أعمدة

الهروب بالملعقة

 
ليس هذا مقالًا عن السجن أو السجناء أو الهروب، بل عن الملعقة التي لم تأخذ حقها في المديح لدينا، مقارنة بشقيقتها السكين، تلك التي يحلو لأي حكيم أو مدعي حكمة أن يستشهد بالكليشيه النمطي عنها في تبيان تعدد استعمالاتها في الشر والخير: «تستطيع أن تقشّر بها برتقالة، وتستطيع أيضًا أن تقتل بها رجلا»، أما الملعقة المسكينة فظلتْ لا تُذكر إلا في مائدة الطعام، وإن ذُكِرتْ في سواها فلأمرٍ سلبي، مثلما فعل محمود درويش عندما أراد أن يهجو نقاده الذين يودون حبسه في «القصيدة ذاتها، والاستعارة ذاتها» فوصفهم بأنهم يحركون المعنى بملعقة الحساء.

مناسبة هذا الحديث هو النبأ الأشبه بالقنبلة الذي طالعتنا به وكالات الأنباء العالمية صباح الاثنين الماضي عن هروب ستة أسرى فلسطينيين من سجن جلبوع الإسرائيلي شديد التحصين، بمساعدة... ملعقة!. نعم، ملعقة صغيرة تمردتْ على دورها المكرور في المائدة واضطلعتْ بدورٍ أصعب بكثير مما فُرِضَ عليها سابقًا لدرجة أن البعض لم يصدق ما فعلتْه حين علم أنها حفرتْ نفقًا طوله خمسة وعشرون مترًا على مدى عام كامل، مُثبتةً أن إرادة الحرية لا يمكن أن تقف في طريقها عقبة. أربعة من هؤلاء الستة كانوا محكومًا عليهم بالسجن مدى الحياة، وأحدهم أمضى ربع قرن في سجون الاحتلال، ولا شك أن علاقتهم بالملعقة توطدتْ خلال هذه السنة بعد أن عرفوا أنها سبيلهم الوحيد للخلاص، ولسان حالهم عبارة الطبيب لمريضه في رواية «الشحاذ» لنجيب محفوظ: «ما أجمل أن تحلّ مشاكلنا الخطيرة بحبة بعد الأكل، أو ملعقة قبل النوم».

في طفولتنا كنا نشاهد المسلسل الكارتوني «السيدة معلقة» بانبهار شديد، ربما لأنها كانت المرة الأولى التي نقف فيها على أهمية أداة صغيرة من أدوات المائدة كنا نظنها تستخدم فقط لشرب الشوربة أو الحساء، فإذا بها تملك أيضًا قدرات سحرية خارقة تتمثل في تصغير حجم السيدة التي ترتديها في عنقها حتى تصل إلى حجم فأر صغير، مما يسمح لها بالحديث إلى الحيوانات وسماع حكاياتها. كان ذلك خيال كاتب نرويجي اسمه ألف برويسن، صاحب الرواية المقتبس منها المسلسل، وربما لأنه خيال، لم نأخذه –حين كبرنا- على محمل الجد، وظلت الملعقة مجرد أداة من أدوات المائدة.

لكن الواقع هو الذي يرفد الخيال أحيانًا بما يصبو إليه من أعاجيب، ببساطة لأنه أكثر خياليةً منه، فمن يشاهد فيلم «هروب رجل» A Man Escaped للمخرج الفرنسي روبير بريسون (الذي ترجم أديبنا العُماني عبدالله حبيب إلى العربية كتابَه «ملاحظات في السينماتوغرافيا») سيظن أنه من نسج خيال المخرج الذي هو أيضًا كاتب الفيلم، بينما في الحقيقة لم يكن إلا تجسيدًا لقصة واقعية حدثت في الحرب العالمية الثانية لضابط فرنسي اسمه أندريه ديفيجني تمكن من الهرب من سجن المخابرات الألمانية في حصن مونتلوك في مدينة ليون الفرنسية باستخدام ملعقة لرفع الألواح الخشبية في أرضية زنزانته والهروب إلى الفناء ومن ثم إلى خارج السجن بعد تسلق الجدار الخارجي.

هذا الهرب الذي تساهم فيه ملعقة سيتكرر بعد أكثر من أربعين عاما في حكاية المغربية مليكة أوفقير وأسرتها التي اعتُقِلت لأسباب سياسية، وزُجَّ بها لسنين طويلة في أحد السجون السرية في الصحراء الكبرى. تروي أوفقير في كتابها الشهير «السجينة» أن محاولات الهروب من هذا السجن بدأت في السابع والعشرين من يناير عام 1987 – بعد مضي خمسة عشر عاما على فقدانها الحرية - بنزع بلاطات إحدى الزنازين المظلمة «وذلك بملعقة، ومقبض سكين، وغطاء علبة سردين، وقضيب حديد» انتزعتْه مليكة وإخوتها من أسرّتهم، وبعد عدة أشهر كانت قد نجحت وإخوتها في الهروب.

هروب آخر «بالملعقة» حدث عام 2003، حين نجح ثلاثة أسرى فلسطينيين (هم أمجد الديك، ورياض خليفة، وخالد شنايطة) في حفر نفق في سجن عوفر الإسرائيلي بواسطة الملاعق أيضًا طوله 15 مترا، وهربوا منه ليختفوا عن الأنظار سبعة أشهر عاشوا فيها مطارَدين، قبل أن يُقبض على اثنين منهم من جديد، ويُغتال الثالث.

كل ما يخص مديح الملعقة له علاقة – كما نلاحظ - بالحرية والهروب من السجون، أما ما عدا هذا فإن للملعقة للأسف حضورًا سلبيًّا في الأدب والفن والحكايات التراثية والأمثال الشعبية، وهذا ما سأقف عليه في مقال الأسبوع القادم.