رحيل الشيخ أبوعِزة
الاحد / 13 / محرم / 1443 هـ - 22:06 - الاحد 22 أغسطس 2021 22:06
من الناس من يعيش في الدنيا، فيما تكون روحه معلقة بالآخرة، يؤمن بأنّ حياة الخلود والأبدية خيرٌ من الدنيا وزخرفها؛ لذا تجدهم يستعدون لتلك الحياة بما يقدّمونه من الأعمال، لا يأبهون أن يكونوا مجهولين أو مغمورين في الدنيا، لأنّ همّهم أن يُذكروا في السماء. ومن هؤلاء - ولا نزكّي على الله أحدًا - الشيخ محمد أحمد أبوعِزة، أحد شيوخ كردفان في السودان، الذي توفي صباح الأربعاء، الرابع من أغسطس 2021.
لم أكن أعلم شيئًا عن الشيخ الراحل - حالي حال الكثيرين من الناس الذين اشتغلوا بأمور الدنيا -، فقد مررتُ على خبر وفاته مرورًا عابرًا ولم أهتم به، لكن نقاشًا دار بيني وبين صديقي الصحفي السوداني أحمد قاسم البدوي عن الأوضاع في السودان، تطرّق فيه إلى وفاة الشيخ أبوعِزة، الذي أنشأ مراكز ضمّت آلافًا من الحفظة والدارسين لعلوم القرآن الكريم، وقضى ما يقارب من ثمانين عامًا من عُمره في خدمة القرآن الكريم في بادية كردفان، ممّا جعلني أتابع سيرته وما كتب عنه، مع الاعتراف بتقصيري وتقصير وسائل الإعلام في الاهتمام بشخصيات كهذه، التي اهتمت بالقرآن وعلومه، لأنّ تركيزها ينصبّ دائمًا على متابعة أخبار نجوم الفن والرياضة، وغالبًا على الأمور السياسية.
وُلد الشيخ أبوعِزة في كردفان، ولما بلغ الثامنة من عُمره، ذهب إلى خلوة الشيخ عبد الله ود العباس، وحفظ بها القرآن الكريم، ودرس العلوم الشرعية على يد الشيخ عبد الله، ثم عاد إلى بلده وأسّس «خلاوي» لتحفيظ القرآن والعلم، وتخرّج على يده الآلاف من حَفَظَة كتاب الله. (والخلاوي هي بيوتٌ ملحقة بالمساجد، وتُعرف الخلوة بأسماء عديدة مثل القرآنية أو الجامعة أو المسيد، وتُعرفُ في بعض البلدان بالزوايا والتكايا والخانقاه).
انتسب أبوعِزة على يد شيخه إلى الطريقة الصوفية السمانية، فأسّس عام 1944، نواة أكبر مجمع لتحفيظ القرآن في الشرق الأوسط، وهو لا يملك مالًا ولا جاهًا، سوى إيمان مطلق بتوفيق الله؛ وصارع الظروف القاسية حيث تتباعد القرى وتنعدم وسائل التواصل إلا عبر الدواب، مع أزمة قلة المياه، فشمّر عن ساعديه، وجمع الحطب لتأسيس خلوة تحفيظ القرآن من القش، ولسان حاله يقول لتكن البداية بطفلين أو ثلاثة، لعل الله ينظر في الصدق الذي يتزاحم في صدره، فيبارك في القليل فيكثره، وهو ما كان فعلًا وواقعًا؛ فجلس الشيخ أبوعزة على الكثبان الوعرة، ما يقرب من ثمانين عامًا متواصلة، يقاسي حرّ الصيف وزمهرير الشتاء، قاطعًا صلته إلا بما ينفع ويخدم مشروعه، حتى أصبح مسجده من أكبر المساجد، وأصبحت خلاويه من أكبر الخلاوي، تُخرّج آلاف الحفاظ، وحقّ لها أن تسمى «جامعة الصحراء».
يصف الكاتب صبري محمد علي العيكورة، خلاوي الشيخ في مقال نشره في موقع «الانتباهة أونلاين»، فيقول: «لن تجد هناك صحون الباسطة والموائد المترعة بطيبات الدنيا، بل هناك «خيرُكم من تعلم القرآن وعلّمه»، وهناك «احفظ الله يحفظك»، وهناك «الصافات» و«الموريات» وقدح العصيدة، وهناك «الجفنة» التي تُطبخ عليها العصيدة بنار الحطب، ويقال: إنّ جفنة الشيخ أبوعِزة تسعُ لسبعة جواني من الدقيق، مع حلل مترعة بالحليب، وهي وجبةٌ واحدة من الوجبات الثلاث اليومية؛ وكان الشيخ يتفقد طلابه في مأكلهم وملبسهم ومنامهم، ويشرف بنفسه على العلاج، كما يشرف على الحفظ وعلى المعلمين؛ ستة آلاف طالب قد تعجز دولة عن إطعامهم لشهر واحد.. فكيف استطاع هذا الشيخ التسعيني أن يفعل ذلك ولقرابة الثمانين عامًا»؟
عُرف الشيخ بالزهد والورع والعصامية، ولم تكن له صلات برجال السلطة والجاه والمال؛ فكان يعتبرهم مثل غيرهم من الناس، لا فرق ولا مزيّة، مهما علا جاه صاحبه. ويروي الكاتب محمد خير عوض الله، موقفًا حدث أثناء زيارة الرئيس السوداني السابق عُمر البشير إلى كردفان، وكان الشيخ في القرآنية حسب برنامجه اليومي، يتابع مستوى التحفيظ، ومن توجيهاته ألا يأتيه أحدٌ حين يكون في القرآنية، ولكن دخل عليه من يهمس في أذنه «سيدي الشيخ.. وصل الرئيس البشير والوالي أحمد هارون والوفد المرافق وهم في انتظارك»؛ فكان ردّه حاسمًا «لسة قدامنا كتير، إذا بينتظروا ضيّفوهم، أو يرجعوا»، فاضطّر رئيس الجمهورية والوالي والطاقم الرسمي أن يذعنوا لبرنامج الشيخ لا لبرنامجهم المرسوم.
على الرغم من فقر الشيخ أبوعِزة إلا من الإيمان والثقة بالله، ظلّ مشمرًا عن سواعد الجد، مواصلا رسالته، حتى بلغت فروع خلاويه العشرات، وبلغ عدد الخريجين عشرات الآلاف في السودان وبلاد إفريقية عديدة، وخلفهم ألوف آخرون.
يقول المقرّبون من الشيخ الراحل إنه رغم انحناء ظهره، واصل برنامجه الذي بدأه عام 1944، بإيقاظ المعلمين الساعة الثالثة قبل الفجر، ثم يتابع شؤون الطلاب، وأمور التحفيظ، واحتياجات الدارسين بنفسه؛ ورغم وجود من يقوم بتلك الأعمال إلا أنّ الشيخ لم يترك ما بدأه في صباه، وما أبرمه مع الله في خدمة كتابه وتحفيظ كلامه.
كانت للشيخ أبوعِزة علاقات وثيقة بأهل التصوف، فربطته علاقة مودة ومحبة عميقة بالشيخ عبد الرحيم البرعي، وكان له زيارةٌ سنويةٌ للشيخ التوم ود بانقا، وغيرها من الصلات. ويقول عنه محمد خير عوض الله «كان صاحب أسرار ووصْلٍ روحي عظيم، وكان مستجاب الدعاء، ومثّل عند العارفين الواصلين، كنزًا من كنوز الله في الأرض، ومصدرًا من مصادر الجذب والعطاء. كان لا يتكلم إلا بدعاء أو استفسار أو حديث مختصر، ليس فيه ذكر أحد أو نحو ذلك ممّا يكون في الأنس المعتاد عند الناس».
للشيخ أبوعِزة صورٌ محدودة، أخذت على حين غفلة منه؛ فقد زهد في الظهور الإعلامي، وكان يهرب من الكاميرات بالتخفي وإسدال ثوبه عليه وطأطأة رأسه.
عندما ودّع وشيّع الآلافُ من السودانيين الشيخ أحمد محمد أبوعِزة، فإنهم كانوا يودّعون رمزًا من رموز العلم وخدمة القرآن الكريم، وعَلمًا بذل الروح والنفس والوقت والجهد، لأجل كتاب الله العزيز.
ومن تقدير المولى عزّ وجلّ، أن تفقد الأمة الإسلامية في يومين، عالِمين جليلين هما الشيخ محمد أحمد أبوعزة في السودان، والشيخ محمد بن بابا الشيخ بالحاج في الجزائر، الذي سبقه في الرحيل بيومين. والشيخ بلحاج هو أحد كبار علماء الجزائر، وأحد مجددي الفكر الديني.
لقد ذكّرني الشيخ الراحل - وأنا أتجوّل مع سيرته - بنموذج الشيخ حمود بن حميد الصوافي في عُمان، الذي أفنى حياته كلها في التدريس والمدارسة، من خلال الحلقات التعليمية التي لا تنقطع طوال العالم، ومن أراد التعلم صيفًا أو شتاء، ليلا أو نهارًا، يجد الشيخ مستقبلا له، ملبيًا طلبه، وموفرًا له المأكل والمشرب والمسكن.
سألتُ صديقي أحمد قاسم البدوي: هل أمثال الشيخ أبوعزة موجودون الآن؟ قال: رحل الكثير منهم وبقي القليل، بعضُهم معروف وبعضُهم غير معروف. وقال: رغم كثرة النكبات فإنّ السودان محفوظٌ ببركة مثل هؤلاء.
لم أكن أعلم شيئًا عن الشيخ الراحل - حالي حال الكثيرين من الناس الذين اشتغلوا بأمور الدنيا -، فقد مررتُ على خبر وفاته مرورًا عابرًا ولم أهتم به، لكن نقاشًا دار بيني وبين صديقي الصحفي السوداني أحمد قاسم البدوي عن الأوضاع في السودان، تطرّق فيه إلى وفاة الشيخ أبوعِزة، الذي أنشأ مراكز ضمّت آلافًا من الحفظة والدارسين لعلوم القرآن الكريم، وقضى ما يقارب من ثمانين عامًا من عُمره في خدمة القرآن الكريم في بادية كردفان، ممّا جعلني أتابع سيرته وما كتب عنه، مع الاعتراف بتقصيري وتقصير وسائل الإعلام في الاهتمام بشخصيات كهذه، التي اهتمت بالقرآن وعلومه، لأنّ تركيزها ينصبّ دائمًا على متابعة أخبار نجوم الفن والرياضة، وغالبًا على الأمور السياسية.
وُلد الشيخ أبوعِزة في كردفان، ولما بلغ الثامنة من عُمره، ذهب إلى خلوة الشيخ عبد الله ود العباس، وحفظ بها القرآن الكريم، ودرس العلوم الشرعية على يد الشيخ عبد الله، ثم عاد إلى بلده وأسّس «خلاوي» لتحفيظ القرآن والعلم، وتخرّج على يده الآلاف من حَفَظَة كتاب الله. (والخلاوي هي بيوتٌ ملحقة بالمساجد، وتُعرف الخلوة بأسماء عديدة مثل القرآنية أو الجامعة أو المسيد، وتُعرفُ في بعض البلدان بالزوايا والتكايا والخانقاه).
انتسب أبوعِزة على يد شيخه إلى الطريقة الصوفية السمانية، فأسّس عام 1944، نواة أكبر مجمع لتحفيظ القرآن في الشرق الأوسط، وهو لا يملك مالًا ولا جاهًا، سوى إيمان مطلق بتوفيق الله؛ وصارع الظروف القاسية حيث تتباعد القرى وتنعدم وسائل التواصل إلا عبر الدواب، مع أزمة قلة المياه، فشمّر عن ساعديه، وجمع الحطب لتأسيس خلوة تحفيظ القرآن من القش، ولسان حاله يقول لتكن البداية بطفلين أو ثلاثة، لعل الله ينظر في الصدق الذي يتزاحم في صدره، فيبارك في القليل فيكثره، وهو ما كان فعلًا وواقعًا؛ فجلس الشيخ أبوعزة على الكثبان الوعرة، ما يقرب من ثمانين عامًا متواصلة، يقاسي حرّ الصيف وزمهرير الشتاء، قاطعًا صلته إلا بما ينفع ويخدم مشروعه، حتى أصبح مسجده من أكبر المساجد، وأصبحت خلاويه من أكبر الخلاوي، تُخرّج آلاف الحفاظ، وحقّ لها أن تسمى «جامعة الصحراء».
يصف الكاتب صبري محمد علي العيكورة، خلاوي الشيخ في مقال نشره في موقع «الانتباهة أونلاين»، فيقول: «لن تجد هناك صحون الباسطة والموائد المترعة بطيبات الدنيا، بل هناك «خيرُكم من تعلم القرآن وعلّمه»، وهناك «احفظ الله يحفظك»، وهناك «الصافات» و«الموريات» وقدح العصيدة، وهناك «الجفنة» التي تُطبخ عليها العصيدة بنار الحطب، ويقال: إنّ جفنة الشيخ أبوعِزة تسعُ لسبعة جواني من الدقيق، مع حلل مترعة بالحليب، وهي وجبةٌ واحدة من الوجبات الثلاث اليومية؛ وكان الشيخ يتفقد طلابه في مأكلهم وملبسهم ومنامهم، ويشرف بنفسه على العلاج، كما يشرف على الحفظ وعلى المعلمين؛ ستة آلاف طالب قد تعجز دولة عن إطعامهم لشهر واحد.. فكيف استطاع هذا الشيخ التسعيني أن يفعل ذلك ولقرابة الثمانين عامًا»؟
عُرف الشيخ بالزهد والورع والعصامية، ولم تكن له صلات برجال السلطة والجاه والمال؛ فكان يعتبرهم مثل غيرهم من الناس، لا فرق ولا مزيّة، مهما علا جاه صاحبه. ويروي الكاتب محمد خير عوض الله، موقفًا حدث أثناء زيارة الرئيس السوداني السابق عُمر البشير إلى كردفان، وكان الشيخ في القرآنية حسب برنامجه اليومي، يتابع مستوى التحفيظ، ومن توجيهاته ألا يأتيه أحدٌ حين يكون في القرآنية، ولكن دخل عليه من يهمس في أذنه «سيدي الشيخ.. وصل الرئيس البشير والوالي أحمد هارون والوفد المرافق وهم في انتظارك»؛ فكان ردّه حاسمًا «لسة قدامنا كتير، إذا بينتظروا ضيّفوهم، أو يرجعوا»، فاضطّر رئيس الجمهورية والوالي والطاقم الرسمي أن يذعنوا لبرنامج الشيخ لا لبرنامجهم المرسوم.
على الرغم من فقر الشيخ أبوعِزة إلا من الإيمان والثقة بالله، ظلّ مشمرًا عن سواعد الجد، مواصلا رسالته، حتى بلغت فروع خلاويه العشرات، وبلغ عدد الخريجين عشرات الآلاف في السودان وبلاد إفريقية عديدة، وخلفهم ألوف آخرون.
يقول المقرّبون من الشيخ الراحل إنه رغم انحناء ظهره، واصل برنامجه الذي بدأه عام 1944، بإيقاظ المعلمين الساعة الثالثة قبل الفجر، ثم يتابع شؤون الطلاب، وأمور التحفيظ، واحتياجات الدارسين بنفسه؛ ورغم وجود من يقوم بتلك الأعمال إلا أنّ الشيخ لم يترك ما بدأه في صباه، وما أبرمه مع الله في خدمة كتابه وتحفيظ كلامه.
كانت للشيخ أبوعِزة علاقات وثيقة بأهل التصوف، فربطته علاقة مودة ومحبة عميقة بالشيخ عبد الرحيم البرعي، وكان له زيارةٌ سنويةٌ للشيخ التوم ود بانقا، وغيرها من الصلات. ويقول عنه محمد خير عوض الله «كان صاحب أسرار ووصْلٍ روحي عظيم، وكان مستجاب الدعاء، ومثّل عند العارفين الواصلين، كنزًا من كنوز الله في الأرض، ومصدرًا من مصادر الجذب والعطاء. كان لا يتكلم إلا بدعاء أو استفسار أو حديث مختصر، ليس فيه ذكر أحد أو نحو ذلك ممّا يكون في الأنس المعتاد عند الناس».
للشيخ أبوعِزة صورٌ محدودة، أخذت على حين غفلة منه؛ فقد زهد في الظهور الإعلامي، وكان يهرب من الكاميرات بالتخفي وإسدال ثوبه عليه وطأطأة رأسه.
عندما ودّع وشيّع الآلافُ من السودانيين الشيخ أحمد محمد أبوعِزة، فإنهم كانوا يودّعون رمزًا من رموز العلم وخدمة القرآن الكريم، وعَلمًا بذل الروح والنفس والوقت والجهد، لأجل كتاب الله العزيز.
ومن تقدير المولى عزّ وجلّ، أن تفقد الأمة الإسلامية في يومين، عالِمين جليلين هما الشيخ محمد أحمد أبوعزة في السودان، والشيخ محمد بن بابا الشيخ بالحاج في الجزائر، الذي سبقه في الرحيل بيومين. والشيخ بلحاج هو أحد كبار علماء الجزائر، وأحد مجددي الفكر الديني.
لقد ذكّرني الشيخ الراحل - وأنا أتجوّل مع سيرته - بنموذج الشيخ حمود بن حميد الصوافي في عُمان، الذي أفنى حياته كلها في التدريس والمدارسة، من خلال الحلقات التعليمية التي لا تنقطع طوال العالم، ومن أراد التعلم صيفًا أو شتاء، ليلا أو نهارًا، يجد الشيخ مستقبلا له، ملبيًا طلبه، وموفرًا له المأكل والمشرب والمسكن.
سألتُ صديقي أحمد قاسم البدوي: هل أمثال الشيخ أبوعزة موجودون الآن؟ قال: رحل الكثير منهم وبقي القليل، بعضُهم معروف وبعضُهم غير معروف. وقال: رغم كثرة النكبات فإنّ السودان محفوظٌ ببركة مثل هؤلاء.