أعمدة

نوافذ : ما تخفيه الأسئلة

أن نسأل خير لنا أن نموت على جهلنا، هناك ثمة قضية معلنة، وأخرى مخفية تتكتم عليها الأسئلة، تبعثها الهواجس، والخوف، والحيرة، ويلعب الخيال الدور الأكبر في طرحها، فهناك ثمة علاقة واسعة بين الخيال وطرح الأسئلة، ولذلك نسمع من الأطفال الأسئلة المحرجة، والواقعية، والمبالغ في تعميق المعرفة عن شيء ما، ولفرط الخوف في مطب الحقيقة المجردة، ترانا نهرب من أسئلتهم الصادمة، فلعل الجهل؛ هنا؛ وإن كان غير محبذ، يعيننا على الانفلات من حرج الإجابة.

تأتي الـ 'حشرية' كما يصفها البعض؛ أو الفضول، كأول الدوافع لطرح الأسئلة، لتبيان ما خفي؛ للضرورة؛ وقد لا يكون للضرورة مكان، ولكن لأن الإنسان بني فكره على شيء من هذا الفضول، فيتقصى ما خفي، لظنه أنه ما خفي فهو أعظم من المتاح له، ومن اعتاد على ذلك فسوف يغالبه 'ظني' الشك، فيغالي من طرح الأسئلة، وهذه مسألة جد خطيرة، ومن يقع في براثنها ليس يسيرا تحرره منها، فالناس؛ في المقابل؛ ميالون إلى الصمت، ومتأففون من طرح الأسئلة.

تذهب الأسئلة إلى تفكيك الحزم والوصول إلى التفاصيل، فحزم ما خفي لن يكون متاحا على قارعة الطريق، فالحقائق؛ غالبا؛ ما تكون بين السطور، ومن هنا يستلزم طرح الأسئلة لاستجلاء الحقائق، فكثير من المعرفة لم تعلن عن حقائقها الكثيرة إلا من خلال تفكيك رموزها، والوصول إلى تفاصيل التفاصيل، ولو أن هذه التفاصيل ليس يسيرا الحصول عليها، أو الوصول إلى ماهياتها، ولعل هذا الأمر يخص أكثر الباحثين، والمجتهدين، فاستجلاء المعارف متوقف على كم الأسئلة المطروحة، ولعلنا نلحظ هذا الكم في الاستبانات البحثية التي يستجلي من خلالها مجموع الباحثين المسارات الصحيحة للوصول إلى الحقائق المعرفية التي يودون الوصول إليها.

يقينا؛ لن تجيب الأسئلة عن كل ما يحيرنا أو يثيرنا، لأنه لا توجد حقائق مطلقة عند أي منا، فلا نزال نتتبعها بالأسئلة المتتالية، والمتشعبة، فما بين الفواصل والمسافات، ثمة حقيقة كامنة، وثمة معرفة متاحة، تحتاج إلى جهد الباحث السائل، وإلى جهد من يقلقه السؤال، فالصمت عدو المعرفة، وكما يقال: قل لي من أنت حتى أعرفك، ولا تتسمر أمامي بهيأتك البهية، فهذا لا يكفي.

ليس هناك من لا يشغله السؤال، أكثر من الإجابة؛ كما أتصور؛ لأننا في مواجهة الآخر معنيون بالسؤال أكثر من الإجابة، وإذا كنا، كأناس عاديين، لا نمتهن السؤال إلا بقدر الحاجة، فإنا هناك منا، من يتخذ السؤال مهنة، فالصحفيون، والإعلاميون، والمحققون، والأطباء، والمعلمون، وقبلهم المربون، فهؤلاء كلهم يحملون السؤال وشاحا على صدورهم، فعنوانهم سؤال، ومحطتهم سؤال، وتجلية طريق مسيرهم سؤال، فرؤاهم الاستشرافية لن تكون واضحة إلا بعد طرح السؤال، فهم بالسؤال؛ ومع السؤال يعيشون.

ثمة وسيلة لكسر حاجز الصمت بين المربي والتلميذ، وبين الطبيب والمريض، وبين القائد والمقود، وبين الرئيس والمرؤوس، هذا الكسر لن يتحقق إلا من خلال طرح الأسئلة، فللأسئلة فعل السحر في تقريب وجهات النظر، وفي تجسير الفجوات، وفي انصهار كرات الثلج، وفي تمتين حبال المودة، ومن فقد طرح الأسئلة، فاته الكثير من هذه المعززات، فحيث توجد الأسئلة يهرب الخوف، وتنسحب الحيرة، وتلتئم الفجوات.

هناك من تقلقه الأسئلة في طرحها، حيث تربكه المواقف، وهناك من تقلقه الأسئلة؛ فينفعل في مواجهتها، وهناك من يرى في الأسئلة إضاءات معرفية للبدء في حديث يطول، وحيثما كانت المواقف والدلالات الانفعالية تجاه الأسئلة، تبقى صورة الأسئلة هي الواجهة التي نتكئ عليها جميعنا سواء في امتحان أنفسنا، أو امتحان الآخر الذي نواجهه، ولعل الدعاء الذي نرجوه من الآخر في محطتنا الأخيرة هو ختام الأسئلة: 'اللهم ثبته عند السؤال'.