أفكار وآراء

الإسلام بين الرؤية الفردية والجماعية

عبدالله العليان -

منذ أسابيع عدة تحدثنا عن المنطلقات الفلسفية والفكرية بين النظامين الرأسمالي الليبرالي، وكذلك النظام الاشتراكي برؤيته الماركسية من حيث التطبيق العملي، ولا شك أن الخلاف كان شاسعًا بينهما، لاختلاف المشارب الفكرية والاقتصادية لكل منهما، بالرغم أن النظامين ينطلقان من عقيدة وثقافة واحدة، وهي الثقافة الأوروبية والديانة المسيحية، لكن هذه المنطلقات مختلفة اختلافًا فلسفيًا بالنسبة للثقافة الفكرية، فالرأسمالية وهي الأسبق قد تم تأسيسها على النظام الفردي الحر، دون تقييد من قبل الدولة، ثم برزت الفلسفة الجماعية الاشتراكية التي تجعل وسائل الإنتاج بيد الدولة، كنتيجة للمغالاة في النظام الفردي واحتكاره تحت شعار الدولة المنفلتة من دون تقييد، ويمنع هذا النظام الجماعي، النظام الفردي من النشاط بعيدًا عن سيطرة الدولة، لكن حديثنا في هذا المقال، سيكون عن الفلسفة الإسلامية في مسألة حرية التملك مع تقييده ومع دور الدولة في العدالة في مسألة الحقوق العادلة للعامل، وما يراه الإسلام في قضية العدالة الاجتماعية عمومًا التي أرسها الإسلام، وجعلها قضية أسياسية ومحورية في النظام الإسلامي، في مقابل النظامين الرأسمالي والاشتراكي، ولا شك أننا سنجد البون الشاسع للرؤية الإسلامية للعدل الاجتماعي في مسألة حرية التملك، وما وضعه من الضمانات دون أن يتم الاحتكار واستغلال الحرية في التملك من حيث وظيفة المال في المجتمع، ومن هذه الأسس والمنطلقات، نرى أسبقية الرؤية الإسلامية للعدل الاجتماعي من هذين النظامين المشار إليهما، فقد سبق هذا الدين منذ عشرات القرون، أن وضع التوازن العادل بين النظم الفردية والنظم الجماعية التي برزت في الغرب، والتي بدأ تأسيسها منذ ما يقرب من ثلاثة قرون بالنسبة للنظام الرأسمالي، وأقل من قرن بالنسبة لقيام النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي وبقية المعسكر المتحالف معه، وبعض الدول في شرق أوروبا، مع الصين ودول أخرى آسيوية.

والإشكال الذي صاحب بعض النظريات التي ظهرت في غرب أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن بعض الفلاسفة الغربيين تحاملوا على الأديان عمومًا إلى درجة العداء والتشويه، بسبب ما فعلته الكنيسة الغربية من مساوئ وسلبيات، بعدما تم التلاقي بين الكنيسة والإقطاع في الغرب الرأسمالي قبل القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، لتبرير الحق الإلهي للملوك وما صاحبها من نظم وقوانين لتبرير التعسف والاحتكار في الفلسفة الاقتصادية الرأسمالية، وما تبع هذا المنحى من مظالم في حقوق العمال بعد ظهور الصناعة فيها، وقد أشرنا لبعض هذه المساوئ في مقالات سابقة، والإشكالية أن هؤلاء الفلاسفة عمموا على الإسلام ما فعلته الكنيسة، دون النظرة الموضوعية، ولذلك انطلق كارل ماركس من رؤية حدية وقاسية على الدين، واعتبار كل الدين مخدر أو أفيون الشعوب، وتم تعميم هذه المقولة على كل الأديان السماوية، ومنها الدين الإسلامي، دون الاطلاع الفكري المنصف على رأي هذا الدين في القضايا التي تمس حياة الناس وحقوقهم الاجتماعية وغيرها من الحقوق.

ومع أن الإسلام كان الأسبق في طرح الرؤية المتوازنة بين هذين النظامين المشار إليهما، إلا أن العديد من الفلاسفة والمفكرين الغربيين، نظروا للشرق ـ وهي نظرة تعصب ـ بأنه يقوم على الاستبداد والتخلف وغياب التسامح والطغيان والجهل، إلى آخر المسميات، وهم في هذه الأحكام المسبقة، لم يميزوا بين النظم في الشرق، وعمموا على الجميع هذه النظرة الجائرة، وغير العادلة، وهذه بلا شك نتيجة أفكار المخيال الشعبي في صورة الشرق السحري الذي يعيش في الجهل -كما قالوا- وأن الاستعمار الحل لهذا الشرق، وساهم الاستشراق المغرض في هذه الصورة السلبية غير المنصفة.

ولا شك أن الفكر الإسلامي، كما جاء في آيات القرآن الكريم والسنة النبوية، وضع قضية العدل في مستويات كبيرة من الاهتمام ومن التوازن الخلاق، فالإسلام أباح الملكية الفردية، لكن هذه الملكية الفردية ليست مباحة دون ضمانات لصالح المجموع، وعدم استئثار البعض بالمال واحتكاره، باعتبار أن المال في الرؤية الإسلامية له وظيفة اجتماعية، ومع أنه أباح التملك، إلا أنها كما أشرنا ليست متاحةً دون تقييد في الجانب الاجتماعي، فالغاية التي أرادها الإسلام من تحريم كنز المال أو حبسه أو تجميده، هو كفالة العدالة الاجتماعية في المجتمعات المسلمة من مسلمين وغير مسلمين، دون أن يكون هناك تعسف في الحقوق الفردية للمال، وبما لا يتجاوز وظيفة المال الذي يصب في المجال العام، وما يؤديه من الحقوق التي وضعت له.

ومن الأسس التي قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، بعد هجرته إلى المدينة كانت متميزة في هذا الدين القويم، فسكان يثرب من الأغنياء (الأنصار)، و(المهاجرون)، في أغلبهم من الفقراء؛ لأنهم تركوا ما يملكون في مكة بعد الحرب التي شنها المشركون على أتباع هذا الدين، ولذلك كانت دعائم الدولة الجديدة في المدينة، كما وضعها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، اتسمت بطرح فكرة عظيمة، وهي المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، فتم إنهاء العصبيات الجاهلية التي كانت قائمة قبل دخولهم في الإسلام، وانتهت الفوارق بينهم التي كانت تقوم على الأسس القبلية، فتم إرساء دعائم أخرى في الأمة الجديدة، ثم قيام الدولة، وتأسيس المجتمع الجديد الذي يقوم على العدل والمؤاخاة وغيرها من الدعائم التي، عززت روح التآخي سكان من المسلمين، وأسس (صحيفة المدينة) التي تمت مع غير المسلمين في المدينة التي تم فيها التحالف على المناصرة بالعدل بينهم، مع اختلاف الدين.

أما المؤاخاة بين المسلمين فيما بينهم، بحيث أصبح الأخ يتقاسم مع أخيه في حياته الاجتماعية دون تمايز، دون أن يكون هناك اضطرابًا في الحياة الجديدة، بين طبقة غنية وطبقة أخرى لا تملك شيئًا، ولذلك أنهى الإسلام الصراع الطبقي، من خلال هذه المؤاخاة بين أمة الإسلام.

ويتحدث الصحابي عبد الرحمن بن عوف كما روى ذلك الإمام البخاري، لما تمت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فيقول: «لما قدمنا إلى المدينة آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيني وبين سعد بن الربيع، فقال لي سعد: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم لك نصف مالي، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقلت: بارك الله لك في أهلك ومالك، لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة ؟ قال سعد: سوق بني قينقاع، قال فغدا إليه عبد الرحمن.. إلى آخر الحديث». فهذه الروح النبيلة جسدت روح التلاحم والمحبة، وليس الحقد والصراع الذي تبنته النظرية الماركسية، وسببها ما قامت به الرأسمالية المتوحشة، وهي التي أوجدت هذا الحقد بما أرسته من نظام ظالم للطبقات الفقيرة، دون أن يجدوا الحقوق العادلة في عملهم في المصانع، ولذلك وضعت الفلسفة الاشتراكية (صراع الطبقات) كنتيجة من نتائج الاحتكار والاستئثار بالمال بعيدًا عن التوازن بين الطبقات والعدل بينها.

والآيات البيّنات كانت حافلة بمسألة العدل الاجتماعي، في سور عديدة، ومن هنا نظرًا لإسلام للملكية العامة للمال بأنه استخلاف، ـ ملكية المنفعة، وهو ما جعل استخدام هذا المال له وظيفة اجتماعية، وليس احتكاره دون إنصاف، ويرى د. محمد عمارة في بحثه (العدالة الاجتماعية)، أن الفلسفة الإسلامية في الملكية: «تميزت بمضامين العدل الاجتماعي في الإسلام عن المذاهب التي غالت في الفردية، والأخرى غالت في قهر الفردية.. فلقد توسط الإسلام، فلم يجرد الإنسان من حق الملكية للثروات والأموال.. وأيضًا لم يرفع الضوابط عن حريته في التملك والتصرف..

وإنما وقف بهذه الحرية عند (الخليفة)، المحكومة بإرادة وأوامر ونواهي المالك الحقيقي للأموال والثروات، سبحانه وتعالى. وهذا ما يجعل المحبة والتراحم مقدمًا على الصراع والحرب هو السبيل للتغيير في المجتمعات.