أعمدة

كلمة جارحة قيلت في الحفلة

 
مساء الثالث عشر من أغسطس عام 1981 كان الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي يحتفل بعيد ميلاد ابنته مها في شقته بمصر الجديدة، وقد دعا لهذه المناسبة عددًا من أصدقائه الأدباء والمثقفين مثل الشاعرين صلاح عبدالصبور وأمل دنقل والناقد جابر عصفور، ورسام الكاريكاتير بهجت عثمان. ربما يكون ثمة مدعوون غير هؤلاء، لكن أكثر من مرجع وثق أحداث هذه الليلة اتفق على هؤلاء الأربعة، من هذه المراجع كتاب 'النميمة' لسليمان فياض، و'الجنوبي' لعبلة الرويني، و'قضايا الشعر الحديث' لجهاد فاضل. ولكن لماذا تهتم كل هذه الكتب بتوثيق حفلة شاعر بعيد ميلاد ابنته؟ الإجابة ببساطة: لأن الحفلة انتهت بوفاة شاعر آخر، عزا البعض سبب موته إلى كلمة جارحة قيلت في الحفلة!.

كانت الدكتورة سهير عبدالفتاح (زوجة حجازي) مترددة في دعوة أمل دنقل –كما تروي عبلة الرويني في 'الجنوبي' – نظرًا لحِدّته في المناقشة، خصوصًا أن أحد المدعوين هو صلاح عبدالصبور الذي كانت الأوساط الثقافية العربية تتهمه آنئذ بالتطبيع وتُدرِجُ اسمه ضمن المُقاطَعين ثقافيا، لكونه رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب التي نظمت معرض القاهرة للكتاب في يناير من ذلك العام وسمحت فيه بمشاركة إسرائيل. لكن حجازي أقنع زوجته بالتراجع عن هذا التردد. وفي الحقيقة أثبت ما حصل في تلك الليلة أن تخوف الدكتورة سهير لم يكن في محله، فقد بدا أمل دنقل هادئًا ومهذبًا، بل إنه قرأ على صلاح عبدالصبور بحبّ قصيدتَه 'أحلام الفارس القديم'. لكن المحظور وقع من شخص آخر غير متوقع، شخصٍ ما كان ليُدعى للحفلة أصلًا لولا أن صلاح نفسه هو مَنْ اقترحه على حجازي. إنه الرسام بهجت عثمان، الذي خاطب عبدالصبور بالقول: 'إنتَ بعت. وبعت بمليم يا صلاح'!. ثار عبدالصبور – كما تروي عبلة الرويني- 'وهب واقفًا متسائلًا عن الذي حصل عليه ليُتَّهم بالخيانة والبيع، وما الذي باعه بالتحديد؟'، وخرج للنافذة وهو يشعر بضيق في التنفس، ولا بد أنه تذكّر في تلك الهنيهة بيته الشهير: 'الناس في بلادي، جارحون كالصقور'، وعندما تفاقم لديه الاختناق حمله عبدالمعطي حجازي إلى مستشفى هليوبوليس القريب من بيته، ولم تمض إلا سويعات حتى انتشر في مصر كلها خبر وفاته!.

وأنا أتأمل هذه النهاية الحزينة لشاعر عربي كبير دارت في ذهني عدة أسئلة: إلى أي مدى يمكن أن تقتل شاعرًا مرهفَ الحس كلمةٌ قاسية؟ وهل على الشاعر المبدع أن يرفض الوظيفة الحكومية لينجو بشعره وحياته؟ ماذا يبقى من الشاعر بعد أن يموت: شعره البديع أم مواقفه المثيرة للجدل؟ هل يمكن للمثقف أن ينخرط في السلطة السياسية ويحاول إصلاحها من الداخل دون أن يفقد شيئًا من روحه؟ من قبوله الثقافي والجماهيري؟. وفي الحقيقة لا بد أن أشير هنا إلى أنني وأنا أبحث عن قصة مشاركة إسرائيل في معرض القاهرة في يناير من عام 1981 وجدتُ محاولاتٍ مستميتة من صلاح عبدالصبور لعرقلة هذه المشاركة سَرَدَها صلاح الشعراوي في كتابه 'قطوف من الذاكرة التاريخية'، والشعراوي هذا كان مُشرِفًا في ذلك العام على مكتب وزير الخارجية المصري حينئذ كمال حسن علي وطلب منه الوزير – بعد أن تلقى احتجاجا من إسرائيل على منعها من المشاركة في المعرض- الاتصال بصلاح عبدالصبور لمعرفة خلفية موقفه، فصارحه الشاعر الكبير أنه متخوف من اشتراك إسرائيل لأن ذلك سيثير ردود فعل غاضبة من الشباب والمثقفين المصريين والعرب، وقد اقتنعت الخارجية المصرية بكلام عبدالصبور. لكن الذي حصل بعد ذلك أن الرئيس السادات قرر مشاركة إسرائيل دون أن يكلف نفسه الرجوع إلى أي من وزرائه أو مستشاريه، بل إن هؤلاء كلهم – بمن فيهم وزير الخارجية - سمعوا بخبر المشاركة من إذاعة إسرائيل!. بالتأكيد ليس هذا دفاعًا عن عبدالصبور، فقد كان بإمكانه بعد فشل محاولاته الاستقالة من منصبه، لكنه لم يفعل. إنها فقط محاولة لفهم أثر الكلمة الجارحة على نفسه، بل إن أمل دنقل ذاته الذي هو 'شاعر الرفض' يقول في حواره مع جهاد فاضل في كتاب 'قضايا الشعر الحديث' في ما يشبه مرافعة دفاع عن عبدالصبور: 'ليس سهلًا على شاعر في حجم صلاح عبد الصبور وفي موهبته، أن يكون مطيةً لنظام ليس وطنيًا وليس قوميًا، ولا يعطي الثقافة كبير احترام، فكأن صلاح عبد الصبور كان يطلب النجاة من هذا المأزق التاريخي الذي وجد نفسه فيه، وفي اعتقادي أن وفاة صلاح بين أصدقائه الشعراء من هذا الاتجاه أفضل ألف مرة من وفاته في مكتب مسؤول كبير، أو أن يموت في سريره وحيدا'.

وإذْ تمرّ اليوم أربعون سنة على وفاة عبدالصبور، فإن الأكيد الوحيد – اتفقنا مع مواقفه السياسية أو اختلفنا - أنه أحد أهم الشعراء العرب في القرن العشرين، وأن حالنا معه يمكن اختزاله بما قاله هو نفسه عن الحلاج: 'أحببنا كلماته أكثر مما أحببناه، فتركناه يموت، لكي تبقى الكلمات'.