أفكار وآراء

هل تنجح طالبان في تجاوز مرحلة ما بعد الاحتلال؟

عبدالله العليان

بعد انسحاب الاحتلال الروسي من أفغانستان عام 1989، مجبرا، بعد الخسائر البشرية الفادحة، إلى جانب الخسائر الاقتصادية والعسكرية التي منيت بها القوات الغازية نتيجة المقاومة الأفغانية؛ يعتقد بعض المهتمين بالشأن الأفغاني أن الخسائر البشرية قدرت خلال تلك الحرب بما بين أربعين وخمسين ألفا، وربما ضعفهم من الجرحى والمصابين، وأن أحد آثار هذه الخسائر والخروج بحسب بعض التحليلات، تسبب في سقوط الاتحاد السوفييتي، مع المعسكر الاشتراكي برمته في 25 ديسمبر 19991، مع أن البعض يرى أن مشكلة انهيار هذه الدولة العظمى سببه سباق التسلح مع المعسكر الرأسمالي، ومع انتهاء الاحتلال السوفييتي، وقع الخلاف بين الجماعات الأفغانية التي قاتلت الاحتلال السوفييتي، بسبب اختلاف الرؤى الفكرية في كيفية تقاسم الحكم في هذا البلد المتعدد المكونات والعرقيات والمذاهب، ومن له الأسبقية من هذه الجماعات التي ضحت بنفسها ضد السوفييت والحكومة المدعومة منها أكثر من الأخرى، ونشب القتال بينهم أوائل 1992 !

ولا شك أن هناك اختلافا قبليا بين هذه الجماعات، إذ إنها تنتمي عرقياً إلى انتماءات قبلية مختلفة، خاصة البشتون والطاجيك، وهذا ما سبب بينهم من قتال خاصة بين الباشتوني قلب الدين حكمتيار، والقائد الطاجيكي أحمد شاه مسعود، وصولا إلى انتهاء الصراع بخسارتهما معاً، بعد ظهور حركة طالبان على المسرح السياسي الأفغاني، إذ استطاعت أن تنهي الصراع لصالحها عسكرياً وهربت تلك القيادات إلى دول أخرى، وتولت طالبان الحكم 1996، تحت مسمى (الإمارة الإسلامية)، بقيادة الملا عمر مؤسس الحركة وقائدها الذي تمت مبايعته عام 1994 وتولى الإمارة 1996، والذي كان أحد المشاركين في الجهاد الأفغاني في فترة الاحتلال السوفييتي، والحقيقة أن ظهور طالبان فجأة وبقوات وأفراد استطاعت أن تهزم الجماعات المعروفة بنضالها العريق ضد الوجود السوفييتي أثارت استغراب المتابعين للشأن الأفغاني، وكانت الأصابع تشير إلى أن القدرة العسكرية لحسم الصراع لصالحها جاء بدعم باكستان لكونها البديل المقبول لهم في ظل الصراع الداخلي للمجاهدين على السلطة، وموافقة العديد من الدول الأخرى التي تتفق مع رؤية وتوجه طالبان الفكري، بحكم عدم انتمائها إلى تيارات سياسية معينة في الساحة الأفغانية السابقة أثناء قتال السوفيت، وبحكم الانتماء البشتوني المشترك بينهم وبين الغالبية البشتونية في باكستان وطالبان، خاصة العلماء الذين ينتمون إليهم مذهبياً، ومرجع طالبان للكثير من علماء باكستان، والمدرسة المذهبية الواحدة.

تنتمي طالبان إلى المدرسة الحنفية السائدة في الهند وباكستان وأفغانستان، وهذه المدرسة التعليمية تنتمي إلى المدرسة الدينية (الديوبندية) التي تأسست في الهند، خاصة أنها تلتقي مع فكر (جمعية علماء الإسلام)، التي أسسها اثنان من العلماء البارزين في الفقه الحنفي الماتريدي وهما: سميع الحق وفضل عبد الرحمن، وسميت مدرسة العلوم الإسلامية، وهذا التعليم يختص بالعلوم الدينية كتعليم القرآن الحكيم، والحديث، والتفسير، وانتشرت بصورة أكبر في باكستان وأفغانستان، ويرى الكاتب د/ عمار علي حسن، أن حركة طالبان بقيت في الحيز المحدود في الفكر العام للإسلام في القضايا العصرية، خاصة مجال التعليم الحديث والمعاصر ويرى أن: «هذه الفكرة التي تعشش في أذهان الطالبانيين ونفوسهم تجعلهم يختلفون عن الفرق والتنظيمات السياسية الإسلامية السُنية الأخرى ومنها داعش والقاعدة وغيرها، إذ إن الأخيرة تنتمي إلى ما تُسمى بـ «السلفية الجهادية»، التي إن كانت بعض فصائلها قد لاذت بطالبان، أو تحالفت معها لاسيما بعد تأسيس تنظيم القاعدة عام 1998، فإنها تنظر إليها باعتبارها فرقة مبتدعة، لأنها تبتعد عن الخط السلفي الجهادي الذي يتأسس على جذور في فكر التشدد، وصولاً إلى التنظيرات الجديدة مثل «معالم في الطريق» لسيد قطب، و«الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج».

ولا شك أن حركة طالبان بقيت في تمسكها بالروافد الإسلامية كما تعلموها في مدارسهم عند تسلمهم الحكم في 1996، وهي مدرسة متمسكة بالرؤية المذهبية الحنفية، دون غيرها من المدارس الإسلامية الأخيرة وهي متسقة في الأصول العامة للفكر الإسلامي عند المدارس الأخرى، ولذلك ـ كما يضيف د/ عمار علي حسن: «لا تختلف بعض التيارات الإسلامية مع الأهداف التي حددتها حركة طالبان لنفسها، لكنها تظل في خاتمة المطاف مجرد غايات عامة، فإن نزلنا بها إلى التفاصيل أو الفروع، أو نظرنا في أساليب ووسائل تحقيقها، يتضح لنا أن الحركة لا تختلف عن غيرها في التصرف على أساس اعتقاد أنها هي «الإسلام الصحيح» وأن ما عداها ليس كذلك، شأنها في هذا شأن فصائل «الإسلام السياسي». وعلى هذا الأساس حاربت طالبان الكثير من الفصائل الإسلامية في الفترة من 1994 حتى تمكنت من دخول كابول وإعلان «إمارة إسلامية» عام 1996 كانت هي الأولى لها».

لكن التجربة السابقة لحكم طالبان، لم تكن على المستوى المطلوب الذي يجعلها تكون أكثر انفتاحاً للواقع المعاش في عالم اليوم، ودخلت في صراعات عديدة، وأن تطبيقاتها تحتاج إلى مراجعة فقهية، وبقيت على اجتهادات علماء سابقين دون النظرة للمقاصد الشرعية، ولذلك دخلت في مناكفات آنذاك مع بعض المدارس الفقهية.

الآن بعد خروج الاحتلال الأمريكي والقوى الغربية المتحالفة معهم، كنتيجة للمقاومة وتضحيات كبيرة لهم، اضطرت القوات الأجنبية إلى الرحيل، تاركة لهم حكومة قائمة وجيشا مدرباً، وقوات كبيرة تقدر بمئات الجنود والشرطة، لكن المفاجأة اللافتة أن القوات والشرطة مع الحكومة القائمة، استسلمت بعد دخول طالبان العاصمة! وهذا يبرز أن الأفغان لا يريدون قتال طالبان، لأنهم مجرد موظفون في الجيش الذي أسسه الاحتلال، مع أن قوة هذا الجيش في الحكومة القائمة، أكبر من قوات طالبان، عدة وعدداً، وهذا مؤشر أن الأفغانيين لا يرغبون قتال أبناء جلدتهم، لأن هذا لا يرضي ضميرهم الأخلاقي وكأنهم مؤيدون للاحتلال وأنصارهم في أفغانستان.

يفترض من طالبان الآن أن تستفيد من تجربة 20 عامًا من سيطرة الاحتلال بعد طردهم من الحكم، وهذه العودة، لا بد أن تأتي في سياق الاستفادة من سلبيات الماضي في كيفية إدارة الحكم، والظروف الآن أيضا لن تكون سهلة وميسورة لأسباب كثيرة، ومن هنا يتطلب، بل ينبغي لهم عدم الاستفراد بالحكم لأنصارهم فقط ، فلا بد من إشراك الجماعات والنخب من شركائهم في هذا البلد المتعدد الأفكار والأعراق، وهذا واجب ديني وأخلاقي ومنطقي، ثم إنه من الضروري الاهتمام بالتعليم في كل التخصصات، وليس التعليم الديني فقط، فالبلد بحاجة إلى تخصصات في كل المجالات العلمية، والتجديد الفكري والفقهي والديني لا مفر منه، وهذا من الأولويات لو أرادوا أن يخرجوا أفغانستان من التردي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فالحكم مسؤولية كبيرة، وإدارة بلد مترامي الأطراف ليس سهلاً وميسوراً، وهذه من المطالب الضرورية لاستقرار هذا البلد الذي عانى كثيرا من الحروب والصراعات والخسائر الكبيرة، وهذا ما تحتاجه أفغانستان في المرحلة المقبلة.