أفكار وآراء

الرئيس البشير والجنائية الدولية

أعتقدُ أنّ يوم الثلاثاء العاشر من أغسطس 2021، سيكون يومًا فارقًا في تاريخ السودان الحديث؛ فهو اليوم الذي أعلنت فيه مريم الصادق المهدي وزيرة الخارجية السودانية موافقة السودان على تسليم الرئيس السوداني السابق عُمر البشير وعبد الرحيم محمد حسين وزير دفاعه، وأحمد هارون والي شمال كردفان السابق، المطلوبين في ملف دارفور، إلى المحكمة الجنائية الدولية التي تتهمهم بارتكاب «إبادة وجرائم ضد الإنسانية»، وذلك بعد لقاء الوزيرة السودانية، كريم أسد خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وهي الخطوة التي رحّبت بها أمريكا، حيث رأى نيد برايس المتحدث باسم الخارجية الأمريكية أنه «من شأن ذلك أن يشكل تقدمًا كبيرًا للسودان في مكافحته عقودًا من الإفلات من العقاب».

إنّ خطوة تسليم الرئيس البشير للجنائية الدولية، هي إهانة موجهة في الأساس للسودان - حكومة وقضاء - فأيُّ حكومة في العالم لا تستطيع أن تحاكم مواطنًا من مواطنيها وتحميه وتسلمه للخارج تحت أي ضغط، هي حكومة فاقدة للشرعية، ولا يحقّ لها أن تحكم أيّ بلد، وهذا كلام عامٌ لا يُقصد به السودان وحده؛ أما في الحالة السودانية فما بالك إذا كان هذا المواطن رمزًا ورئيسًا سابقًا للبلد، وكذلك وزير دفاعه؟ ولا يمكن لأيّ إنسان يحمل ذرةً من العقل في رأسه، أن يستوعب تسليم الدول لمواطنيها لدولٍ أخرى حتى تحاكمهم.

تفتح مسألة تسليم الرئيس البشير للمحكمة الجنائية الدولية، المجال لمناقشة موضوع تسليم المواطنين العرب للجهات الخارجية لكي تحاكمهم؛ الذي بدأ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001؛ إذ تسابقت الدول العربية على تسليم الكثيرين من المشتبه بعلاقتهم مع تنظيم القاعدة؛ ولاقى المسلمون من جراء ذلك ويلات كثيرة، حيث نشرت صحيفة «واشنطن بوست» في 26 ديسمبر 2002، تقريرًا مستندًا على أحد عناصر وكالة المخابرات الأمريكية مفاده أنّ هناك وسائل تعذيب تُستعمل في التحقيق مع هؤلاء في معتقل باجرام في أفغانستان، ومعتقل جوانتانامو في كوبا، ومعتقل دييجو جارسيا على المحيط الهندي، وكذلك سجن أبو غريب في العراق. وكانت هناك تقارير عن قيام السلطات الأمريكية بنقل بعض المشتبه بهم إلى سجون في دول أخرى لغرض الاستجواب، إذ لا توجد في قوانين تلك الدول بنودٌ تمنع التعذيب؛ والأغرب أنّ معظم هذه الدول هي دولٌ عربيةٌ.

عودة إلى القضاء السوداني، فهو قضاءٌ مشهودٌ له بالكفاءة، وهو الذي حاكم الرئيس البشير فيما يتعلق بقضية دارفور، وحكم عليه بالسجن مع آخرين، فما الذي استجدّ حتى يقرّر السودان أنّ قضاءه لم يعد قادرًا على محاكمة المتهمين في القضية؟ لا خلاف على محاكمة الرئيس البشير، لكنّ الخلاف هو أن يسلم لمحكمة خارجية كانت يومًا ما خصمًا له. ولماذا لا تواصل المحاكم السودانية محاكمته داخل السودان؟ إنّ رضوخ السودان وتسليمه الرئيس البشير سيفتح لنفسه بابًا للتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية، ولن يستطيع سده مهما قدّم من تنازلات. ويكفي أنّ نيد برايس المتحدث باسم الخارجية الأمريكية استخدم في تصريحه لتأييد الخطوة السودانية - الذي أشرتُ إليه سابقًا - كلمة «إفلات السودان من العقاب».

لا بد أنّ هناك أخطاء وقعت فيها الحكومة السودانية - وهي مثل الأخطاء الكثيرة التي تقع فيها الحكومات العربية - هذه حقيقة ولا نتجاهلها، ولكن السودانيين يخطئون إذا اعتقدوا أنّ مشاكلهم كلها ستنتهي بتسليم الرئيس البشير للجنائية الدولية؛ فالقضية أكبر من تسليم شخص؛ فما هو مخطط للسودان سبق وأن أشار إليه آفي ريختر وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق في محاضرة نشرتها الصحف العبرية يوم 10/10 /2008، قال فيها: إنه كانت هناك تقديرات إسرائيلية منذ بداية استقلال السودان‮ ‬أنه يجب ألا يسمح له ‬أن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي، لأنّ موارده - إن استثمرت في ظلّ أوضاع مستقرة - ستجعل منه قوة يُحسب لها ألف حساب‮، «‬وفي ضوء هذه التقديرات كان على‮ إسرائيل أن تتجه إلى هذه الساحة وتعمل على مفاقمة الأزمات وإنتاج أزمات جديدة، حتى يكون حاصل هذه الأزمات معضلات يصعب معالجتها فيما بعد»‮، وأظن أنّ ما حدث في الجنوب وفي دارفور جاء ضمن تلك النظرة، وقد ذهب آفي ريختر إلى أبعد من ذلك عندما قال: «لا بد أن تعمل‮ ‬إسرائيل‮ ‬على إضعاف السودان وانتزاع قدرته على بناء دولة قوية موحدة، رغم أنها تعج بالتعددية الإثنية والطائفية‮، ‬لأنّ هذا من المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي ضرورة من ضرورات دعم وتعظيم الأمن القومي الإسرائيلي‮».‬ وقد أورد ريختر بعض المعطيات عن وقائع الدور الإسرائيلي في إشعال الصراع في جنوب السودان، انطلاقًا‮ ‬من مراكز أقيمت في أثيوبيا وأوغندا وكينيا والكونجو، ‬وأشار إلى أنّ جميع رؤساء الحكومات في‮ ‬إسرائيل‮ تبنوا هذا الخط الاستراتيجي في التعاطي مع السودان الذي يرتكز‮ «‬على تفجير بؤر وأزمات مزمنة ومستعصية في الجنوب وفي أعقاب ذلك في دارفور‮».‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

هذا الخط الاستراتيجي الإسرائيلي كانت له نتائج أعاقت وأحبطت الجهود لإقامة دولة سودانية متجانسة قوية عسكريًا‮ ‬واقتصاديًا‮، ‬قادرة على تبوء موقع الصدارة في العالمين العربي والأفريقي، ويبدو أنّ الخطة الإسرائيلية تنفَّذ على أرض الواقع؛ فهناك مؤامرة كبرى لتمزيق السودان وتنفيذ الجزء الثاني من مخطط تقسيمه؛ فبعد توقيع اتفاق سلام جوبا الذي أعطى الحركات المسلحة نصيبًا من السلطة والثروة، تنامت الكيانات التي تطالب هي الأخرى بنصيب مماثل في السلطة، تمثلت في كيان الوسط وكيان الشمال؛ وهناك دعواتٌ للانفصال من قبل أبناء الشمال، بحجة أنّ اتفاق السلام ظلم أبناء الشمال؛ وظهرت خريطة جديدة للسودان، لا تضم دارفور وأجزاء كبيرة من كردفان.. هذه الخريطة هي التصور الانفصالي للسودان الجديد.‬‬‬‬‬‬‬‬

إذا كان هذا هو الوضع على الأرض، فهل يمكن أن ينقذه تسليم الرئيس البشير للمحكمة الجنائية الدولية؟ وكم كان محقًا الرئيس البشير عندما قال من داخل قفص الاتهام بمحكمة في الخرطوم، يوم الثلاثاء 24 أغسطس 2021، في أول تعقيب له على قرار الحكومة السودانية: إنه يفضّل محاكمته داخل السودان من قبل «أسوأ قاض من «قوة الحرية والتغيير» وقطع رقبته، على أن يحاكم أمام قاض خواجة»، وذكّرني موقفه هذا بخطابه أمام جماهير دارفور عندما قال «إنّ المحكمة وقضاتها ومستشاريها تحت جزمتي»، ممّا أدى إلى ملاسنة مع أوكامبو مدعي المحكمة الأسبق.

في اعتقادي أنّ أمام الحكومة السودانية قضايا عديدة، وتحديات كبيرة أهمّ بكثير من تسليم الرئيس عمر البشير للجنائية الدولية، مع طرح سؤال مهم هو: هل فعلا سيستفيد السودان من خطوة كهذه؟ وهل ستختفي كلّ المخاطر المحدقة بالسودان التي أشرتُ إليها سابقًا؟

وإذا تركنا السودان جانبًا وتوسعنا في التساؤلات، نسأل لماذا ترفض أمريكا التعامل مع محكمة الجنايات الدولية وترفض توجيه أيّ اتهام للجنود الأمريكيين المنتشرين في العالم، الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية في كلّ محل حلوا فيه؟ وهل تجرؤ محكمة الجنايات الدولية على محاكمة المجرمين الصهاينة الحقيقيين الذين ارتكبوا مجازر ضد الفلسطينيين؟

من يدفعون الآن بتسليم الرئيس البشير للمحكمة الجنائية الدولية، يجب ألا ينسوا أنهم كانوا مشاركين في الحكم، وكانوا ضمن أدوات الرئيس البشير التنفيذية في كلّ التهم الموجهة إليه؛ لذا قد يأتي الدور عليهم مستقبلا، وهذا متوقع، لأنّ التنازل يجرّ معه مزيدًا من التنازلات، ولا توجد ضمانة لهؤلاء ولا حصانة لهم، حتى وإن هرولوا للتطبيع مع الكيان الصهيوني.