أعمدة

نوافذ: البشر والسحالي

 
في وقت لا تحظى فيه المجموعات القصصية بتقدير يليق بها كما يحدث للرواية، يُشيد القاص المصري حسن عبد الموجود عوالمه شديدة الخصوصية والفرادة، عبر مجموعته «البشر والسحالي»، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية 2021.

قصة كبيرة تنسلُ من رحمها قصص أخرى في قرية مليئة بالأبطال العاديين والخرافيين في آن. نتأملُ فكرة «الحاجة إلى خطايا»، فنحن لا شيء دون خطايانا، الخطايا التي تبرر وجودنا، وتعطي حياتنا معنى، فينهضُ أطفال صغار ومراهقون، ليتحدثوا عن خطاياهم الأولى، وخيالاتهم الأولى وتلك المبالغات والتصورات قبل أن يتحكم بها الوعي ويُنضجها، فتتسربُ إلينا حرارتها وعذوبتها اللافتة.

نحن لا نتأمل كثيرا الحضور الحيواني جوارنا ولا بداخلنا، رغم الاشتباك الأبدي بين مصائر البشر ومصائر الحيوانات، ولكن حسن عبد الموجود فعل، وحرّض التأملات والوعي والاشتغال ومنح كل قصة من القصص كثافتها وتماسكها. قصص لا تجعلك تفكر في قفلة الحكاية، قدر الذهاب عميقا في نسيج التفاصيل الممتلئة بالثراء، ورغم أنّها تكشف عن حياة ثقيلة مثخنة بالجوع، إلا أنّ الكتابة لا تستدر الشفقة، قدر ما تمنح صورا بصرية باذخة وجديدة. يحكي عمّا لا نتصور حدوثه كأنّه عادي ومألوف، وهنا تكبر المفارقة.

يظهرُ الكلب بصورة العاض لأعمى، لكنه -أي الكلب- يظهر أيضا مشويا بيد الأطفال المستمتعين بعذاباته. يظهر الدود كطُعم جيد يستخدمه البشر لمآربهم، لكن البشر يتحولون أيضا لطعم خاضع لمآرب دود القبر. البطات التي يمكن أن تلتقط مخاط البشر وبصاقهم يمكن أن تصبح طعام موائدهم. الفراشات التي تخبط دائخة في برطمان من قلة الأكسجين عندما يحبسها الأولاد الأشقياء، تظهر أيضا وهي تقلب الحياة الهادئة وتأكل محاصيل الفلاحين.

يظهرُ الإنسان بميلٍ حيواني في لحظات ما من حياته، إذ يمكن لامرأة أن تأكل ثلاث بيضات وتترك أولادها جوعى، أو أن يأكل أولادٌ طعام والدهم الأعمى دون وخزة ضمير واحدة. أمّا الابن الذي يتسرب ماء مثانته دون إرادة منه، يمكن لوالده أن يهدده بالكي بالنار، ولكنه لا يفعل، يُمارس هواية جمع العقارب ووخزها بشوك النخيل، ليُجمد تلك الرغبة المحتقنة بداخله!

تذهبُ المخيلة إلى تصور إمكانية أن تحمل امرأة بتوأم من القطط أو أن تكون العفاريت على هيئة أبقار، نتأمل مخيلة الفتاة التي تظن أن السوس الأسود يخرج من أسنانها إلى جوال الطحين، قاطعا كل تلك المسافة!

ولنا أن نتصور الساحرة وجهازها الهضمي يتقدمها، وأجساد أخرى يملأها الدود والخرجان والدمامل والقمل كأنّ ذلك هو العادي الذي لا يستدعي قلقا ما!

ولأن الجوع يظل العدو الأول للإنسان والحيوان على حد سواء، قرر الفتي أن تكون معجزته صنع أرغفة الخبز من الدقيق أو التراب أو الرمال، عوض أن تكون معجزته سحلية تأكل «بيزخ» أمّه!

القرية الغرائبية التي تقع فيها الأحداث الرئيسية لا تُسمى على نقيض القرية الأخرى التي تدعى بـ«القصر»، إيغالا في تجهيلها لتغدو قريتنا جميعا بكل عبثيتها ولا محدوديتها.

ندرك جيدا أنّ إيقاظ هذه القرية لم يكن مجرد نكش عابر لحكايات بعيدة، فالنصوص تُنبئ عن طبقات من الاشتغال المُضني جوار الموهبة اللافتة، تلك الصنعة التي لم تفسد القصص، بل جعلتنا نشعر بلحمتها وأنّها خرجت من قرية واحدة، وبيوت متجاورة وتنتمي لزمن سحري وبعيد، لا يمكن القبض عليه إلا عبر تقنيات الحكي الفاتنة.