفضل تلك التضحيات الضخام؟

يروي ابن مسعود رضي الله عنه موقفًا مؤثرًا يدل المعاناة التي عاناها الرسول صلى الله عليه وسلم مع مشركي مكة؛ فبينما كان الرسول يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحابه جلوس، قال أبو جهل أيّكم يقوم إلى مخلفات جَمَل فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فوضعه بين كتفي الرسول وهو ساجد، فكان ذلك مدعاة لضحكهم وسخريتهم، ولم يستطع ابن مسعود أن يفعل شيئًا لضعفه؛ فانطلق أحدهم وأخبر السيدة فاطمة رضي الله عنها، فجاءت فطرحته عنه؛ فلما قضى رسول الله صلاته رفع صوته داعيًا عليهم «اللهم عليك بقريش» «ثلاثا»؛ فذهب عنهم الضحك وخافوا دعاءه. وقد رأى الرسول عليه الصلاة والسلام بعد ذلك أن يتوجه إلى الطائف يلتمس نصرة ثقيف، علها تكون أحسن قبولا واستجابة للدعوة، فأخذ معه زيدًا بن حارثة، ومكث عشرة أيام يتردّد على منازلهم، لكنهم أغلظوا له الجواب، ولما يئس طلب منهم أن يكتموا أمره، كراهية أن يبلغ ذلك أهل مكة فتزداد عداوتهم وشماتتهم؛ لكن القوم طردوه وحرّضوا عليه صبيانهم وسفاءهم وعبيدهم، فوقفوا له صفّين يرمونه بالحجارة ويوجهون له كلمات سفيهة؛ وزيدُ بن حارثة يحاول عبثًا الدفاع عنه حتى شج في رأسه، وأصيب الرسول صلى الله عليه وسلم في أقدامه فسالت منها الدماء، واضطره المطاردون أن يلجأ إلى بستان، وجلس في ظلِّ شجرة عنب يلتمس الراحة. هنا هتف الرسول عليه السلام يقول: «اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ....». ومن حرارة ذلك الدعاء يتضح أنّ ما لقيه الرسول من أهل الطائف ترك آثارًا نفسية عميقة في نفسه. وعندما قرر عليه الصلاة والسلام العودة إلى مكة بعدما لقي ما لقيه، سأله زيد: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ قال «إنّ الله جاعلٌ لما ترى فرجًا»؛ فبعث إلى المُطعم بن عدي يعرض عليه أن يجيره حتى يبلّغ رسالة ربه، فقبل المطعم ذلك. وهذه بحد ذاتها من الأمور المؤلمة، إذ لم يجد الرسول الكريم أن يدخل مكة إلا بجوار مشرك.

حقيقةً من أصعب الأمور في حياة الإنسان أن يكون عاجزًا بلا حيلة؛ وأصعبُ من ذلك أن يعلم الآخرون بذلك العجز وقلة الحيلة تلك، فتضيق عليه الدنيا - على رحبها وسعتها. والناسُ في الحياة وأمام الابتلاء أنواع؛ فهناك مِن الناس مَن جعل من ذلك العجز مصدر قوة فانطلق؛ وهناك من يئس واستسلم فانهزم. يحدث هذا مع الناس العاديين، ولكن ماذا إذا كان الأمر يتعلق بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو سيد الخلق أجمعين؟! كانت معاناته مصدر قوة له، لينطلق بدعوته حتى تسود العالمَ كلمةُ «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وهي الكلمة التي أخرجها بعض المسلمين من مضمونها، وجعلوا منها مرادفة للإرهاب بسبب ضيق فهمهم للدين.. وهي الكلمة نفسها التي يحاربها العالم ولا يريدون لها أن تنتشر فتسود الأرض؛ فأصبح اضطهاد المسلمين مشاعًا في كلّ مكان، وأصبحت أوطان المسلمين ومقدساتهم مستباحة؛ وصرنا ننام ونصحو على اضطهاد المسلمين في أماكن كثيرة، ومعسكرات التطهير العرقي في الصين وبورما والهند والبلقان وكثير من البقاع، وتعرّضت المسلمات في بورما لاغتصاب جماعي وإحراق منازل ومساجد الروهينجا وتهجيرهم من وطنهم، إضافة إلى العديد من انتهاكات حقوق الإنسان الأخرى؛ كما أدت الإبادة الجماعية المستمرة للإيجور في الصين إلى احتجاز أكثر من مليون مسلم في معسكرات اعتقال سريّة دون أيّ إجراءات قانونية، وفي الهند صار اضطهاد المسلمين في آسام وجامو وكشمير أمرًا عاديًا، وسُنّت قوانين رسمية ضدهم وضد وجودهم وممتلكاتهم، وبلغ التطرف بحزب «بهاراتيا جاناتا» الهندوسي الحاكم حدًا أن يطلب من البرلمان الهندي، نهاية 2019، إقرار قانون للجنسية يعتبر المسلمين دخلاء، ويطالب بسحب الجنسية منهم، باعتبارهم مهاجرين من بنجلاديش وبورما، وحرم القانون المسلمين من الحصول على الوثائق الرسمية ممّا يعني حرمانهم من الخدمات الحكومية مثل الصحة والتعليم والوظائف. ولم يكن ذلك كلّ شيء فقد أقامت الحكومة الهندية عشرات معسكرات الاعتقال المؤقتة أودعت فيها المسلمين، ريثما يتم طردهم؛ يتم كلّ ذلك والعالم الإسلامي غائبٌ صامتٌ إلا من أدعية المنابر يوم الجمعة التي تقول: «اللهم انصر الإسلام والمسلمين»، وهي أدعيةٌ بلا روح لا تخرج من أعماق القلوب ولا يتبعها عملٌ، وتشبه هذه الأدعية تمامًا الأدعية الكثيرة التي يتبادلها الناس عبر الواتساب، عن طريق «النسخ» ثم «اللصق» لأجل المشاركة فقط؛ وغاب مفهوم نصر الله عند المسلمين، الذي يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، ويقول: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}.

أما أحوال المسلمين مع بعضهم البعض فليست أفضل حالا من معاملة أعدائهم لهم، فما يحصل من بعض المسلمين لبعضهم من تكفير وقتل وسب وقذف، لا يُرضي رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، الذي حذّر أمته في خطبة الوداع من الوقوع في مثل ذلك عندما قال: «لا تَرْجِعُنَّ بعدي كُفَّارًا.. يَضرِب بعضُكم رِقابَ بعضٍ»، لكن المسلمين فعلوا في أنفسهم ما فعله فيهم عدوهم، فشاهدنا دولا عربية إسلامية تتآمر وتحاصر وتجوّع وتقتل شعبًا دون ذنب اقترفه، وشاهدنا دولا تتسابق إلى مد اليد للعدو المغتصِب للمقدسات الإسلامية على حساب أهل الأرض؛ وشاهدنا تفجير مساجد المسلمين بأيدي مسلمين، ممّا حوّل يوم الجمعة - وهو عيد للمسلمين - إلى يوم دموي؛ ولن يكون التفجير الذي حصل يوم الجمعة الماضية الخامس عشر من أكتوبر في مسجد بقندهار وأودى بحياة العشرات من المصلين هو الأخير، وقد سبقه انفجار في مسجد «سيد أباد» الكبير بولاية قندوز الأفغانية يوم الجمعة الثامن من أكتوبر الحالي، أودى بحياة مئة مصلي وأصاب مئتين آخرين؛ فالانفجاران ضمن سلسلة التفجيرات التي حصلت كثيرًا في مساجد العراق وباكستان واليمن وغيرها من الدول؛ وكأننا نساعد الصهاينة لتدمير المسجد الأقصى، ونؤيد الهندوس الذين هدموا مسجد بابري التاريخي؛ وأينما ولّيْنا وجوهنا في خريطة العالم الإسلامي لا نشاهد إلا التخلف والتبعية، ونرى انتشار التديّن الشكلي على حساب الدين الحقيقي الذي نزل سماويًا صافيًا، ولم يبق من الدين إلا بعض المظاهر. ومع كثرة المساجد إلا أنّ دورها اختفى وأما المعاملات فكلها أو معظمها تدخل ضمن المحرمات دينيًا.

ما أحوجنا ونحن نحتفل بذكرى مولد الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، أن نتمثّل معاناته في الطائف، وأن نعيش بوجداننا تلك اللحظات الصعبة التي عاشها النبيّ هناك، وأن نغوص في أعماق دعاء «اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي»، وأن نعرف أنّ الدين الإسلامي وصلنا بسبب تلك التضحيات، وعندها ربما نعلم قيمة الدين الذي ورثناه، ولن نفرّط فيه وننشغل بتكفير وقتل بعضنا البعض وتفجير المساجد على رؤوس المصلين، وبتوافه الأمور.