في مسألة الأفكار النظرية وتطبيقاتها في الواقع
الأربعاء / 3 / ذو الحجة / 1442 هـ - 19:12 - الأربعاء 14 يوليو 2021 19:12
عبدالله العليان
لا شك أن الفلسفات والنظريات والرؤى الكبيرة الحالمة في أي عصر من العصور، لا يمكن النظر إليها وكأنها حقائق ثابتة لا عقبات في طريقها عند التطبيق، ذلك أن نسبية الأقوال البشرية عندما تحتك بالواقع المعاش وتحدياته تختلف عن التطبيق، ومن الصعب التنبؤ بما ستواجهه هذه الفلسفات من تعقيدات وعوامل فكرية وعقلية ونفسية، وكذلك أيضاً في مجالات اقتصادية وسياسية، قد لا يتم احتسابها عند طرح الأفكار.. في الأسبوع المنصرم ناقشنا فلسفات النظم الاجتماعية ـ الاشتراكية تحديداً ـ وكيف أنها رفضت الفلسفة الرأسمالية/ الليبرالية في تطبيقها على الواقع الغربي، وشقت لنفسها رؤية جماعية من حيث التطبيق لملكية الدولة لوسائل الإنتاج، بدلا من الرؤية الفردية التي تقدم مصلحة الفرد على مصلحة المجموع، وعلى حق هذا الفرد في الاستئثار بالمال وحركة دوران الاقتصاد في النظم الرأسمالية دون حواجز أو نظم تحد من هذا الاستئثار غير العادل، فظهرت الأفكار الاشتراكية تطالب بالبديل والحد من الفردانية في حرية التملك، ولاقت هذه الفلسفة رواجاً كبيراً في الغرب وعند شعوب كثيرة في العالم المعاصر، وأوسع التطبيقات حدثت في شرق أوروبا، أو ما يسمى بالمعسكر الاشتراكي آنذاك، وبدأ التطبيق بما يسمى بالنظرية العلمية (الماركسية)، لكن الواقع يختلف عن الرؤى النظرية، التي ربما تقيس لواقع بما لا تعطي صحة ما تقوله النظرية في الممارسة العملية، وهذا ما حصل في الدول الاشتراكية في تطبيقاتها الاشتراكية، فقد تم التطبيق في الاتحاد السوفيتي والدول التي في حلف وارسو، وكذلك الدول الاشتراكية المستقلة عن النفوذ السوفيتي التي تأخذ بالفكرة الاشتراكية، دون الانضمام للتحالف السياسي والاقتصادي السوفيتي مثل يوغوسلافيا، أو رومانيا أو الصين أو غيرها من الدول الاشتراكية. وقد لاقت النظرية الاشتراكية، والتي تبنت سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، نقداً شديداً بسبب سواء فيما يتعلق بالفكرة نفسها أو تطبيقاتها العملية، أو النظام القهري، مع غياب الحريات والتعددية السياسية، ومن الذين هاجموا الفكرة نفسها الفيلسوف النمساوي 'كارل بوبر' في كتابه المجتمع المفتوح وأعداؤه)، وللحق أن بوبر انتقد الرأسمالية بشدة أيضاً، في هذا الكتاب، ووافق الفلسفية الاشتراكية وأحقية المظلومين من تعسف الرأسمالية المنفلتة .. يقول بوبر في هذا الكتاب، أنه لا يؤمن بالتنبؤات التي تدعي بحصول تغييرات (حتمية) من خلال صراع الطبقات، فيقول: 'إن استنتاج ماركس ـ وهو مجيء مجتمع بلا طبقات، لا ينتج عن المقدمات، وإن لا بد من التصريح بأن الخطوة الثالثة في حجة ماركس غير مقنعة'. لكنه -كارل بوبر- يرى في هذه الرؤية المخالفة لصراع الطبقات أو عدم حصوله واقعياً، فيقول: 'فمن الممكن مثلاً أن يسهم الكفاح الطويل وحماسة النصر في الشعور بتضامن قوي بما يكفي للاستمرار، إلى أن توجد قوانين تمنع الاستغلال وإساءة استخدام السلطة الناشئة. (فإنشاء مؤسسات ديمقراطية تراقب الحكام هو الضمان الوحيد للقضاء على الاستغلال)'. وهذا ما حصل بعدما وجدت الليبرالية الكلاسيكية في الغرب الرأسٍمالي، وحصلت الحريات العامة، كحرية التعبير والنقد للسياسات القائمة على الرؤية الفردية، من خلال الديمقراطية حصلت الكثير من التعديلات على الرؤية الفردية، وتم إعطاء الحقوق للعمال من خلال الحركة النقابية، في الوقت الذي بقى الجمود في الاشتراكية، وأصبح العامل في الغرب الليبرالي يحصل على حقوقه أفضل من النظم الاشتراكية.
أيضا المفكر البوسني د/ علي عزت بيجوفيتش، وهو الذي عاش حياته في جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية، ولامس تطبيقاتها القاسية، وقد سجن وعذب بسبب رؤيته للحرية والتعددية السياسية التي لم يقبلها النظام، ومع أنه انتقد الكثير من الأفكار الماركسية، لكنه يعترف بما حققته الاشتراكية، فيقول : 'لا يمكننا التغاضي عن إنجازات النظام الاشتراكي، خصوصاً في مجال تعبئة الموارد المادية وفي التعليم وفي القضاء على صور الفقر التقليدية'. لكن د/ علي عزت بيجوفيتش، وجه انتقادات لهذا الفكر الشمولي، وفي الأفكار نفسها، ومنها قضية (الحتمية)، والتناقض بين الطبقات، التي أصر عليها ماركس في نظريته، باعتبارها قضية علمية، لكن الواقع خالف تلك التوقعات في المجال العملي، 'فلم يثبت التناقض بين قوى الإنتاج، وبين علاقات الإنتاج في النظام الرأسمالي قدر محتوم، فالرأسمالية لم تتغلب على التناقض، لكنها حققت إلى جانب ذلك تقدُّمات لم يسبق لها مثيل من قبل في مجالات انطلاق الإنتاج والعلم وإنتاجية العمل ـ كما ـ العلاقة بين الوجود والوعي أو بين 'القاعدة' و'البنية الفوقية' ليست كما تنبأ ماركس، فأمامنا رأسمالية في السويد ورأسمالية في الأرجنتين والاختلافات في القاعدة في هذين البلدين اختلافات في الدرجة. أما الاختلافات في بنيتهما الفوقية (من أشكال السلطة السياسية والقوانين والدين والفلسفة السائدة والفنون...الخ) فهي اختلافات جذرية'.
ولذلك عندما حصلت الثورة البلشفية في روسيا، فإنها لم تأت وفق النظرية؛ لأن الأمر جاء بتغيير يختلف عن النظرية الماركسية، فماركس يرى أن القضاء على
الرأسمالية، يأتي من خلال التناقض بين الطبقة العاملة المُستَغلة من الطبقة البرجوازية المسيطرة، وعندما يصل الاستغلال إلى أبشع صورة فـ(حتمي)، سيظهر
التناقض ويتم الصراع، ومن خلال ذلك الصراع، يتم القضاء على الطبقة المُستغِلة، وتنتهي حينئذ الطبقات بسيطرة الطبقة العاملة البروليتارية، ومن خلالها ينتهي
الاستغلال، لكن ما حصل في روسيا خالف الفكرة التي طرحها كارل ماركس، فلم تكن هناك رأسمالية قوية، ولم يتم الصراع بين الطبقات في روسيا ولم يتغير شيئاً؛ ولذلك تم تعديل الكثير من صلب النظرية الماركسية، وسمّيت (النظرية الماركسية/اللينينية). كما أن فكرة الدولة في هذه النظرية، أنها تبقى ما دام الصراع قائماً بين الطبقات، وعندما ينتهي الصراع، يسود المجتمع الشيوعي الذي وضعه ماركس وانجلز وتنتهي الدولة، ومع ذلك انتهت الطبقات في الاتحاد السوفيتي
سابقاً، ولم تنتهي الدولة، أنها زادت سيطرة وقوة، وليس العكس، ولم يأت النظام الموعود، حتى سقط الاتحاد السوفيتي 1991.
ويرى أيضاً د/ محمد عابد الجابري أن تحليلات كارل ماركس غير علمية 'فالتحليل المادي' للتاريخ كما مارسه ماركس ـ دع عنك قوالب المادية التاريخية الستالينية ـ ليس 'علمياً' لتطور المجتمعات عبر التاريخ، بل هو تنظير 'متحيّز' يمارس على الماضي الاقتصادي الاجتماعي ـ في أوروبا خاصة ـ الهدف منه لا الكشف عن 'الحقيقة' كما هي، بل إبراز أو بناء 'الحقائق' التي تركّز وتؤكد النتائج المستخلصة من الدراسة المشخصة للنظام القائم في 'الحاضر' ـ حاضر ماركس'.
لا شك أن الفلسفات والنظريات والرؤى الكبيرة الحالمة في أي عصر من العصور، لا يمكن النظر إليها وكأنها حقائق ثابتة لا عقبات في طريقها عند التطبيق، ذلك أن نسبية الأقوال البشرية عندما تحتك بالواقع المعاش وتحدياته تختلف عن التطبيق، ومن الصعب التنبؤ بما ستواجهه هذه الفلسفات من تعقيدات وعوامل فكرية وعقلية ونفسية، وكذلك أيضاً في مجالات اقتصادية وسياسية، قد لا يتم احتسابها عند طرح الأفكار.. في الأسبوع المنصرم ناقشنا فلسفات النظم الاجتماعية ـ الاشتراكية تحديداً ـ وكيف أنها رفضت الفلسفة الرأسمالية/ الليبرالية في تطبيقها على الواقع الغربي، وشقت لنفسها رؤية جماعية من حيث التطبيق لملكية الدولة لوسائل الإنتاج، بدلا من الرؤية الفردية التي تقدم مصلحة الفرد على مصلحة المجموع، وعلى حق هذا الفرد في الاستئثار بالمال وحركة دوران الاقتصاد في النظم الرأسمالية دون حواجز أو نظم تحد من هذا الاستئثار غير العادل، فظهرت الأفكار الاشتراكية تطالب بالبديل والحد من الفردانية في حرية التملك، ولاقت هذه الفلسفة رواجاً كبيراً في الغرب وعند شعوب كثيرة في العالم المعاصر، وأوسع التطبيقات حدثت في شرق أوروبا، أو ما يسمى بالمعسكر الاشتراكي آنذاك، وبدأ التطبيق بما يسمى بالنظرية العلمية (الماركسية)، لكن الواقع يختلف عن الرؤى النظرية، التي ربما تقيس لواقع بما لا تعطي صحة ما تقوله النظرية في الممارسة العملية، وهذا ما حصل في الدول الاشتراكية في تطبيقاتها الاشتراكية، فقد تم التطبيق في الاتحاد السوفيتي والدول التي في حلف وارسو، وكذلك الدول الاشتراكية المستقلة عن النفوذ السوفيتي التي تأخذ بالفكرة الاشتراكية، دون الانضمام للتحالف السياسي والاقتصادي السوفيتي مثل يوغوسلافيا، أو رومانيا أو الصين أو غيرها من الدول الاشتراكية. وقد لاقت النظرية الاشتراكية، والتي تبنت سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، نقداً شديداً بسبب سواء فيما يتعلق بالفكرة نفسها أو تطبيقاتها العملية، أو النظام القهري، مع غياب الحريات والتعددية السياسية، ومن الذين هاجموا الفكرة نفسها الفيلسوف النمساوي 'كارل بوبر' في كتابه المجتمع المفتوح وأعداؤه)، وللحق أن بوبر انتقد الرأسمالية بشدة أيضاً، في هذا الكتاب، ووافق الفلسفية الاشتراكية وأحقية المظلومين من تعسف الرأسمالية المنفلتة .. يقول بوبر في هذا الكتاب، أنه لا يؤمن بالتنبؤات التي تدعي بحصول تغييرات (حتمية) من خلال صراع الطبقات، فيقول: 'إن استنتاج ماركس ـ وهو مجيء مجتمع بلا طبقات، لا ينتج عن المقدمات، وإن لا بد من التصريح بأن الخطوة الثالثة في حجة ماركس غير مقنعة'. لكنه -كارل بوبر- يرى في هذه الرؤية المخالفة لصراع الطبقات أو عدم حصوله واقعياً، فيقول: 'فمن الممكن مثلاً أن يسهم الكفاح الطويل وحماسة النصر في الشعور بتضامن قوي بما يكفي للاستمرار، إلى أن توجد قوانين تمنع الاستغلال وإساءة استخدام السلطة الناشئة. (فإنشاء مؤسسات ديمقراطية تراقب الحكام هو الضمان الوحيد للقضاء على الاستغلال)'. وهذا ما حصل بعدما وجدت الليبرالية الكلاسيكية في الغرب الرأسٍمالي، وحصلت الحريات العامة، كحرية التعبير والنقد للسياسات القائمة على الرؤية الفردية، من خلال الديمقراطية حصلت الكثير من التعديلات على الرؤية الفردية، وتم إعطاء الحقوق للعمال من خلال الحركة النقابية، في الوقت الذي بقى الجمود في الاشتراكية، وأصبح العامل في الغرب الليبرالي يحصل على حقوقه أفضل من النظم الاشتراكية.
أيضا المفكر البوسني د/ علي عزت بيجوفيتش، وهو الذي عاش حياته في جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية، ولامس تطبيقاتها القاسية، وقد سجن وعذب بسبب رؤيته للحرية والتعددية السياسية التي لم يقبلها النظام، ومع أنه انتقد الكثير من الأفكار الماركسية، لكنه يعترف بما حققته الاشتراكية، فيقول : 'لا يمكننا التغاضي عن إنجازات النظام الاشتراكي، خصوصاً في مجال تعبئة الموارد المادية وفي التعليم وفي القضاء على صور الفقر التقليدية'. لكن د/ علي عزت بيجوفيتش، وجه انتقادات لهذا الفكر الشمولي، وفي الأفكار نفسها، ومنها قضية (الحتمية)، والتناقض بين الطبقات، التي أصر عليها ماركس في نظريته، باعتبارها قضية علمية، لكن الواقع خالف تلك التوقعات في المجال العملي، 'فلم يثبت التناقض بين قوى الإنتاج، وبين علاقات الإنتاج في النظام الرأسمالي قدر محتوم، فالرأسمالية لم تتغلب على التناقض، لكنها حققت إلى جانب ذلك تقدُّمات لم يسبق لها مثيل من قبل في مجالات انطلاق الإنتاج والعلم وإنتاجية العمل ـ كما ـ العلاقة بين الوجود والوعي أو بين 'القاعدة' و'البنية الفوقية' ليست كما تنبأ ماركس، فأمامنا رأسمالية في السويد ورأسمالية في الأرجنتين والاختلافات في القاعدة في هذين البلدين اختلافات في الدرجة. أما الاختلافات في بنيتهما الفوقية (من أشكال السلطة السياسية والقوانين والدين والفلسفة السائدة والفنون...الخ) فهي اختلافات جذرية'.
ولذلك عندما حصلت الثورة البلشفية في روسيا، فإنها لم تأت وفق النظرية؛ لأن الأمر جاء بتغيير يختلف عن النظرية الماركسية، فماركس يرى أن القضاء على
الرأسمالية، يأتي من خلال التناقض بين الطبقة العاملة المُستَغلة من الطبقة البرجوازية المسيطرة، وعندما يصل الاستغلال إلى أبشع صورة فـ(حتمي)، سيظهر
التناقض ويتم الصراع، ومن خلال ذلك الصراع، يتم القضاء على الطبقة المُستغِلة، وتنتهي حينئذ الطبقات بسيطرة الطبقة العاملة البروليتارية، ومن خلالها ينتهي
الاستغلال، لكن ما حصل في روسيا خالف الفكرة التي طرحها كارل ماركس، فلم تكن هناك رأسمالية قوية، ولم يتم الصراع بين الطبقات في روسيا ولم يتغير شيئاً؛ ولذلك تم تعديل الكثير من صلب النظرية الماركسية، وسمّيت (النظرية الماركسية/اللينينية). كما أن فكرة الدولة في هذه النظرية، أنها تبقى ما دام الصراع قائماً بين الطبقات، وعندما ينتهي الصراع، يسود المجتمع الشيوعي الذي وضعه ماركس وانجلز وتنتهي الدولة، ومع ذلك انتهت الطبقات في الاتحاد السوفيتي
سابقاً، ولم تنتهي الدولة، أنها زادت سيطرة وقوة، وليس العكس، ولم يأت النظام الموعود، حتى سقط الاتحاد السوفيتي 1991.
ويرى أيضاً د/ محمد عابد الجابري أن تحليلات كارل ماركس غير علمية 'فالتحليل المادي' للتاريخ كما مارسه ماركس ـ دع عنك قوالب المادية التاريخية الستالينية ـ ليس 'علمياً' لتطور المجتمعات عبر التاريخ، بل هو تنظير 'متحيّز' يمارس على الماضي الاقتصادي الاجتماعي ـ في أوروبا خاصة ـ الهدف منه لا الكشف عن 'الحقيقة' كما هي، بل إبراز أو بناء 'الحقائق' التي تركّز وتؤكد النتائج المستخلصة من الدراسة المشخصة للنظام القائم في 'الحاضر' ـ حاضر ماركس'.