أفكار وآراء

الانتقال إلى البساطة الطوعية

يتجسد عُسر الانتقال في المجتمعات من نموذج «دولة الرعاية الكاملة» إلى نموذج «دولة المشاركة والتخصيص» ليس فقط في اختبار القدرة المالية على التكيف في هذه المجتمعات، وإنما في التحول في أنماط القيم الاجتماعية المتصلة بظواهر «الإنتاج والاستهلاك»، التي قد تطرح أسئلة من قبيل: كيف يمكن تحويل الأفراد إلى أشخاص منتجين بأقصى قدرات الإنتاج الممكنة، ومواظبين بشكل دائم على تطوير جدارتهم وتنافسيتهم مع الآخرين في سبيل الحصول على الترقي الذي يطمحون إليه في مختلف قطاعات الإنتاج وميادينه؟ وعلى الجانب الآخر، كيف يمكن الحد من معادلة «الاستهلاك المفرط» وتحديده وإعادة ترتيب القيم الاجتماعية ومخطوطة المفاهيم والتصورات التي يبنى عليها الاستهلاك بكافة مظاهره وصولًا إلى الترشيد الذي يحفظ للأفراد حياة مادية مستقرة، ويمكّن الدول من ضبط توازنها في الإنفاق وتوجيه المصروفات نحو القطاعات الأكثر أولوية في خارطة التنمية؟

هناك محددات اجتماعية يمكن أن نسرد بعضها لنجاح السياسات والتدابير المالية المتخذة على المستوى الوطني بعيدًا عن قدرتها على ضبط المركز المالي للدولة، وهي في تقديرنا تتمحور في التالي:

- مدى قدرة هذه السياسات والتدابير على استيعاب طبيعة السلوك الاستهلاكي والتغيير الناعم في أنماط هذا السلوك.

- مدى قدرتها على دفع الأفراد إلى إعادة التفكير في أولوياتهم الاستهلاكية وتغيير مفاهيمهم بشأنها.

- مدى قدرتها على إرساء أنماط قيمية جديدة للتنافسية، والإنتاجية، والرخاء، والازدهار الاجتماعي والفردي مع الحفاظ على التماسك والتضامن والتآلف الاجتماعي.

وموازاة بذلك يكمن نجاح تلك السياسات في نقل المجتمع إلى ما يسميه عالم الاجتماع الأمريكي إريك أولين رايت بـ «البساطة الطوعية» وقد بنيت على ضوء هذا المفهوم عديد من الأدبيات التي تقارب المعطى الاقتصادي- الاجتماعي لهذا المفهوم في ضوء تحولات دولة الرعاية الاجتماعية والمآزق الانتقالية التي يعيشها النموذج الرأسمالي للدولة في الغرب، ويمكن حصر ملامح المفهوم في كونه يعبر عن البساطة والمباشرة، وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق، وتغيير النظرة إلى المحيط المادي من السلع والخدمات وضروراتها، وإعادة التفكير في المعطى المعنوي المرتكز على العلاقات الاجتماعية، وتحقيق الرضا المعيشي من خلال رصيد معتبر من الاندماج الاجتماعي، وتنظيم عمليات الاستهلاك بطريقة عادلة تراعي مستويات الدخول وتقلل الإضرار بالبيئة وتحد من الاستنزاف المالي للأفراد. غير أن هذا الانتقال لابد أن يتأسس على عاملين مهمين في تقديرنا:

يتجسد العامل الأول في محاولة فهم أنماط الاستهلاك لدى الأفراد بصورة منتظمة ومتراكمة عبر الزمان في سياق مجتمع معين: وهذا يتأتى من خلال الدراسات وقواعد البيانات الوطنية التي تهتم بظواهر الاستهلاك ليس فقط من خلال مسوح نفقات ودخل الأسر، وإنما من خلال الدراسات والاستطلاعات المكثفة والدورية للعوامل المؤثرة على الاستهلاك، واتجاهات ذلك الاستهلاك، وتأثير السوق عليه، وكذلك من خلال مقاربة القوة الشرائية للأفراد في المجتمع، ومحاولة فهم تأثيرات سوق الإعلان على الاستهلاك، وأثر البدائل المتاحة التي تدفع الأفراد بعيدًا عن الاستهلاكية المفرطة، وغيرها من مناطق البحث والدراسة التي تحتاج إلى مراكمة المعلومات حولها عبر الزمن، لتمكن لاحقًا من صنع سياسات وتدابير مالية على المستوى الوطني مستوعبة لطبيعة خارطة الإنفاق والاستهلاك لدى الأفراد، ومحافظة على أولوياتهم القصووية دون إضرار، ومستهدفة تغيير سلوكيات الاستهلاك الخارج عن الحاجة (المفرط) لديهم توازيًا مع تغيير القيم الاجتماعية التي يستند إليها هذا النمط من الاستهلاك.

أما العامل الآخر فيتجسد في مدى وجود برامج ثقافية وتأسيسية داعمة لهذا التحول: مثل برامج تعزيز الوعي المالي لدى الأفراد، وإدماج منظورات الثقافة المالية في المقررات والمناهج الدراسية في المراحل المختلفة، ودور الجامعات ومؤسسات الدرس الأكاديمي في تعزيز التخطيط المالي السليم للأفراد، وأدوار وسائط الإعلام المالي في تغيير القناعات المرتبطة بالإنفاق والاستهلاك، ودور الطبقات الاجتماعية المقتدرة في إيجاد سلوكيات استهلاكية نموذجية تدعم السوق المحلي من ناحية، وتركز على الأولويات الاستهلاكية دون الاستهلاك المفرط من ناحية أخرى.

يتحدث المؤلف الاقتصادي الشهير دوان إلجين في ورقة بعنوان: « Voluntary Simplicity A Path to Sustainable Prosperity» عن أربعة اتجاهات غيرت العالم في وقت استثنائي وهي فرصة لتحويل العالم إلى «البساطة الطوعية» وهي (بلوغ النفط ذروته تغير المناخ- انقراض الأنواع- الزيادة السكانية) وأمام هذه الأنواع يرى إلجين أننا بحاجة إلى «البساطة العميقة الواعية» وهي تلك البساطة التي تكفل تحولًا عميقًا ورشيقًا ومتطورًا في طرق المعيشة - العمل الذي نقوم به، والنقل الذي نستخدمه، والمنازل والأحياء التي نعيش فيها، والطعام الذي نأكله، والملابس التي نرتديها، وأكثر بكثير. وتسعى البساطة المتطورة والرشيقة إلى شفاء العلاقة مع الأرض، ويضيف إلجين أن قلة من الناس سوف يمرون بصعوبة إعادة هيكلة أسلوب معيشتهم وعملهم بشكل أساسي إذا كانوا قد ظنوا أنهم يستطيعون شد أحزمتهم وانتظار عودة الأشياء إلى ما هي عليه.

إن نجاح منظومة السياسات العامة اليوم لن يكون في مجرد نقل المجتمعات إلى واقع اقتصادي ومالي جديد، وانتظار أن يتكيف الناس مع ذلك الواقع، وإنما هناك ضرورة قصوى لإتاحة البدائل للناس للتعاطي مع هذا الواقع، والتفكير بأفق أوسع في إيجاد برامج تهيئة تلامس القيم العامة التي تتأسس عليها مثل هذه المنظومات والأبعاد الاجتماعية التي تحكمها، وليس أقرب من جائحة كورونا (كوفيد 19) من اختبار واقعي للضرورات وخارطة الأولويات في الإنفاق والاستهلاك، التي أفرزت لنا وقت اعتمالها ما هو ضرورة فعلًا وما هو تزيد من أنماط وممارسات سواء في إطار الاستهلاك الذاتي أو في سياقات التدابير الاستهلاكية لتلبية الحاجات الاجتماعية الكبرى.