أفكار وآراء

الصلاة.. من التشخيص إلى التجريد

(الصلاة عماد الدين).. كما ورد في الرواية المنسوبة إلى النبي الأمين، وهي لا تعبّر عن طبيعة الصلاة في الإسلام فقط، بل هي -بالاستقراء- تعبّر عن عموم الأديان، فلا دين لا صلاة فيه، وإذا أردت أن تعرف طبيعة الدين فابدأ بدراسة صلاته.

وهي مع مركزيتها لا تُنشئ معتقدا، ولا تصبغ على الدين طبيعة التعبد فيه، وإنما تلخّص المعتقد الديني وتكثّف مضامينه، فمثلاً؛ الصلاة المسيحية.. ليست هي من ابتدع معتقد الخلاص، وإنما أكدت على محوريته وتثبّت ديمومته. وفي الإسلام.. ليست هي من قرر التوحيد فيه، بل جاءت كاشفة عن مضامينه. ولذلك.. من المهم دراسة طبيعة الصلاة في أي دين، لنرى انعكاس معتقداته عليها.

الصلاة.. هي صلة بين العابد ومعبوده، ففيها يتوجه إليه بالخطاب والدعاء؛ ولذلك.. لابد لهذا المعبود من رمز يدركه المتعبِّد في التوجه إليه، فكانت الرموز.. هي التماثيل والأصنام والنُصب للوثنيين، وبيوت الله للموحدين. والسؤال: إن كان المعبود يسمع العابد ويراه؛ فلماذا تحتاج الصلاة إلى التشخيص؟

علينا أن نرجع بفكرنا إلى مبتدأ تحضّر الإنسان، فقد تطور في مسير حياته السحيقة؛ حتى استوى عاقلاً، منذ أكثر من 300 ألف سنة، وقد قضى هذه المرحلة الطويلة غُفلاً عن الكتابة، إلا في ذيلها الذي لا يزيد عن حوالي خمسة آلاف سنة، وهي مدة محدودة بالنسبة لعمر الإنسان، الذي كان -وهو يمارس حياته- محتاجاً إلى لغة تفاهم، مع أفراد جنسه، ومع الكائنات من حوله، وقد ابتدع لغاته للتخاطب معها، فتنوعت بحسب الحاجة، فكان التنوع هو القانون العام؛ الحاضر مع البشر باختلافهم من بيئة إلى أخرى.

ومع حاجة الإنسان إلى تحقيق تواصله الاجتماعي مع بني جنسه، والتي أدت إلى نشوء اللغة، فإن هناك أيضاً حالة عميقة في النفس الإنسانية، وهي الرغبة في التدين، وقد ذهب المفكرون؛ من فلاسفة ومؤرخين وعلماء نفس واجتماع وأضرابهم مذاهب عديدة في تفسير هذه الحالة. إلا أن ما يكاد يحسمه علم الآثار، هو أنه ما من كشف أثري لعوادي الآدمي الأول وأوابده؛ إلا وقد وجدوا فيه ما يدل على تدينه، بحيث أصبح الدين يُقرأ بأنه حتمي في الوجود الإنساني. والمقال.. لا يتوغل في سبر تلك الآراء ومستنداتها العلمية والفلسفية، وإنما يبني على الحقيقة القاهرة بأن عموم الجنس الإنساني كان متديناً منذ عُرفتْ مواطئه المتحجرة وأطلاله البالية.

ولكون المتعبِّد لابد له من لغة يخاطب بها معبوده، بحسب حالته الاجتماعية التي اكتسبها منذ آلاف السنين؛ فكان من الضروري توحّد هذه اللغة بين المشتركين في المعتقد الواحد، بيد أنه في الحقب الغابرة لم تكن الكتابة مسطورة حتى تنطق بهذه المعتقدات، فلجأ المتعبِّد إلى تشخيص معتقده، بدايةً.. بما هو متوفر حوله من البيئة؛ كالحجارة والأشجار والجبال ومياه الأنهار والبحار. ولاكتساب هذه المعتقدات التعبدية منزلة فوق غيرها من المعتقدات العادية؛ جاء التوجه بها إلى السماء، فعُبِدت أجرامها وأبراجها، ثم اتُخِذت للتعبير عنها نُصب من حجارة ومبانٍ من طين، حتى نُحتت تماثيل مجسمة وأصناماً مشخصة، تحكي رضا الآلهة وغضبها ومنحها ومنعها، فكانت الوسيلة التي يَنقل بها المتعبدون معتقداتهم إلى غيرهم عبر المكان والزمان، ولأنها تعبير عن المعتقدات؛ لا ذاتها، فهي تتغيّر من زمن لآخر، ومن مجتمع لمجتمع، وبقي التشخيص سمة عامة في الصلوات.

هكذا.. كانت المشخصات -قبل اختراع الكتابة- أداة التعبير عن المعتقدات، فهي بمثابة «اللاهوت» عند المسيحيين، و«علم الكلام» عند المسلمين، إلا أنه علينا أن نلحظ أمرين:

- بقاء كثير من تلك المعتقدات المشخَّصة حتى يومنا؛ رغم سيادة الكتابة والتحولات الكبرى في الأديان، فمعتقد قام على التشخيص أحقاباً متطاولة؛ لا يمكن تلاشيه ببضعة مئات أو آلاف السنين من التطور الفكري والكتابي لدى البشر، فالمعتقد يتصف بالجمود؛ الذي يسري إليه التغيّر ببطء شديد.

- ظهور حركات دينية وفلسفية؛ حاولت أن تتخلص من التشخيص باتجاه التجريد، ومن أشهر المعروف منها في ثقافتنا العربية: الحنفاء قبل الإسلام، والصوفية الفلسفية بعده. ولذلك.. ينبغي دراسة صلوات هؤلاء القوم، فهي جزء من تتبع خط أداء الصلاة من التشخيص إلى التجريد.

وكما رأينا بأن اللغة السائبة قبل تقييدها بالكتابة أجبرت الإنسان بأن يتجه إلى التشخيص الجلي لمعتقداته، حتى أصبح خصيصة أصيلة في اللغة ذاتها، فقد كان الإنسان القديم لكي يعبّر عن إلهه الكامل بقدرته وتصرفه ورحمته وغضبه؛ يظهره منحوتاً في التماثيل، وبما أن التمثال الواحد ينوء بحمل كل «الصفات الإلهية»، وربما وجد العابد تناقضاً بينها عندما يجمعها فيه؛ لجأ إلى تعديد هذه المشخصات، ومنها رشحت الوثنية بأصنامها العديدة التي لا تحصى أسماؤها، والتي ليست بالضرورة إنكاراً للإله الواحد، أو تعديداً له، بمقدار ما هو عجز هذه المشخصات عن استيعاب اللغة التي يخاطب بها المتعبِّد معبوده.

لقد صبغت المعبوداتُ المشخّصة اللغةَ صبغةً غير زائلة عنها أبداً، فلمّا اخترعت الكتابة تلونت بلون هذه اللغة. ولأن النص الديني يأتي بلغة من أُنزِل إليهم؛ فسنجد أنه يحتوي في لغته على التشخيص، حتى في حال كونه يسعى إلى التجريد، فهو لا يند عن هذا المسلك الماسك بتلابيب لغة الإنسان، وأن الكتابة لم تستطع تحريرها مما انصهر فيها لمئات آلاف السنين. التشخيص المتحدّر مع اللغة والمتجذّر في المعتقد هو سمة عتيقة في اللغة، كما أنه صفة عميقة في النفس المتدينة، التي لا تشعر بأنه يعكِّر صفو التنزيه؛ وهي تتوجه في صلواتها إلى إله الكون المتعالي عن إدراك العقول لذاته.

مع تطور فكر الإنسان، ووعيه.. بأن الإله خالق الوجود لا يمكن إدراكه؛ فضلاً عن تشخيصه، اتجه نحو التنزيه، وهو تنزيه يحصل غالباً بأداة التأويل، لأن الأديان واقعة تحت ضغط ظواهر النصوص والمعتقدات التشخيصية، والتأويل عمل النخبة من كل دين؛ أي علماء اللاهوت والكلام، بينما عموم الناس -الذين هم بطبيعتهم متدينون- فغالباً.. لا يستوعبون الدين إلا بحالته التشخيصية، مع كل ذلك.. فهناك مسار عام للتخلص من التشخيص في المعتقدات وصورتها العملية في الصلوات.

الإسلام.. بكونه ديناً توحيدياً فقد بنى في التنزيه على ما كانت عليه «الحنيفية»، ولذلك.. رفض الأوثان بكافة أشكالها، فانعكس ذلك على الصلاة، فلا يتوجه فيها إلى أي شيء يدل على تجسيم الله، وأن يكون التوجه إلى الكعبة «بيت الله» فحسب، التي تم تخليصها من الأصنام، كما أن مناسك الحج -وهو صلاة كبرى- لا يجوز للمتعبِّد أن يستحضر فيه أي تجسيم لله. إلا أن عقل الإنسان الذي تشرّب التشخيص طول دهره لن يستوعب هذا التجريد المطلق والتنزيه الخالص، فلا زالت هناك مناطق من دماغه كلما حضرها المعتقد تتجه صوب تشخيصه، لأن اللغة قاصرة عن الارتقاء إلى التنزيه الكامل لله، وهي عموماً عاجزة عن التعبير عن مراد الله، الذي عبّر عنه القرآن بـ«كلمات الله»: (وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ).

سيظل الإنسان -ولو إلى أمد، لكنه ليس قصيراً- غير قادر على الانفلات من مغناطيس التشخيص. وبكون الإسلام واقعياً، يراعي الطبيعة البشرية، فإنه أقرَّ في الصلاة الركوع والسجود والتوجه نحو الكعبة، وكذلك.. أداء مناسك الحج والعمرة كالطواف والسعي ورمي الجمرات وتقديم الأضاحي، بأعمال تشخيصية، مع تنزيه الله فيها؛ بحيث لا يتوجه المسلم فيها حقيقةً إلا لله، الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).