أفكار وآراء

استراتيجية الثقافة مكسب وطني

تقدم (مؤشرات الثقافة 2030) التي أطلقتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) إطارا يهدف إلى «قياس ورصد مدى تقدم مساهمة الثقافة في تحقيق أهداف وغايات خطة التنمية المستدامة لعام 2030» - بحسب كتيب المؤشرات -، وهي بذلك تتكامل مع المؤشرات العالمية (الاجتماعية والاقتصادية، والبيئية) لتحقيق الأهداف المنشودة.

ولهذا فإن هذه المؤشرات تبرز الدور التنموي الذي تسهم به الثقافة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة ضمن القطاعات الإنمائية كلها؛ فدور الثقافة لا يمكن رصده سوى من خلال إدماج وإشراك القطاعات التنموية الأخرى، ولعل هذا ما دفع باليونسكو إلى متابعة مدى تقدم مساهمة الثقافة بشكل خاص في خطة التنمية المستدامة؛ فالمتتبع لأهداف الخطة السبعة عشر يجد أنه لا يوجد هدف خاص أو مستقل يُعنى بالثقافة، من منطلق أنها ركيزة أساسية في الأهداف التنموية كلها.

ولأن الثقافة ركيزة تنموية تشاركية، فإن اليونسكو في تحديد (الأبعاد المواضيعية) لمؤشرات الثقافة 2030 قد تبنت أبعادا أربعة هي (البيئة والقدرة على الصمود)، و(الازدهار وسبل الرزق)، و(المعارف والمهارات)، و(الاندماج والمشاركة). وهذه الأبعاد تعتمد على الشمولية في التقييم؛ حيث تضم مجموعة من الأبعاد المعرفية والبيانات الكمية والنوعية لتحديد المسارات المستقبلية للثقافة من ناحية، ومساهمتها التنموية من ناحية أخرى، لضمان سيرورة التنمية الثقافية في المجتمعات، وقدرتها على الاندماج مع القطاعات الأخرى لتحقيق التكامل التنموي للدول.

ولقد تأسست تلك المؤشرات على بناء استراتيجي قائم على دعوة الدول على إعداد استراتيجية خاصة بالتنمية الثقافية، بُغية ضمان الحقوق الثقافية للجميع، وتنمية الصناعات الإبداعية والابتكار في المنتجات المحلية للحفاظ على التنوع الثقافي وإثرائه، إضافة إلى تنمية المبدعين وتمكينهم، ليكون للثقافة الدور الفاعل في منظومة التنمية والبيئة المستدامة (الناس، والكوكب، والازدهار)، وملبية لشَرْطيها (السلام والشراكات).

ولذلك فإن إطلاق السلطنة لـ (استراتيجية الثقافة 2021-2040) يأتي ضمن تلك المنظومة التنموية للثقافة، ودورها الفاعل في المجتمع؛ فهي خطة وطنية منظِّمة لقطاع الثقافة، مُنطلقة من القيم الوطنية الثابتة، ومتطلعة نحو المستقبل التنموي الذي تنشده رؤية عمان 2040، ولهذا فإن الأهداف الاستراتيجية التي تأسست عليها تتمركز على (التهيئة والتأصيل)، و(التعزيز والتأهيل)، و(الدعم والتمكين). ويأتي ذلك كله بناء على آليات قياس ومؤشرات مرتبطة بالرؤية من ناحية وبرؤى تنموية إقليمية (الاستراتيجية الثقافية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية)، ورؤى دولية (خطة التنمية المستدامة 2030).

إن (استراتيجية الثقافة) بوصفها رُؤية قطاعية تُقدم خطة طموحة للتنمية الثقافية في عُمان؛ ذلك لأنها من خلال أهدافها ومشروعاتها التنفيذية تُحدد الأُطر العامة للمحاور وآليات التنفيذ، التي ستعتمد بالضرورة على المؤسسات المعنية والأفراد جميعا. ولهذا فإنها تعتمد في سبيل تحقيق أهدافها على مجموعة من وسائل التقييم والمتابعة وفقا لمؤشرات محددة للمشروعات التنموية الخاصة بالخطة التنفيذية.

ولأن (استراتيجية الثقافة) تَبتغي في رسالتها (تنظيم العمل الثقافي وتطويره) فإنها تُعد مكسبا وطنيا قبل كل شيء؛ ذلك لأن تنظيم العمل الثقافي وفق رؤية طموحة منفتحة هو الغاية الأسمى لهذا القطاع الذي يتميز بتشعبه وتنوعه وارتباطه وتداخله مع القطاعات التنموية المختلفة؛ وهذه الغاية تقود إلى حل العديد من الإشكالات المتعلقة بغياب الاختصاص والتركيز على أنواع ثقافية دون غيرها، إضافة إلى تداخل المشروعات وتكرارها. الأمر الذي يُحتم تحديد الاختصاصات وتكامل الأدوار بين المؤسسات ليشكل الفعل الثقافي دائرة تنموية متكاملة وداعمة للفعل الثقافي.

إن الاستراتيجية تُقدم رؤية طموحة للتنمية الثقافية في عُمان من حيث الشمولية والآفاق، يتضح ذلك من خلال مشروعات الخطة التنفيذية الطامحة في مجالات الثقافة كلها بدءا بإقامة الفعاليات بأنواعها، و دعم الطباعة والنشر والترجمة، ومشروعات صون التراث الثقافي، وتعزيز الصناعات الثقافية، وتأهيل المبدعين، وتقديم الخدمات الإلكترونية وتعزيز المحتوى الثقافي الرقمي، ثم التشريعات والقوانين، وحتى إنشاء البنية الأساسية للمشروعات الثقافية. وهي مشروعات تُسهم مباشرة في دعم قطاع الثقافة بشكل عام، وتعزز التوجهات الوطنية الإنمائية في هذا القطاع.

والحال أن قطاع الثقافة في السلطنة مرَّ خلال العقود الخمسة الماضية بالعديد من المتغيرات والتحولات التنموية التي أثَّرت في مساراته، وطوَّرت دوره التنموي، حتى أصبح محورا خاصا في رؤية عُمان 2040. الأمر الذي يكشف عن قدرة هذا القطاع باعتباره ركيزة تنموية وأثره الاجتماعي والاقتصادي والبيئي. ولهذا فإن تأسيس استراتيجية الثقافة على آفاق هذا التراكم المعرفي للثقافة العمانية وتطورها من ناحية، وآفاق رؤية عمان 2040 ضمن محاورها كلها من ناحية ثانية، سيؤدي بنا إلى مبدأ (إدماج الثقافة في التنمية)، وفق منظور إنمائي واسع الآفاق؛ ولهذا فإن ما ركَّزت عليه الاستراتيجية من ارتباط بينها وبين الرؤية وخطة التنمية المستدامة عليه أن يكون بارزا في المشروعات الإنمائية لكي يتضح الأفق المستقبلي الذي تنشده ضمن فكر التطوير والإنماء الإبداعي.

إن الاستراتيجية تجعل من المشروعات التنفيذية شاملة لجوانب الثقافة كلها؛ وعلى الرغم من أهمية تلك المشروعات، إلاَّ أنه من المؤول أن يتم ضمن الخطة التنفيذية تخصيص مجالات ثقافية إنمائية لكل خمس سنوات أو حتى عشر للتركيز عليها وفق أولويات وطنية ناتجة من دراسة الواقع والتراكم المعرفي والحضاري لما تم إنجازه في مراحل النهضة منذ سبعينيات القرن الماضي، وبناء على الاحتياجات الوطنية للمبدعين، وبالشراكة مع المؤسسات الثقافية والمبدعين والمهتمين بالشأن الثقافي، ليتم العمل وفق رؤية إنمائية واضحة؛ ذلك لأن العمل في المرحلة القادمة يتطلب الاختصاص لا العمومية.

ولقد قدمت (استراتيجية الثقافة) إطارا عاما للعلاقات التي تربط بين أهدافها الطامحة وأهداف رؤية عُمان 2040، بُغية تحقيق ذلك الأفق التنموي المتكامل مع القطاعات الإنمائية المختلفة، لتكوِّن بذلك قاعدة للشراكة والتفاعل والتواصل التنموي على مستوى القطاعات الإنمائية، ولهذا فإن عليها على مستوى الخطط التنفيذية والتشغيلية، التكامل مع مجموعة من الاستراتيجيات الوطنية خاصة (الاستراتيجية الوطنية للتعليم 2040)، و(الاستراتيجية الوطنية للابتكار)، و(استراتيجية عمان الرقمية) وغيرها من الرؤى الوطنية التي تُشكل الثقافة ركيزتها الأساسية؛ فهذا التكامل يُعد أساس لتحقيق الأهداف المشتركة للقطاعات عامة، والأهداف القطاعية للثقافة خاصة.

فإذا كانت الشراكة ضرورة أساسية للتنمية الوطنية الثقافية، فإنها تشكل الإطار المعياري لقياس الإبداع والابتكار في الصناعات الثقافة والإبداعية؛ ذلك لأن قطاع الثقافة - سواء أكان على المستوى الإداري أو الإبداعي الفني - لا يمكنه تفعيل هذا القطاع دون شراكة فاعلة من القطاعات التنموية المعنية كالتجارة والصناعة والسياحة، وقطاعات الاستثمار عامة. ولهذا فإن بناء شراكات وتوثيق تعاون بين المؤسسات الثقافية والمؤسسات الصناعية والتجارية سيضمن الإدارة الفاعلة للأصول الثقافية، وإنتاج صناعات ثقافية على مستوى محلي وإقليمي قادر على المنافسة. وفي تحقيق مثل تلك الشراكات علينا النظر إلى القطاع الخاص في السلطنة باعتباره شريكا تنمويا في تحقيق الأهداف وليس داعما ماليا وحسب؛ ذلك لأن الاستثمار في الثقافات يعني إنتاجا ثقافيا قادرا على المساهمة في دخل الفرد أو المؤسسة وبالتالي الدخل الوطني.

والأمر يصبح أكثر إلحاحا في العلاقة الوطيدة التي تجمع الثقافة بقطاع التعليم بمراحله المختلفة، وقدرة هذين القطاعين على التكامل لتحقيق الأهداف الأصيلة التي تجمعهما سواء على مستوى الهُوية والمواطنة، وصولا إلى مستويات الإبداع والابتكار. فالثقافة لا يمكن أن تتحقق سوى باعتبارها فعلا مجتمعيا إبداعيا، وعلى ذلك عليها أن تترسخ بناء على الأولويات الوطنية.