أفكار وآراء

الأسرة والعقد الاجتماعي للبيانات

تبرز أطروحة «العقد الاجتماعي من أجل البيانات» كاتجاهٍ ملح في أدبيات التنمية خصوصًا بعد جائحة كوفيد 19، كما جاء بها تقرير البنك الدولي: «تقرير عن التنمية في العالم 2021: البيانات من أجل حياة أفضل»، والذي يركز على الآليات التي يمكن من خلالها تسخير البيانات وتوظيفها لتحقيق حياة أفضل للأطراف الثلاثة، الحكومات: «لتحسين البرامج والسياسات وتوجيه الموارد النادرة إلى السكان والمناطق المهمشة»، القطاع الخاص لحفز النشاط الاقتصادي والتجارة الدولية، والأفراد لاتخاذ قرارات حياتية أفضل والتمكين من المشاركة في أنظمة الحكم الرشيد. والواقع الذي أبانت عنه جائحة كورونا (كوفيد 19) إلى جانب تداعياتها السياسية والصحية والاقتصادية والمجتمعية هو أيضًا واقع أزمة في توجيه البيانات لخدمة أغراض التنمية، واتخاذ التدابير والإجراءات القائمة على الأدلة، وتحسين توجيه السياسات بناء على المعطى البياناتي الدقيق والمتدفق دون قيود أو أعطاب في دورة صنع البيانات وتوظيفها.

بالإسقاط على سياق تنموي بالغ الأهمية في عُمان وهو الأسرة، يقدم المسح الأسري الشامل (2015 - 2016) نموذجًا أوليًا لنوعية البيانات التي يمكن أن تُسخر في خدمة أغراض التنمية، فهو يضع خصائص الأسر المعيشية ومصادر دخولها والنشاط الاقتصادي لأفرادها وأنماط استهلاكها بالإضافة إلى الخصائص العامة لأفرادها ومستوى إسهامها في قوة العمل وأوضاعها الصحية موضع الرصد والتحليل، ولكن هل يحقق ذلك الغاية من بناء عقد اجتماعي من أجل البيانات؟، في الواقع فإن المسألة يجب أن تتجاوز مسألة البيانات الموسمية، إلى ما يعرف بـ «بيانات المقاصد العامة»، وهي البيانات التي تتدفق باستمرار في أطراف مختلفة في سياق الدولة، وتحكمها عوامل (الشفافية - الإتاحة - التغذية المستمرة - الربط المباشرة بصنع السياسات العامة - الجودة المعتمدة على حسن التوقيت والدقة والوضوح)، هذه البيانات بتدفقها تمكن من رصد التغيرات والتحولات التي تطرأ على واقع الأسرة مثلًا، وبالتالي تتيح المجال لكل مؤسسة ذات صلة، أو للباحثين المعنيين، أو لراسمي السياسات تفسير مصادر تلك التحولات وأثارها وبناها الهيكلية وأسبابها الجذرية وبالتالي توجيه السياسات الأكثر مناسبة والتشريعات الأكثر اتساقًا لاحتواء التحولات الطارئة على الأسرة. ولا زلنا في هذا الصدد نكرر الدعوة بإيجاد «نظام وطني لبيانات الأسرة»، يعنى بشكل تحديثي ومستمر بتوليد بيانات متعلقة بأحوال الأسرة، ويدعم صنع السياسات الموجهة لها، ويحقق منفعة اقتصادية يمكن البناء عليها من خلال تلك البيانات، ويسهم بطريقة مباشرة في إشراك أطراف المجتمع في مناقشة المسألة الأسرية على الدوام كالمجتمع المدني، والباحثين الأكاديميين، والمؤسسات الخاصة المعنية بقطاع الأسرة.

إن المناقشات الجارية حول المشكلات الأسرية على سبيل المثال كالزواج والطلاق والإعالة وقدرة الأسر على استدامة الإعالة، ومشكلات السكنى، وتحولات الثقافة التربوية، وأنماط التنشئة المتغيرة وسواها، لا تزال تبنى غالبًا على المشاهدات العيانية، أو على العينات غير الممثلة، وإن إطلاق الأحكام حول واقع الأسرة، والتنبه إلى جذور مشكلاتها، وفهم التحولات الطارئة عليها، لا يمكن أن يجري دونما تأسيس نظام وطني متكامل لبيانات الأسرة، ولسنا هنا في صدد تفصيل وتحليل تقانة هذا النظام وآلية تصميمه، بالقدر الذي نهتم فيه بالأسس التي يبنى عليها هذا النظام وكيف يمكن توجيهه، فالنظام في حد ذاته لن يكون فاعلًا دون وجود سياسة أسرية وطنية، تعنى هذه السياسات بالإجابة على أسئلة: ماذا نريد للأسرة في عُمان؟ وكيف نتخير التدخلات التنموية المناسبة لواقع الأسرة؟ وكيف يمكن ضبط تناغم السياسات العامة لتكون حافظة ومستديمة للأسرة ومحافظة على ضبط توازنها الاجتماعي؟ وكيف يمكن أن تخلق الأسرة مساهمة نوعية في إطار النموذج التنموي الجديد الذي تسير إليه الدولة؟ إلى جانب السؤال المحوري الذي يشكل صلب أي سياسة أسرية وهو كيف يمكن للأسرة أن تؤدي دورًا مركزيًا في حفظ ثقافة الأجيال وضبط الانتقال الجيلي المتسق وغير الراديكالي؟

إذن ما علاقة وجود هذه السياسة بالنظام الوطني لبيانات الأسرة، وعلاقة المفردتين بالعقد الاجتماعي من أجل البيانات، ستمكن السياسة من تحديد ثغرات بيانات المقاصد العامة في مجال الأسرة، وستتيح موجهات أساسية لنوعية وطبيعة البيانات التي يحتاجها صانع السياسات بشكل متدفق ودوري حول أوضاع الأسرة، وبالتالي هي ستوجه شكل النظام الوطني لبيانات الأسرة، وستمكن هذه السياسة كذلك من ضبط منظومة السياسات العامة الموجهة للأسرة، بمعنى تحديد ماهية السياسات التي يجب أن تبنى على أساس استهداف الأسرة، وماهية السياسات التي يجب أن تبنى على أساس استهداف الأفراد أو المجموعات الاجتماعية، ولعل الجدل الذي حدث إزاء سياسات الإسكان الجديدة ونظم الدعم الوطني للطاقة والكهرباء والمياه واعتمادها على أساس استهداف الأسرة، بينما استهداف نظام الأمان الوظيفي للأفراد، وغيرها من السياسات نموذجًا لهذا التأشكل، ففي تقديرنا ستكون السياسة الأسرية معنية بشكل أساس بمعرفة نمط التدخلات التنموية التي تسترعي تعزيز التضامن والتماسك الأسري من تلك التدخلات التي يكون محورها الفرد واستقلاله وبناءه وصوغه في إطار منظومة التنمية الوطنية. كما ستعنى السياسة الأسرية كذلك بتحديد المسؤوليات على المؤسسات الوطنية والمجتمعية تجاه القضايا المحورية الرئيسة للأسرة، وآليات التكامل لكبح جماح جذور بعض المشكلات الناشئة في المحيط الأسري من خلال معالجة التجذرات الاقتصادية والثقافية غير المباشرة المولدة لها.

سيعمل هذا التكامل في التعامل مع القضية الأسرية في تحقيق الأعمدة الثلاثة التي تم تحديدها للعقد الاجتماعي من أجل البيانات وهي (القيمة والثقة والإنصاف)، فالقيمة في تقديرنا ستتحقق من خلال أن هذه البيانات التي سيتم تولديها سيتمكن المجتمع والدولة من توظيفها لأغراض الفهم والتدبير في سياقات مختلفة، والثقة ستحقق من خلال أن السياسات التي سيتم تدبيرها ستكون مبنية بدرجة أساس على الأدلة وأصحاب المصلحة مشركون بشكل شفاف في بنائها وبلورتها، والانصاف سيتحقق من خلال أن منافع تلك البيانات ستكون عائدة على الجميع، الدولة في حسن تدبير السياسات العامة، المجتمع الأكاديمي لمراكمة البحث والفهم، الإعلام لنقاش أكثر وعيًا ومنهجية للقضايا، والمجتمع المدني في سبيل بلورة أجندة عمل أكثر اتساقًا مع أولويات المجتمع وقضاياه.