أفكار وآراء

سبيلنا إلى استدامة ثقافية

يربط تقرير اللجنة العالمية للبيئة والتنمية للعام 1987 (مستقبلنا المشترك) بين التنمية والاستدامة باعتبار أن الأولى مصدر أساسي للثانية؛ والذي يُعد من أوائل التقارير الرسمية التي طالبت بالاستدامة للموارد الإنسانية والطبيعية وإنمائها من أجل ضمان مستقبل الموارد، وبالتالي التنبه إلى خطر الانقراض أو الانتهاء للعديد من الظواهر الإنسانية والأنواع الطبيعية. تبع ذلك مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية 1992، المعروف بـ (قمة الأرض)، والذي تم خلاله إطلاق (إعلان ريو) المتعلق بالبيئة والتنمية، وجدول أعمال القرن الواحد والعشرين، وهو خطة عالمية لتعزيز التنمية المستدامة، وانتهاءً بمؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2012 (المستقبل الذي نصبو إليه)؛ الذي يُقر بأن «كافة الثقافات والحضارات يمكنها أن تسهم في التنمية المستدامة...»- بحسب تقرير المؤتمر - .

إن تلك الجهود التي تأسست على المستوى العالمي من أجل ترسيخ مفهوم الاستدامة، وقدرتها على الحفاظ على الموارد الطبيعية والإنسانية، تحمل على عاتقها إمكانات المحافظة على استمرارية أنماط الحياة الأساسية من ناحية، وقدرة الإنسان على تنمية مجتمعه وتطويره، وإيجاد أنماط جديدة للإنتاج تضمن التوسع والتطور من ناحية أخرى؛ ولهذا فإن الاستدامة وتنميتها مرتبطة بالسياسات التي تتخذها الدول من أجل تعزيز تلك الاستدامة وتنمية القطاعات الإنتاجية وتوسعتها، بما يؤسس علاقات متنامية بين أنماط الإنتاج وأشكاله في القطاعات الإنمائية، والغايات الكلية لتنمية الإنسان وبقائه وازدهاره.

لقد ارتبطت الاستدامة منذ بدء الحديث عنها اصطلاحا بالبيئة الحيوية (الإنسان، والماء، والزراعة والصيد والمناخ، والتنوع الحيوي، وغير ذلك)، إلا أن تطور استخدامها شمل أنماط التنمية كلها؛ بحيث توجَّب على العالم إعداد خطط تنموية (مستدامة)، قادرة على ضمان الحفاظ على الموارد، وتنميتها لتكون رافدا للمستقبل. ولهذا فإن قدرة المجتمع على تنمية موارده وتطويرها يُعد ضمانا لاستدامتها، وبالتالي قدرتها على التصدى للمتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية.

ولأن الثقافة تُعد اليوم واحدا من القطاعات الأساسية في التنمية فإن استدامتها هدف من الأهداف الإنمائية التي تسعى إليها الدول، ولهذا فإن ثراء هذا القطاع يمثل قوة تنموية للاستدامة؛ فالتنوع الثقافي وأشكال التعبير، والفنون المتعددة، والتراث المادي وغير المادي والموارد الوراثية بأنواعها المختلفة، تشكل جميعها عناصر للتنمية الثقافية التي تقودها المؤسسات الثقافية والمبدعون بكافة أطيافهم المعرفية.

ولهذا فإن (إدارة الموارد الثقافية)، تُشكل حجر الأساس في استدامة الثقافة؛ ذلك لأن أنماط إدارة هذه الموارد هي المسؤولة عن قدرة الثقافة على المحافظة على توازنها بين صون الأصول وحمايتها من ناحية، وتنميتها وتطويرها والاستثمار فيها من ناحية أخرى. الأمر الذي يجعل من الموارد الثقافية حاضنة أساسية للتنمية واستدامتها؛ فالتنوع الثقافي والبيولوجي وما يرتبط بهما من معارف تقليدية وصناعات يعد من أهم وسائل التصدي لتحديات البيئة، وما يواجهها من إشكالات خاصة فيما نشهده من تنبؤ بعصر (الإنثروبوسين)؛ أي عصر سطوة الإنسان على البيئة.

إن تنمية أنظمة إدارة الموارد الثقافية بما يضمن الحماية والتطوير، يُؤسس الأُطر القانونية والمؤسسية لآليات الحفاظ على تلك الموارد، وآفاق تطويرها، ولهذا فإن تلك الأنظمة لابد أن تقوم على التخطيط والتنفيذ ثم المتابعة بما يضمن قدرة تلك الموارد على تحقيق أهدافها التنموية الحالية والمستقبلية، لإنتاج مخرجات قادرة على الاستدامة وفق مؤشرات إنمائية ممتدة نحو المستقبل.

ولأن إدارة الموارد الثقافية لها تلك الإمكانات؛ فإنها تستطيع تحقيق أهداف التنمية المستدامة ضمن تأسيس إطار التنمية الثقافية وإدارة مواردها، لذا فإن الطموحات الوطنية التي تطرحها (الاستراتيجية الثقافية) التي تم إطلاقها مؤخرا، تجعل من إمكانات تنمية إدارة الموارد الثقافية ضمن آفاق التنمية الوطنية الشاملة، قادرة على تحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وليس الثقافية وحسب؛ ذلك لأن تنوُّع المجالات التي تناولتها (الاستراتيجية) وشموليتها، يجعل منها حاضنة لتلك المجلات الإنمائية ضمن الأنماط الثقافية المعرفية المختلفة.

ولهذا فإن تنفيذ الاستراتيجية عليه أن يقوم على تنمية (إدارة) (الموارد الثقافية)، وليس على التنمية الثقافية عموما؛ فالكيفية التي تُدار من خلالها تلك المجالات التي أطلقت عليها الاستراتيجية (المشاريع الاستراتيجية للخطة التنفيذية)، لا يمكن أن تكون وفق رؤية عامة، وإنما وفق رؤية إدارة الموارد الثقافية التي تأسست ضمن آفاق التنمية الوطنية التي نُفذِت خلال العقود الماضية، فهي مشروعات طموحة، قادرة على المضي نحو الاستدامة إذا ما قُدِّر لها أن تتأسس وفق آفاق إدارة تنموية إبداعية.

ولعل أحد أهم مرتكزات الاستدامة هو التشغيل والاستثمار في الموارد الثقافية اعتمادًا على الإبداع والابتكار؛ فالمؤسسات الثقافية الرسمية وغير الرسمية عليها أن تؤسس ضمن آفاق إدارتها أجيالا من المبدعين القادرين على (إدارة الموارد الثقافية)، لا أن يعتمد المبدع عليها في تنفيذ مشروعاته الإبداعية؛ ذلك لأن أنماط الإدارة لهذه الموارد تقوم على قدرة المبدع على إدارة إبداعه وابتكاره ضمن مجموعة من السياسات والأطر القانونية التي تنظمها المؤسسة.

وعليه فإن العديد من المشروعات التي طرحتها (الاستراتيجية الثقافية)، هي بحسب تصورنا من مهام المؤسسة الثقافية ذات البُعد المجتمعي (الأندية والجمعيات)، وبعضها من مهام المبدع نفسه، فمن غير المنصف بعد خمسة عقود من التنمية، أن نركن إلى المؤسسة الثقافية الرسمية لتنفيذ تلك المشروعات؛ فالأصل أن تعمل مؤسسات المجتمع المدني المعنية بالثقافة على مشروعاتها بناء على الأولويات الوطنية من ناحية واختصاصاتها من ناحية أخرى، بما يضمن تحقيق أهداف الاستراتيجية.

إن مسؤولية المؤسسات الرسمية المعنية بالثقافة ضمن إدارة الموارد الثقافية تتحدد في الأطر القانونية والتشريعية، والسياسات التي تضمن حريات التعبير، وتيسير العمل الإبداعي بأنواعه وأشكاله المختلفة، وتهيئة البيئة المناسبة لمزاولة الأنماط الثقافية الإبداعية، إضافة إلى تسهيل آفاق الاستثمار خاصة في المحافظات بوصفها حاضنات ثقافية وحضارية.

قدَّم (تقرير عن الاقتصاد الإبداعي 2013) الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)؛ تجربة في إدارة الموارد الثقافية، وقدرة تلك الإدارة على بناء علاقات إنمائية مستدامة بين القطاعات التي تربط بينها الثقافة؛ حيث يذكر التقرير أن مجموعة (واندا التجارية) في بكين بدأت الاستثمار في عام 2010، في مجال (التنمية الحضرية القائمة على الثقافة)، فخصصت رأس مال قدره (31) مليار يوان، بدخل سنوي يصل إلى (20.8) مليون يوان، لتكوين مجموعة تجارية للصناعات الثقافية؛ وهي من الشركات التي تراعي البيئة، وتوِّلد وظائف ثابتة طويلة الأمد تصل إلى (30.000) وظيفة، كما توَلِد إيرادات على صعيد الضرائب تصل إلى ما يزيد على مليار يوان.

يذكر التقرير أن الوظائف في قطاع الثقافة «يتيح بيئة أفضل للعمل، ودخلا أعلى، وتشجع المساواة بين الجنسين»، ولهذا فإنها تُسهم في تعزيز المساواة وتحقيق الانسجام الحضري على المستوى الاجتماعي، وبالتالي فإن النموذج الذي تقدمته (مجموعة واندا التجارية)، واحد من تلك النماذج المتعددة لتنمية إدارة الموارد الثقافية بما يضمن تنمية القطاعات الإنمائية الأخرى واستدامتها.

ولهذا فإننا نعوِّل على إدارة (الموارد الثقافية) مع وجود (الاستراتيجية الثقافية) لضمان تعزيز الأنماط الإبداعية من ناحية، وقدرتها على المساهمة في التنمية من ناحية أخرى، ولن يتحقق ذلك سوى بإيجاد بيئة حاضنة للتنوع الإبداعي وإطار قانوني وتشريعي يضمن سهولة العمل وتكامله، وضمان استدامة التنوع الثقافي في السلطنة.