أفكار وآراء

يوم خالد في حياة «عُمان»

أ.د. حسني محمد نصر

في حياة الأمم والشعوب الحية تبقى دائمًا أيام خالدة لا تنسى ولا تمحى من الذاكرة الجمعية مهما طال الزمن. يوم الجمعة الماضي الموافق الثامن من أكتوبر 2021 واحد من هذه الأيام المجيدة التي سوف يخلدها التاريخ الإنساني عامة والعماني على وجه الخصوص، باعتباره اليوم الذي شهد -في تقديري- أكبر استنفار شعبي شهده العالم مع مناطق تضررت من كارثة طبيعية داخل دولة.

عندما تنتهي هذه الحملة التضامنية المستمرة والمتواصلة حتى الآن، التي خرجت فيها عُمان كلها صغارا وكبارا، مواطنين ومقيمين، لإزالة آثار الحالة المدارية «شاهين» بأيديهم، ودعم المتضررين منه في ولايات محافظتي شمال وجنوب الباطنة، وعندما يتم الكشف عن حجم الإنجاز الضخم الذي حققته بالأرقام والإحصاءات الدقيقة، ربما يتغير مفهوم العالم كله عن إدارة الكوارث والأزمات، وربما تظهر مفاهيم جديدة عن الإغاثة الإنسانية الشعبية الشاملة في أوقات الكوارث الطبيعية، يكون الشعب العُماني فيها أنموذجًا يحتذى عالميا.

لا تتوقف الكوارث الطبيعية في العالم، ولن تتوقف بالتأكيد، وكل ما تستطيع الدول، حتى تلك الغنية منها، القيام به أن تعلن المناطق المتضررة «مناطق منكوبة» وتخصص لها ميزانيات لا تكفي غالبًا لعلاج كل الأضرار أو تعويض كل الخسائر.

في عُمان اختلفت الصورة فلم يستخدم أحد كلمة «منكوبة» على الإطلاق لوصف ولايات المصنعة والخابورة والسويق بعد الإعصار، رغم كل ما حدث فيها، لأن الناس ما زال لديهم إيمان راسخ بأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وأن ما حدث كان ابتلاء من الله سبحانه وتعالى يختبر به صبرهم على المصائب، ويمتحن من خلاله قدرتهم على الرضا بقضائه والتسليم بقدره. خفّف العمانيون الصدمة من البداية باستخدام تعبير «المناطق المتضررة» وليس «المناطق المنكوبة»، إذ لا يصح في دولة هذا شعبها أن تكون فيها مناطق منكوبة.قدم الشعب العماني للعالم من خلال تدفق الآلاف على تلك المناطق في يوم واحد بيانا عمليا يؤكد أن الشعوب إذا أرادت فعلت، وإذا دعيت لبت النداء للبذل والعطاء، مهما كانت الصعوبات. فمنذ اليوم التالي لضرب إعصار «شاهين» ولايات شمال وجنوب الباطنة بدأ التحرك الفوري والاستجابة السريعة في ضوء ما توافر من صور ومعلومات عن الحجم الكبير للأضرار التي لحقت بالطرق والمنازل والممتلكات العامة والخاصة، والبنية الأساسية.

كانت بداية التحرك بصدور التوجيه السامي من جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - بتشكيل لجنة وزارية برئاسة معالي وزير المالية، رئيس اللجنة المالية والاقتصادية بمجلس الوزراء، من أجل «تقييم الأضرار الناجمة عن الإعصار، والتي تعرضت لها منازل المواطنين وممتلكاتهم المختلفة في المحافظات، وتوفير شتى أشكال الدعم والمساعدة اللازمين للتخفيف من حدة تأثيرات الإعصار عليهم في أسرع وقت ممكن، والإسراع بإصلاح البنية الأساسية المتضررة، واتخاذ ما يلزم من إجراءات لسرعة إعادة الخدمات الأخرى المتضررة».

وقد شاهدنا على منصات التواصل الاجتماعي صاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم آل سعيد، وزير الثقافة والرياضة والشباب بين الناس في ولاية السويق التي تُعد من أكثر الأماكن تضررا بسبب الإعصار، وشاهدنا على شاشات التلفزيون ومنصات التواصل الاجتماعي وزراء ومسؤولين وسط المتضررين والمتطوعين. وجاءت زيارة صاحب السمو السيد شهاب بن طارق نائب رئيس الوزراء لشؤون الدفاع للولايات المتضررة في محافظتي شمال وجنوب الباطنة لتؤكد تكامل الجهود الحكومية والشعبية من أجل إعادة الحياة إلى طبيعتها في تلك الولايات، والمحافظة على المنجزات الوطنية.واقع الأمر أن الجهود الحكومية التي بذلتها مؤسسات الدولة في أعمال الإغاثة خلال الحالة المدارية «شاهين» كانت كبيرة أيضًا وحاسمة، خاصة جهود قوات السلطان المسلحة من خلال اللجنة العسكرية الرئيسية لإدارة الحالات الطارئة، وما قدمته للمواطنين والمقيمين في المناطق المتضررة من توفير ونقل وتوزيع المواد التموينية والغذائية، وعمليات نقل المواطنين والإخلاء الطبي، والإنقاذ، ودعم وإسناد مختلف الجهات الحكومية للقيام بمهامها الوطنية.

وقد سارت معها جنبًا إلى جنب الجهود الشعبية التي تسابقت للقيام بها مختلف محافظات وولايات السلطنة من أفراد وفرق وأندية ومنظمات مجتمع مدني من ظفار إلى مسندم.

وتبقى الصور التي تم نشرها سواء في وسائل الإعلام التي لم تدخر جهدا في القيام بواجبها في هذا التلاحم الشعبي الكبير، أو تلك التي تم تداولها بكثرة على منصات التواصل الاجتماعي لقوافل الشاحنات المتجهة إلى الولايات المتأثرة، والتي كانت أكثر من أن تحصى، والأعداد الكبيرة التي زحفت دون دعوة تحمل معها المؤن وأدوات التنظيف والمساعدات المادية والعينية وفرق الإصلاح التي انتشرت في مختلف المدن والقرى، خير شاهد على أن هذا اليوم كان يوما مختلفا في عُمان، ومن النادر أن تجد مثيلًا له في العالم.

رغم جمال يوم الثامن من أكتوبر والصورة الرائعة التي ترسخت في أذهان العالم عن عظمة الشعب العماني وقدرته الهائلة على التلاحم أوقات الأزمات، ورغم كل ما بذل من جهود لإعادة الحياة الطبيعية وإصلاح أضرار الممتلكات العامة والخاصة في المناطق المتضررة، فإن العبء ما زال كبيرا. إذ يحتاج التعافي التام من آثار «شاهين» إلى استمرارية واستدامة حقيقية للهبة الشعبية والحكومية، فالأضرار كبيرة ولا يمكن علاجها في أيام قليلة، وتحتاج إلى مزيد من البذل والعطاء والتضحية، خاصة أن الخسائر المادية لا تقتصر على المنازل والممتلكات السكنية والتجارية فقط وإنما تشمل المركبات وقطاعات الإنشاء والمقاولات والزراعة وقوارب الصيد، والطرق، وأجزاء من البنية الأساسية.

صحيح أن جهود الجمعيات التطوعية في مختلف المحافظات وتبرعات الشركات والبنوك الكبرى كانت كبيرة، ولكن علينا أن نعلم بأن إجمالي عدد المتضررين في الولايات الثلاث الأكثر تضررا، وفقًا لتقرير أصدره المركز الوطني للإحصاء والمعلومات الأحد الماضي، يصل إلى 362 ألف شخص، منهم 79 ألفًا بولاية الخابورة، يشكلون 11 ألف أسرة، و184 ألف شخص بولاية السويق، يشكلون 25 ألف أسرة، و99 ألف شخص بولاية المصنعة، يشكلون 15 ألف أسرة.

ما أحوجنا إلى استثمار هذه اللحظة التاريخية المفعمة بالفخر والعزة واتخاذ خطوات عملية بناءة لمواجهة مخاطر الأعاصير والحالات المدارية الاستثنائية، والاستعداد الدائم للتعامل مع مخلفاتها وآثارها المدمرة بسرعة وفاعلية.

ولعل من أهم هذه الخطوات التوجيه السامي الذي ورد في خطاب صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم أمس الأول بإنشاء صندوق وطني لمواجهة الحالات الطارئة. وقد أصبح إنشاء مثل هذا الصندوق ضرورة ملحة في كل دول العالم تقريبا، وذلك في ضوء تأكيد الاستراتيجية الدولية للأمم المتحدة، للحد من الكوارث، على حقيقة أن عدد الكوارث المسجلة في العالم تضاعف في السنوات الأخيرة، من 200 إلى 400 كارثة في السنة الواحدة، وأن 9 من بين كل 10 من هذه الكوارث يتعلق بالمناخ. وتشير التوقعات الحالية المتعلقة بتغير المناخ إلى أن هذا الاتجاه آخذ في الاستمرار، وأن الظواهر الخطيرة المتعلقة بالطقس ستغدو أكثر تواترًا وأشد تقلبا. وهناك دول عربية ربما تكون أقل تعرضًا للكوارث الطبيعية، ومع ذلك بادرت إلى إقامة مثل هذه الصناديق، مثل المملكة المغربية التي لديها صندوقان، الأول الصندوق الوطني لمكافحة آثار الكوارث الطبيعية، من زلازل وفيضانات وانهيارات وحركة الأراضي وظواهر التعرية الساحلية وتسونامي، وصندوق التضامن ضد الوقائع الكارثية لتنظيم عملية تعويض المتضررين.

حفظ الله عمان آمنة مطمئنة على الدوام.