بين العلم والعلموية.. لماذا هذه المقاربة ؟
الأربعاء / 6 / ربيع الأول / 1443 هـ - 20:53 - الأربعاء 13 أكتوبر 2021 20:53
عبدالله العليان
لا شك أن الغرب في العصر الحديث، استطاع أن يقفز قفزات علمية كبيرة في مجال العلوم الطبيعية -التجريبيةـ وكان لها دورها الكبير في النهضة الحديثة، والتقدم على كل المستويات في الحياة الإنسانية بأسرها، وكانت إسهامات هذه العلوم مبهرة في فتح آفاق علمية وتجريبية عظيمة، وفي تحسين حياة الإنسان وتطوره من جرّاء النتائج التي حدثت من الطرائق البحثية والوسائل الحديثة، التي تجسدت في المخترعات الحديثة المختلفة، التي مكنته من النهوض المتتالي خاصة في مجال الاختراعات وتطوريها بصفة دائمة ومتقدمة والإضافات التي تتم بصورة متواصلة، وتعزز ذلك في مجال تطور التعليم، وهو ما تمخض عنه من تقدم في العلوم الطبية والتكنولوجية بصورة جعلت العلم يتقدم في تطوره المستمر، وفي غيرها من المخترعات التي تحققت بفضل هذا العلم وإنجازاته التي جعلت الإنسان أكثر تقدمًا في التكنولوجيا، وفتوحاته المعرفية الكبيرة. ومع ذلك حدثت الكثير من الالتباسات والحتميات التي تدعي امتلاك الحقيقة في كل مجالات النظر والبحث في غير مجال التجريب العلمي، وخارج مجال اختصاصه العلمي، الماورائي والغيبي.
وهذا ما ادعته الفلسفة الوضعية والمتمثلة في الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي «أوجست كونت» ومن شايعه في هذه النظرة الفكرية المتعالية التي تقترب من الغرور بادعاء امتلاك الحقيقة، وهذا ما قاله في كتابه: «دروس في الفلسفة الوضعية» من أنه سيقيم العلم الحقيقي، مستبعدًا بعض المعارف كونها غير صحيحة فيقول: «لقد نذرت حياتي دائمًا علّي أستنبط أخيرًا من العلم الحقيقي الأسس الضرورية للفلسفة الصحيحة، التي كان يجب علي فيما بعد أن أعتمد عليها في إنشاء الدين الصحيح». والإشكالية في هذا القول من الفيلسوف كونت كونه يتحدث عن الفلسفة الوضعية بهذه الحتمية، يتناسى أن الرؤية الغيبية لا تتعلق بالعلم وفرائضه المادية الفاصلة، ولذلك هي لا تشير بالدقة المنهجية إلى العالم الواقعي من حيث فرضياته، بل مجرد أن كونت جعل فلسفته الوضعية ديانة جديدة، لكنها بمسمى العلم الصحيح، ومن هذه المنطلقات ـ كما يقول د.محمد إسحاق الكنتين إن هذه: «الديانة الوضعية لن تفلت من السمات المشتركة بين الديانات جميعًا، وعلى رأس هذه السمات البعد الميتافيزيقي، فإذا كان كونت قد استطاع أن يتجاهل الميتافيزيقيا من فلسفته الوضعية، فإنه لن يستطيع أن يطردها من رحاب ديانته الوضعية».
ولذلك فإن هذا النظر شابته العيوب والافتراضات العقيمة.
كما أن هذا الاعتقاد والجزم يخالف واقع هذه الفلسفة الوضعية، التي تدعي أنها الرأي الصحيح (العلم)، واستبعاد الفلسفات والمعارف الأخرى، مع أن كلمة علم، كلمة كبيرة وشعار براق لفلسفة وضعية اعتقادية، التي تحولت إلى أيديولوجيا، أو كما يسميها البعض إلى «دوغمائية»، واعُتبرت أنها تجنح للمثالية الفلسفية «الميتافيزيقية» بدعوى الوثوقية وامتلاك الحقيقة، مع أن الأمر ليس دقيقًا بمعايير العلم نفسه ومعاييره، وبمقاييس التجربة المجردة، بعيدًا عن الأحكام المسبقة والفرضيات العقلية، أو هي أقرب للجمود الفكري على رأي لم يصل إلى درجة الصحة والمصداقية الفاحصة، بالمفهوم العلمي للكلمة، وهذا ما جعل البعض ينعتها بالغرور العلمي بـمصطلح (العلموية) الأيديولوجية، وهذا المفهوم هو بمثابة نقد لارتباط هذه النزعة بالعلم أو احتكارها له، على الرغم من ابتعادها عنه من حيث الفرضية العلمية كما أشرنا آنفًا.
ويرى الباحث «موريس ميرلوبونتي» في دراسته: (العلموية في مقابل الظلامية، أو: تجنُّب المأزق التقليدي في الفلسفة)، أن امتلاك الحقيقة بمعايير العلم أو مقاييسه، وفق الرؤية العلموية، يعد مجازفة خطيرة، ولذلك: «يكمن نقد العلموية في الاعتقاد بأن نموذج العلوم الطبيعية لا يمكن بل لا ينبغي أن يُعَدَّ نموذجًا للتفكير الفلسفي، وأن العلوم الطبيعية لا تُعَدُّ السبيل الأساسي والأكثر أهميةً لفهم العالم. يجد المرء تعبيرًا عن هذا الاعتقاد لدى مجموعة كبيرة من المفكرين في التقليد القاري مثل برجسون وَهوسرل وَهايدجر، والفلاسفة المرتبطين بمدرسة فرانكفورت منذ ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها.
وفي هذا الصدد، أوصي بشدة بقراءة كتاب هابرماس «المعرفة والمصالح البشرية» (١٩٦٨)».
ويضيف «بونتي» في دراسته أن الفيلسوف هابرماس في طرحه للوضعية الفلسفية يرى أن: «العلموية تعني الإيمان بالعلم في حد ذاته، أي «الاقتناع بأننا لم يَعُدْ بوسعنا أن نفهم العلم «كشكل» من أشكال المعرفة، وإنما يجب اعتبار أن المعرفة هي العلم». ويُعَدُّ كتاب «المعرفة والمصالح البشرية» نقدًا منهجيًّا للعلموية التي تبدأ تاريخيًّا بالاعتقاد بظهور الوضعية من خلال تقبُّل فلسفة كانط النقدية في منتصف القرن التاسع عشر، في أعمال إرنست ماخ وَأوجست كونت».
ويرى الفيلسوف الفرنسي «رينيه جينو» في نقده للوضعية العلموية أن الافتتان بقضية بفكرة العلم، من خلال اعتقادات فكرية مسبقة يعتبر منهجا زائفا عن الأصل الصحيح للعلم وحدوده، ولا شك أن: «علوم الغرب تنطوي على بعض الحقائق؛ لأنها مفيدة ونافعة في بعض المجالات النسبية، ولكنها محدودة بما لا انفكاك لها عنه؛ إذ هي جاهلة بالجوهري، مفتقرة إلى المبدأ، كحال جميع ما تتمخض نسبتُه إلى الحضارة الغربية الحديثة.
ويتخيل «العِلْمَويُّون»، كأوجست كونت -بما لديهم من رأي متحيز غير واعٍ غالبًا- أن الإنسان لم تكن له قطُّ غاية من المعرفة سوى شرح الظواهر الطبيعية. وإنما قلنا: إنه رأي متحيز غير واعٍ؛ لأنهم عاجزون يقينًا عن إدراك إمكان المضيّ إلى أبعد من ذلك، وليس هذا الذي نَنقِمه منهم، وإنما نَنْعَى عليهم إنكارَهم على غيرهم ما أُوتوه من ملكات تَنِدُّ عن هؤلاء العلمويين أنفسِهم، فهم كالأعمى الذي لم ينكر وجود النور، ولكنه أنكر وجود آلة البصر، ولا دليل له على ذلك إلا حرمانه منها».
وناقش د. محمد عابد الجابري في كتابه (مدخل إلى فلسفة العلوم)، الاتجاهات الوضعية الدوغماتية ـ كما سماها ـ النظرية الفيزيائية وطبيعة المعرفة العلمية، ومن هنا يرى د. الجابري أن النزعة العلموية للفلسفة الوضعية، جنحت إلى الدوغماتية فلسفيًا، مع أنها جعلت الوضعية علمًا، لا يقبل الاختلاف: «وعلى الرغم من أن أوجست كونت قد حصر مهمة العلم في البحث عن القوانين مطالبًا بقصر البحث العلمي في دراسة شروط وجود الظاهرة، والإعراض عن البحث في كيفية وجودها وأسباب حدوثها، فإنه كان يعتقد أن العلم يستطيع الإجابة عن جميع الأسئلة، شريطة أن يصاغ السؤال بكيفية علمية. لقد كان أوجست كونت واثقًا في العلم وفي قدرته على حل جميع المشاكل حتى الاجتماعية منها، كيف لا وهو الذي جعل المرحلة الوضعية (العلمية) أرقى مراحل تطور الفكر البشري. إنه من هذه الناحية دوغماتي تمامًا كنيوتن، ولذلك لم ترتبط به الاتجاهات الجديدة أي ارتباط». ولذلك فإن هذه النزعة ـ كما يقول د. محمد عابد الجابري، التي تدعي العلمية ـ العلموية ـ لا يستطيع الباحث للوضعية الفلسفية التمييز بينها وبين العلموية الميتافيزيقية، والعلموية المنهجية، ولذلك كما يرى د. الجابري فقد: «تعرّضت هذه النزعة الدوغماتية العلموية لانتقادات شديدة، خاصة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. مما أدى إلى قيام اتجاهات وضعية تنادي بحصر المعرفة العلمية في نطاق محدود، نطاق الظواهر الحسية. وكما قلنا من قبل، فلقد أحدثت هذه النزعات الوضعية الجديدة ردود فعل من جانب العلماء والفلاسفة ذوي الميول العقلانية.
وقد كان النقاش بين هؤلاء وأولئك يدور، بكيفية خاصة، حول النظرية العلمية، طبيعتها وحدودها. «ولذلك فإن الاعتقاد من خلال التخمين والتوقع والتحيز لفكرة مسبقة، بامتلاك الحقيقة، وحتى في مجال التجريب ، والملاحظة، والفحص المجهري، ليس دليلاً نهائياً للمعرفة التامة. ويرى الفيلسوف البريطاني: «نيغيل واربوتون» في كتابه (الفلسفة الأسس)، «أن رؤية الشيء لا تقتصر على سقوط صورته على شبكة العين ـ بحسب رؤية الفيلسوف «ن. ر.هانسون»، (الرؤية أمر تتعدى مجرد ما تراه العين»، إذ تؤثر معارفنا وتوقعاتنا لما يحتمل أن تراه العين حقيقة، فأنا حينما أنظر مثلاً إلى أسلاك تبديلة هاتف ، لا أرى سوى مزيج فوضوي من الأسلاك الملونة، بينما ينظر من سيصلح الهاتف إلى الشيء نفسه على أنه أنماط مرتبة من التوصيلات، فأثرت خلفية معتقدات هذا المهندس في ما يراه في الحقيقة، وليس الأمر أنني وهذا المهندس نمتلك الخبرة البصرية نفسها التي نعمد إلى تأويلها بصورة مختلفة، فالخبرة البصرية ـ كما تقول نظرية الإدراك الحسي الخاصة بالواقعية السببية ـ لا تنفصل أبدًا عن معتقداتنا تجاه ما نراه».
إذن الفلسفة الوضعية العلموية، شطحت كثيرًا في اعتقاد أصحابها، بامتلاك الحقيقة بانتساب رؤيتها للعلم، وأنها قادرة على المعرفة الشاملة، لذلك تم انتقادها بقوة من علماء وفلاسفة الغرب نفسه، وهذا ما يؤكد أن الفلسفات والأفكار، والاعتقادات الخاصة تلعب دورًا كبيرًا في طرح نظريات، لا تكون جازمة والإحاطة بكل المعارف العلمية منها والإنسانية، والعلم التجريبي نفسه في تغير وليس في ثبات، بفضل الاكتشافات المستمرة، وهذا ما برز في النظريات والفلسفات التي ظهرت في الغرب، ونجد كل فرضية تدحض الأخرى وتبطلها، وتسقطها بفرضية مخالفة، بعدما اعتبرت بأنها نهائية فيما وضعته من رؤى علمية ومنهجية ..
وللحديث بقية.
لا شك أن الغرب في العصر الحديث، استطاع أن يقفز قفزات علمية كبيرة في مجال العلوم الطبيعية -التجريبيةـ وكان لها دورها الكبير في النهضة الحديثة، والتقدم على كل المستويات في الحياة الإنسانية بأسرها، وكانت إسهامات هذه العلوم مبهرة في فتح آفاق علمية وتجريبية عظيمة، وفي تحسين حياة الإنسان وتطوره من جرّاء النتائج التي حدثت من الطرائق البحثية والوسائل الحديثة، التي تجسدت في المخترعات الحديثة المختلفة، التي مكنته من النهوض المتتالي خاصة في مجال الاختراعات وتطوريها بصفة دائمة ومتقدمة والإضافات التي تتم بصورة متواصلة، وتعزز ذلك في مجال تطور التعليم، وهو ما تمخض عنه من تقدم في العلوم الطبية والتكنولوجية بصورة جعلت العلم يتقدم في تطوره المستمر، وفي غيرها من المخترعات التي تحققت بفضل هذا العلم وإنجازاته التي جعلت الإنسان أكثر تقدمًا في التكنولوجيا، وفتوحاته المعرفية الكبيرة. ومع ذلك حدثت الكثير من الالتباسات والحتميات التي تدعي امتلاك الحقيقة في كل مجالات النظر والبحث في غير مجال التجريب العلمي، وخارج مجال اختصاصه العلمي، الماورائي والغيبي.
وهذا ما ادعته الفلسفة الوضعية والمتمثلة في الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي «أوجست كونت» ومن شايعه في هذه النظرة الفكرية المتعالية التي تقترب من الغرور بادعاء امتلاك الحقيقة، وهذا ما قاله في كتابه: «دروس في الفلسفة الوضعية» من أنه سيقيم العلم الحقيقي، مستبعدًا بعض المعارف كونها غير صحيحة فيقول: «لقد نذرت حياتي دائمًا علّي أستنبط أخيرًا من العلم الحقيقي الأسس الضرورية للفلسفة الصحيحة، التي كان يجب علي فيما بعد أن أعتمد عليها في إنشاء الدين الصحيح». والإشكالية في هذا القول من الفيلسوف كونت كونه يتحدث عن الفلسفة الوضعية بهذه الحتمية، يتناسى أن الرؤية الغيبية لا تتعلق بالعلم وفرائضه المادية الفاصلة، ولذلك هي لا تشير بالدقة المنهجية إلى العالم الواقعي من حيث فرضياته، بل مجرد أن كونت جعل فلسفته الوضعية ديانة جديدة، لكنها بمسمى العلم الصحيح، ومن هذه المنطلقات ـ كما يقول د.محمد إسحاق الكنتين إن هذه: «الديانة الوضعية لن تفلت من السمات المشتركة بين الديانات جميعًا، وعلى رأس هذه السمات البعد الميتافيزيقي، فإذا كان كونت قد استطاع أن يتجاهل الميتافيزيقيا من فلسفته الوضعية، فإنه لن يستطيع أن يطردها من رحاب ديانته الوضعية».
ولذلك فإن هذا النظر شابته العيوب والافتراضات العقيمة.
كما أن هذا الاعتقاد والجزم يخالف واقع هذه الفلسفة الوضعية، التي تدعي أنها الرأي الصحيح (العلم)، واستبعاد الفلسفات والمعارف الأخرى، مع أن كلمة علم، كلمة كبيرة وشعار براق لفلسفة وضعية اعتقادية، التي تحولت إلى أيديولوجيا، أو كما يسميها البعض إلى «دوغمائية»، واعُتبرت أنها تجنح للمثالية الفلسفية «الميتافيزيقية» بدعوى الوثوقية وامتلاك الحقيقة، مع أن الأمر ليس دقيقًا بمعايير العلم نفسه ومعاييره، وبمقاييس التجربة المجردة، بعيدًا عن الأحكام المسبقة والفرضيات العقلية، أو هي أقرب للجمود الفكري على رأي لم يصل إلى درجة الصحة والمصداقية الفاحصة، بالمفهوم العلمي للكلمة، وهذا ما جعل البعض ينعتها بالغرور العلمي بـمصطلح (العلموية) الأيديولوجية، وهذا المفهوم هو بمثابة نقد لارتباط هذه النزعة بالعلم أو احتكارها له، على الرغم من ابتعادها عنه من حيث الفرضية العلمية كما أشرنا آنفًا.
ويرى الباحث «موريس ميرلوبونتي» في دراسته: (العلموية في مقابل الظلامية، أو: تجنُّب المأزق التقليدي في الفلسفة)، أن امتلاك الحقيقة بمعايير العلم أو مقاييسه، وفق الرؤية العلموية، يعد مجازفة خطيرة، ولذلك: «يكمن نقد العلموية في الاعتقاد بأن نموذج العلوم الطبيعية لا يمكن بل لا ينبغي أن يُعَدَّ نموذجًا للتفكير الفلسفي، وأن العلوم الطبيعية لا تُعَدُّ السبيل الأساسي والأكثر أهميةً لفهم العالم. يجد المرء تعبيرًا عن هذا الاعتقاد لدى مجموعة كبيرة من المفكرين في التقليد القاري مثل برجسون وَهوسرل وَهايدجر، والفلاسفة المرتبطين بمدرسة فرانكفورت منذ ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها.
وفي هذا الصدد، أوصي بشدة بقراءة كتاب هابرماس «المعرفة والمصالح البشرية» (١٩٦٨)».
ويضيف «بونتي» في دراسته أن الفيلسوف هابرماس في طرحه للوضعية الفلسفية يرى أن: «العلموية تعني الإيمان بالعلم في حد ذاته، أي «الاقتناع بأننا لم يَعُدْ بوسعنا أن نفهم العلم «كشكل» من أشكال المعرفة، وإنما يجب اعتبار أن المعرفة هي العلم». ويُعَدُّ كتاب «المعرفة والمصالح البشرية» نقدًا منهجيًّا للعلموية التي تبدأ تاريخيًّا بالاعتقاد بظهور الوضعية من خلال تقبُّل فلسفة كانط النقدية في منتصف القرن التاسع عشر، في أعمال إرنست ماخ وَأوجست كونت».
ويرى الفيلسوف الفرنسي «رينيه جينو» في نقده للوضعية العلموية أن الافتتان بقضية بفكرة العلم، من خلال اعتقادات فكرية مسبقة يعتبر منهجا زائفا عن الأصل الصحيح للعلم وحدوده، ولا شك أن: «علوم الغرب تنطوي على بعض الحقائق؛ لأنها مفيدة ونافعة في بعض المجالات النسبية، ولكنها محدودة بما لا انفكاك لها عنه؛ إذ هي جاهلة بالجوهري، مفتقرة إلى المبدأ، كحال جميع ما تتمخض نسبتُه إلى الحضارة الغربية الحديثة.
ويتخيل «العِلْمَويُّون»، كأوجست كونت -بما لديهم من رأي متحيز غير واعٍ غالبًا- أن الإنسان لم تكن له قطُّ غاية من المعرفة سوى شرح الظواهر الطبيعية. وإنما قلنا: إنه رأي متحيز غير واعٍ؛ لأنهم عاجزون يقينًا عن إدراك إمكان المضيّ إلى أبعد من ذلك، وليس هذا الذي نَنقِمه منهم، وإنما نَنْعَى عليهم إنكارَهم على غيرهم ما أُوتوه من ملكات تَنِدُّ عن هؤلاء العلمويين أنفسِهم، فهم كالأعمى الذي لم ينكر وجود النور، ولكنه أنكر وجود آلة البصر، ولا دليل له على ذلك إلا حرمانه منها».
وناقش د. محمد عابد الجابري في كتابه (مدخل إلى فلسفة العلوم)، الاتجاهات الوضعية الدوغماتية ـ كما سماها ـ النظرية الفيزيائية وطبيعة المعرفة العلمية، ومن هنا يرى د. الجابري أن النزعة العلموية للفلسفة الوضعية، جنحت إلى الدوغماتية فلسفيًا، مع أنها جعلت الوضعية علمًا، لا يقبل الاختلاف: «وعلى الرغم من أن أوجست كونت قد حصر مهمة العلم في البحث عن القوانين مطالبًا بقصر البحث العلمي في دراسة شروط وجود الظاهرة، والإعراض عن البحث في كيفية وجودها وأسباب حدوثها، فإنه كان يعتقد أن العلم يستطيع الإجابة عن جميع الأسئلة، شريطة أن يصاغ السؤال بكيفية علمية. لقد كان أوجست كونت واثقًا في العلم وفي قدرته على حل جميع المشاكل حتى الاجتماعية منها، كيف لا وهو الذي جعل المرحلة الوضعية (العلمية) أرقى مراحل تطور الفكر البشري. إنه من هذه الناحية دوغماتي تمامًا كنيوتن، ولذلك لم ترتبط به الاتجاهات الجديدة أي ارتباط». ولذلك فإن هذه النزعة ـ كما يقول د. محمد عابد الجابري، التي تدعي العلمية ـ العلموية ـ لا يستطيع الباحث للوضعية الفلسفية التمييز بينها وبين العلموية الميتافيزيقية، والعلموية المنهجية، ولذلك كما يرى د. الجابري فقد: «تعرّضت هذه النزعة الدوغماتية العلموية لانتقادات شديدة، خاصة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. مما أدى إلى قيام اتجاهات وضعية تنادي بحصر المعرفة العلمية في نطاق محدود، نطاق الظواهر الحسية. وكما قلنا من قبل، فلقد أحدثت هذه النزعات الوضعية الجديدة ردود فعل من جانب العلماء والفلاسفة ذوي الميول العقلانية.
وقد كان النقاش بين هؤلاء وأولئك يدور، بكيفية خاصة، حول النظرية العلمية، طبيعتها وحدودها. «ولذلك فإن الاعتقاد من خلال التخمين والتوقع والتحيز لفكرة مسبقة، بامتلاك الحقيقة، وحتى في مجال التجريب ، والملاحظة، والفحص المجهري، ليس دليلاً نهائياً للمعرفة التامة. ويرى الفيلسوف البريطاني: «نيغيل واربوتون» في كتابه (الفلسفة الأسس)، «أن رؤية الشيء لا تقتصر على سقوط صورته على شبكة العين ـ بحسب رؤية الفيلسوف «ن. ر.هانسون»، (الرؤية أمر تتعدى مجرد ما تراه العين»، إذ تؤثر معارفنا وتوقعاتنا لما يحتمل أن تراه العين حقيقة، فأنا حينما أنظر مثلاً إلى أسلاك تبديلة هاتف ، لا أرى سوى مزيج فوضوي من الأسلاك الملونة، بينما ينظر من سيصلح الهاتف إلى الشيء نفسه على أنه أنماط مرتبة من التوصيلات، فأثرت خلفية معتقدات هذا المهندس في ما يراه في الحقيقة، وليس الأمر أنني وهذا المهندس نمتلك الخبرة البصرية نفسها التي نعمد إلى تأويلها بصورة مختلفة، فالخبرة البصرية ـ كما تقول نظرية الإدراك الحسي الخاصة بالواقعية السببية ـ لا تنفصل أبدًا عن معتقداتنا تجاه ما نراه».
إذن الفلسفة الوضعية العلموية، شطحت كثيرًا في اعتقاد أصحابها، بامتلاك الحقيقة بانتساب رؤيتها للعلم، وأنها قادرة على المعرفة الشاملة، لذلك تم انتقادها بقوة من علماء وفلاسفة الغرب نفسه، وهذا ما يؤكد أن الفلسفات والأفكار، والاعتقادات الخاصة تلعب دورًا كبيرًا في طرح نظريات، لا تكون جازمة والإحاطة بكل المعارف العلمية منها والإنسانية، والعلم التجريبي نفسه في تغير وليس في ثبات، بفضل الاكتشافات المستمرة، وهذا ما برز في النظريات والفلسفات التي ظهرت في الغرب، ونجد كل فرضية تدحض الأخرى وتبطلها، وتسقطها بفرضية مخالفة، بعدما اعتبرت بأنها نهائية فيما وضعته من رؤى علمية ومنهجية ..
وللحديث بقية.