أضاميم : أوراق ضائعة من مخطوطات ورسائل مكتوبة بحبر الأشواق
السبت / 2 / ربيع الأول / 1443 هـ - 19:11 - السبت 9 أكتوبر 2021 19:11
محمد بن سليمان الحضرمي
أرجو أن تكون لي أكثر من إضمامة ثقافية، أنثر تفاصيلها لقارئ هذه المساحة، وعسى أن تجد في نفسه قبولاً، فلي مع جمع الأضاميم الورقية حياة، مأخوذاً بخيط رفيع يصلني بسنوات الطفولة، في تلك الأيام طيَّرت الريح ورقة متمزقة من مجلة استقرت أمامي، لتلتقطها يد الطفل السائر في دربه، وحاولتُ قراءة المكتوب فيها، فوجدتها نشيداً يحمل شكوى شاعر إلى أمه، عنوانه: (لِمَنْ أشْكِي، لِمِن أبْكي)، وبقي ذلك الأنين الشعري يسكن وجداني.
في مرحلة أخرى من عمري، استهواني جمع الأضاميم الورقية، المخبوءة في تشققات الجدران، أو المهملة في أرفف المنازل، فزرت بعض الحارات القديمة، وكنت أعثر على أوراق متناثرة، بعضها رسائل خاصة تلقاها والد من ولده، أو أرسلها ابن إلى أبيه، وبعضها عقود بيع وشراء، وعقود صداق، أو تمائم لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضراً، وغيرها مما يكتبه الناس، وينشغلون به في حياتهم، أو أصادفها في بعض الأمكنة المهجورة، مدسوسة داخل تشققات جدران الطين، أو مخبوءة بين الفجوات، وكأنها مكامن لحفظ الأسرار.
وكم أهدتني الصُّدْفة مخطوطاً، أو جزءاً من مخطوط، أو وثيقة تتضمن تواريخ ميلاد ووفيات، أو أوراقاً يشعل تعبيرها الوجدان بأشواق المسافرين إلى أحبتهم، حين يسطرونها في الرسائل، تسيل كقطرات الشَّهد، وكلما تقادم الزمن عليها تشتعل حُباً، ويفوح من سطورها أريج، يلهب المشاعر بكلماتها الرقيقة، حتى ملأتُ بتلك الأضاميم ملفات وأضابير، أحاول أن أصنع منها كتاباً مفيداً، فبعضها ورقات من مخطوطات مجهولة وضائعة، لم يتبقَّ منها إلا تلك الورقات التي وقعت في يدي، وقد تكون قصيدة لشاعر، ضاع ديوانه ولم يبق منه إلا أبيات تذكِّر بأنينه الشعري، انسلَّت تلك القصيدة من ديوانه، فضاع إلى الأبد، وبقيت تلك الورقة، يتيمة تذكِّر بفجيعة الفقدان، كنجم تائهٍ في مملكة السماء.
ومن بين ما حصلت عليه أغلفة كتب، كُتِبَ عليها أبيات شعرية رائقة، تعرَّفتُ على بعض من تلك الأبيات، وعرَّفتني بشعرائها، فهذان بيتان وجدتهما مكتوبان في غلاف كتاب قديم، لم يكونا منسوبين لأحد، وحين بحثت عن قائلهما في شبكة الإنترنت، عرفت أنهما للشيخ عبدالله بن الإمام سالم بن راشد الخروصي (ت: 1997م)، وبعد تفحُّصِهما عرفت أنهما مدوَّنين ضمن «معجم البابطين لشعراء العربية»، وصدقاً لم أكن أعلم أن الشيخ عبدالله بن الإمام سالم من ناظمي الشعر، حتى قرأت له هذه الأبيات، والتي عثرت عليها مصادفة، مكتوبة في غلاف قديم، يكدِّر تفاصيله التراب، والأبيات هي:
إذا العَيشُ مَرَّتْ بي هناكَ تصَدَّدَتْ
وَحَنَّتْ وترِمِي بي مَكاناً مُواليا
يُعرِّفُها ذاك المَكانَ فؤادُها
ولو جَهَلتْ مِثلي لنَصَّتْ ترامِيا
وهما بيتان من قصيدة طويلة للشيخ عبدالله، عرفت بعد بحث أن مطلعَها:
لِمَنْ هذهِ الأطلالُ دَرْسَاً عَوافِيا
تُقادِمُها مَرُّ الزَّمَانِ ليَاليا
وغيَّرَها نَسْجُ الرِّياحِ عَشِيَّةً
كمَا هَطَلَتْ فيها المُزُونُ غَوادِيا
وواضح من براعة استهلال المطلع، أنَّ الشاعر متأثر بقصيدة الإمام راشد بن سعيد اليحمدي عليه رحمة الله، حكم: (442 - 445هـ)، وهي قصيدة شهيرة، ألمحْتُ لها في كتابي «المشرب العذب»، ومطلعها:
لِمَنْ مَنزِلٌ قَفْرٌ تعَفَّتْ جَوانِبُهْ
وغيَّرَهُ مِنْ سَافِحِ القَطْرِ سَاكِبُهْ
كأنْ لمْ يَكنْ فيهِ مِنَ البِيضِ شادِنٌ
تُضَاحِكُهُ أترَابُهُ وتداعِبُهْ
ومما لفت انتباهي في بعض الأضاميم، توشِيَتُها بمفردات عُمانية، التي كان الكتَّاب الأوائل يستخدمونها، مثل مفردة: (مَال)، بمعنى (مُلْك)، فيكتبون: (هذا الكتاب مَال فلان بن فلان الفلاني»، أي: (مُلْك فلان). أما الغلاف الذي يتضمن بيتين للشيخ عبدالله، فعرفت أنه لمنظومة (مُلحَة الإِعْرَاب) في علم النحو، وقد وَثَّق مالك الكتاب شراءه في الغلاف بهذه العبارة: «هذه المُلحَة، مال فلان بن فلان، وقد اشتراها من سوق نزوى .. الخ».
ومن بين اللقى الرائعة، غلاف أحمر للمصحف الشريف، وفي أسفله هذه الكتابة: (مكتبة إسحاقية، جونا ماركيت كراجي)، عليه رسمة لنخلة سامقة، وفي باطن الغلاف كتَبَ صاحب المصحف هذه الأبيات، منسوبة للشاعر عبدالرحيم البرعي، المشهور بقصائده في الحب الإلهي والمديح النبوي:
مَالِي مَعَ اللهِ في الدَّارَيْنِ مِنْ سَبَبٍ
إلا الشَّهَادَةَ أخْفيْها وأبْدِيْها
وَسِيلَةٌ ليَ عِندَ اللهِ خَالِصَةٌ
عَنْ كُلِّ مَنْ لا يُؤدِّيها أُؤَدِّيْها
تِجَارَةٌ اشْتريْها غيرُ بَائِرَةٍ
تُضَاعِفُ الرِّبْحَ أضْعافاً لشَارِيْها
دَلَّالُهَا المُصْطفى واللهُ بائِعُها
مِمَّنْ يُحِبُّ وجِبريلٌ يُنادِيها
ويبدو أن بعض الناس في عمان كانت تصِلُهم الكتب من مصر، فهذا غلاف جميل لكتاب (سيرة عنترة بن شداد)، صدر عن المكتبة التجارية الكبرى، لصاحبها مصطفى محمد، وفي الغلاف يظهر فارسان عربيان، على ظهر فرسين، يتبارزان برمحين طويلين، وتكشف الأضاميم التي جمعتها، عن مكاتبات ورسائل يتبادلها الناس، تحمل شحنات من العاطفة، وأشواق المحبين إلى أحبتهم، وترد في ثنايا الرسائل عبارات نديَّة، بدءاً من المقدمات كهذه الجملة: «إلى حضرة المشايخ المحبين الكرام»، أو «إلى جناب حضرة المشايخ الكرام المحترمين الأصفياء»، أو «لحضرة الشيخ الفاضل الجليل الأعز المحب الوالد .. »، أو «إلى جناب الشيخ المحب الوالد.. »، أو «إلى جناب حضرة الوالد العزيز»، ثم يشرع الكاتب المرسل في تحية المرسول إليه، ويوجه له مثل هذه العبارات: «على الدوام، أدام الله بقائك في مدة الحياة، صدَّرت إليك الكتاب من بندر...، بها علم الخير والسرور، فنحن بخير وعافية، عساك مثلنا في العافية والسعادة والسلام».
وبين الأضاميم ورقات منتزعة من أسفار المتصوفة وأهل السلوك، تشِي برقائق من الأدعية، ذات اللغة الشاعرية المتوسِّلة، بخضوع كلي لله سبحانه وتعالى، وما أرق هذه الاستغاثة التي يناشد فيها المستغيث ربَّ العباد بقوله: «إلهي ما ألطفك بي، مع عظيم جهلي، وما أرحمك بي مع قبيح فعلي»، ويشرع الكاتب في شرح هذه الجملة بقوله: «شهود العبد لهذا المعنى، لعظيم يوجب له الحياء والانكسار، ليستحسن منه حينئذ الاعتراف».
ثم يشرع في جملة أخرى: «إلهي ما أقربك مني وما أبعدك عني»، فيأتي شرحها كالتالي: «شهود المؤلف شدة قرب الله منه، لما رأى من بعد الأشياء عنه، المشاهدة الأولى أوحت له ملازمة باب مولاه، وانقطاع طمعه عن كل ما سواه، والمشاهدة الثانية أوحت له التلطف في سؤال التقرب، والاستغناء عن طلب القريب».
ومن بين الأضاميم، أرجوزة لم أتوصل إلى اسم ناظمها، تتناول خلق الإنسان، منذ أن يكون نطفة تستقر في رحم إمه، وحتى يولد ويكبر، ثم تأخذه سكرة الشباب مع أصحابه، ويعيش يجمع المال حلاله وحرامه، وعُجُره وبُجُره، يقول الناظم:
أوَّلُ ما قدْ خُلِقَ الإنسانُ
مِنْ نُطفةٍ جاءَ بها البَيَانُ
ولَبِثَتْ حتى تَمَامِ الأجَلِ
في البَطنِ لا خَوْفٌ ولا مِنْ وَجَلِ
إلى انقِضَاءِ الأشْهُرِ المَعلومَة
أخرَجَها اللهُ إذنْ مَكرُومَة
وجَاءَها الرِّزقُ سَريعاً عاجِلا
مِنْ حِينهِ ليسَ يَكونُ آجِلا
وَبَعْدُ في المَهْدِ مَعَ الرِّضَاعِ
مُجَلَّلاً مَعْ أمِّهِ يا دَاعِي
وبين الأضاميم التي عثرت عليها، قصائد شعرية، وورقات من كتب قديمة، وصكوك بيع وشراء، وفض منازعات بين متخاصمين، وأوراق صَدَاق، وأدعية ومنظومات علمية وفقهية، وحين تجتمع معاً تشكل كشكولاً شخصياً، يمكن أن تكون له قيمة ثقافية، حاملاً لقارئه ورقات ضائعة، تجمعت معاً في إضبارة واحدة، لتقدم نفسها كتاباً بأقلام شتى، صاغته عبقريات من أزمنة وأمكنة مختلفة.
أرجو أن تكون لي أكثر من إضمامة ثقافية، أنثر تفاصيلها لقارئ هذه المساحة، وعسى أن تجد في نفسه قبولاً، فلي مع جمع الأضاميم الورقية حياة، مأخوذاً بخيط رفيع يصلني بسنوات الطفولة، في تلك الأيام طيَّرت الريح ورقة متمزقة من مجلة استقرت أمامي، لتلتقطها يد الطفل السائر في دربه، وحاولتُ قراءة المكتوب فيها، فوجدتها نشيداً يحمل شكوى شاعر إلى أمه، عنوانه: (لِمَنْ أشْكِي، لِمِن أبْكي)، وبقي ذلك الأنين الشعري يسكن وجداني.
في مرحلة أخرى من عمري، استهواني جمع الأضاميم الورقية، المخبوءة في تشققات الجدران، أو المهملة في أرفف المنازل، فزرت بعض الحارات القديمة، وكنت أعثر على أوراق متناثرة، بعضها رسائل خاصة تلقاها والد من ولده، أو أرسلها ابن إلى أبيه، وبعضها عقود بيع وشراء، وعقود صداق، أو تمائم لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضراً، وغيرها مما يكتبه الناس، وينشغلون به في حياتهم، أو أصادفها في بعض الأمكنة المهجورة، مدسوسة داخل تشققات جدران الطين، أو مخبوءة بين الفجوات، وكأنها مكامن لحفظ الأسرار.
وكم أهدتني الصُّدْفة مخطوطاً، أو جزءاً من مخطوط، أو وثيقة تتضمن تواريخ ميلاد ووفيات، أو أوراقاً يشعل تعبيرها الوجدان بأشواق المسافرين إلى أحبتهم، حين يسطرونها في الرسائل، تسيل كقطرات الشَّهد، وكلما تقادم الزمن عليها تشتعل حُباً، ويفوح من سطورها أريج، يلهب المشاعر بكلماتها الرقيقة، حتى ملأتُ بتلك الأضاميم ملفات وأضابير، أحاول أن أصنع منها كتاباً مفيداً، فبعضها ورقات من مخطوطات مجهولة وضائعة، لم يتبقَّ منها إلا تلك الورقات التي وقعت في يدي، وقد تكون قصيدة لشاعر، ضاع ديوانه ولم يبق منه إلا أبيات تذكِّر بأنينه الشعري، انسلَّت تلك القصيدة من ديوانه، فضاع إلى الأبد، وبقيت تلك الورقة، يتيمة تذكِّر بفجيعة الفقدان، كنجم تائهٍ في مملكة السماء.
ومن بين ما حصلت عليه أغلفة كتب، كُتِبَ عليها أبيات شعرية رائقة، تعرَّفتُ على بعض من تلك الأبيات، وعرَّفتني بشعرائها، فهذان بيتان وجدتهما مكتوبان في غلاف كتاب قديم، لم يكونا منسوبين لأحد، وحين بحثت عن قائلهما في شبكة الإنترنت، عرفت أنهما للشيخ عبدالله بن الإمام سالم بن راشد الخروصي (ت: 1997م)، وبعد تفحُّصِهما عرفت أنهما مدوَّنين ضمن «معجم البابطين لشعراء العربية»، وصدقاً لم أكن أعلم أن الشيخ عبدالله بن الإمام سالم من ناظمي الشعر، حتى قرأت له هذه الأبيات، والتي عثرت عليها مصادفة، مكتوبة في غلاف قديم، يكدِّر تفاصيله التراب، والأبيات هي:
إذا العَيشُ مَرَّتْ بي هناكَ تصَدَّدَتْ
وَحَنَّتْ وترِمِي بي مَكاناً مُواليا
يُعرِّفُها ذاك المَكانَ فؤادُها
ولو جَهَلتْ مِثلي لنَصَّتْ ترامِيا
وهما بيتان من قصيدة طويلة للشيخ عبدالله، عرفت بعد بحث أن مطلعَها:
لِمَنْ هذهِ الأطلالُ دَرْسَاً عَوافِيا
تُقادِمُها مَرُّ الزَّمَانِ ليَاليا
وغيَّرَها نَسْجُ الرِّياحِ عَشِيَّةً
كمَا هَطَلَتْ فيها المُزُونُ غَوادِيا
وواضح من براعة استهلال المطلع، أنَّ الشاعر متأثر بقصيدة الإمام راشد بن سعيد اليحمدي عليه رحمة الله، حكم: (442 - 445هـ)، وهي قصيدة شهيرة، ألمحْتُ لها في كتابي «المشرب العذب»، ومطلعها:
لِمَنْ مَنزِلٌ قَفْرٌ تعَفَّتْ جَوانِبُهْ
وغيَّرَهُ مِنْ سَافِحِ القَطْرِ سَاكِبُهْ
كأنْ لمْ يَكنْ فيهِ مِنَ البِيضِ شادِنٌ
تُضَاحِكُهُ أترَابُهُ وتداعِبُهْ
ومما لفت انتباهي في بعض الأضاميم، توشِيَتُها بمفردات عُمانية، التي كان الكتَّاب الأوائل يستخدمونها، مثل مفردة: (مَال)، بمعنى (مُلْك)، فيكتبون: (هذا الكتاب مَال فلان بن فلان الفلاني»، أي: (مُلْك فلان). أما الغلاف الذي يتضمن بيتين للشيخ عبدالله، فعرفت أنه لمنظومة (مُلحَة الإِعْرَاب) في علم النحو، وقد وَثَّق مالك الكتاب شراءه في الغلاف بهذه العبارة: «هذه المُلحَة، مال فلان بن فلان، وقد اشتراها من سوق نزوى .. الخ».
ومن بين اللقى الرائعة، غلاف أحمر للمصحف الشريف، وفي أسفله هذه الكتابة: (مكتبة إسحاقية، جونا ماركيت كراجي)، عليه رسمة لنخلة سامقة، وفي باطن الغلاف كتَبَ صاحب المصحف هذه الأبيات، منسوبة للشاعر عبدالرحيم البرعي، المشهور بقصائده في الحب الإلهي والمديح النبوي:
مَالِي مَعَ اللهِ في الدَّارَيْنِ مِنْ سَبَبٍ
إلا الشَّهَادَةَ أخْفيْها وأبْدِيْها
وَسِيلَةٌ ليَ عِندَ اللهِ خَالِصَةٌ
عَنْ كُلِّ مَنْ لا يُؤدِّيها أُؤَدِّيْها
تِجَارَةٌ اشْتريْها غيرُ بَائِرَةٍ
تُضَاعِفُ الرِّبْحَ أضْعافاً لشَارِيْها
دَلَّالُهَا المُصْطفى واللهُ بائِعُها
مِمَّنْ يُحِبُّ وجِبريلٌ يُنادِيها
ويبدو أن بعض الناس في عمان كانت تصِلُهم الكتب من مصر، فهذا غلاف جميل لكتاب (سيرة عنترة بن شداد)، صدر عن المكتبة التجارية الكبرى، لصاحبها مصطفى محمد، وفي الغلاف يظهر فارسان عربيان، على ظهر فرسين، يتبارزان برمحين طويلين، وتكشف الأضاميم التي جمعتها، عن مكاتبات ورسائل يتبادلها الناس، تحمل شحنات من العاطفة، وأشواق المحبين إلى أحبتهم، وترد في ثنايا الرسائل عبارات نديَّة، بدءاً من المقدمات كهذه الجملة: «إلى حضرة المشايخ المحبين الكرام»، أو «إلى جناب حضرة المشايخ الكرام المحترمين الأصفياء»، أو «لحضرة الشيخ الفاضل الجليل الأعز المحب الوالد .. »، أو «إلى جناب الشيخ المحب الوالد.. »، أو «إلى جناب حضرة الوالد العزيز»، ثم يشرع الكاتب المرسل في تحية المرسول إليه، ويوجه له مثل هذه العبارات: «على الدوام، أدام الله بقائك في مدة الحياة، صدَّرت إليك الكتاب من بندر...، بها علم الخير والسرور، فنحن بخير وعافية، عساك مثلنا في العافية والسعادة والسلام».
وبين الأضاميم ورقات منتزعة من أسفار المتصوفة وأهل السلوك، تشِي برقائق من الأدعية، ذات اللغة الشاعرية المتوسِّلة، بخضوع كلي لله سبحانه وتعالى، وما أرق هذه الاستغاثة التي يناشد فيها المستغيث ربَّ العباد بقوله: «إلهي ما ألطفك بي، مع عظيم جهلي، وما أرحمك بي مع قبيح فعلي»، ويشرع الكاتب في شرح هذه الجملة بقوله: «شهود العبد لهذا المعنى، لعظيم يوجب له الحياء والانكسار، ليستحسن منه حينئذ الاعتراف».
ثم يشرع في جملة أخرى: «إلهي ما أقربك مني وما أبعدك عني»، فيأتي شرحها كالتالي: «شهود المؤلف شدة قرب الله منه، لما رأى من بعد الأشياء عنه، المشاهدة الأولى أوحت له ملازمة باب مولاه، وانقطاع طمعه عن كل ما سواه، والمشاهدة الثانية أوحت له التلطف في سؤال التقرب، والاستغناء عن طلب القريب».
ومن بين الأضاميم، أرجوزة لم أتوصل إلى اسم ناظمها، تتناول خلق الإنسان، منذ أن يكون نطفة تستقر في رحم إمه، وحتى يولد ويكبر، ثم تأخذه سكرة الشباب مع أصحابه، ويعيش يجمع المال حلاله وحرامه، وعُجُره وبُجُره، يقول الناظم:
أوَّلُ ما قدْ خُلِقَ الإنسانُ
مِنْ نُطفةٍ جاءَ بها البَيَانُ
ولَبِثَتْ حتى تَمَامِ الأجَلِ
في البَطنِ لا خَوْفٌ ولا مِنْ وَجَلِ
إلى انقِضَاءِ الأشْهُرِ المَعلومَة
أخرَجَها اللهُ إذنْ مَكرُومَة
وجَاءَها الرِّزقُ سَريعاً عاجِلا
مِنْ حِينهِ ليسَ يَكونُ آجِلا
وَبَعْدُ في المَهْدِ مَعَ الرِّضَاعِ
مُجَلَّلاً مَعْ أمِّهِ يا دَاعِي
وبين الأضاميم التي عثرت عليها، قصائد شعرية، وورقات من كتب قديمة، وصكوك بيع وشراء، وفض منازعات بين متخاصمين، وأوراق صَدَاق، وأدعية ومنظومات علمية وفقهية، وحين تجتمع معاً تشكل كشكولاً شخصياً، يمكن أن تكون له قيمة ثقافية، حاملاً لقارئه ورقات ضائعة، تجمعت معاً في إضبارة واحدة، لتقدم نفسها كتاباً بأقلام شتى، صاغته عبقريات من أزمنة وأمكنة مختلفة.