أفكار وآراء

في سياسة القِيَم

لطالما ظلت القيم العليا؛ كحقوق الإنسان، هي الأساس الفلسفي للحداثة الغربية، وظل الإيمان النظري بتلك القيم هو جوهر الحجاج الفلسفي لعصر التنوير من خلال مؤلفات عديدة لفلاسفة ذلك العصر.

لكن، يجب ملاحظة أمرين هنا؛ الأول: إن الإنسان الذي كان الدفاع من أجله لتعزيز تلك الحقوق في وعي فلاسفة التنوير، كفولتير مثلا، كان هو الإنسان الأوربي تحديدا. والثاني أن ذلك كان واضحا في طبيعة الشرعية الديمقراطية للدولة -الأمة الاستعمارية في أوروبا القرن التاسع عشر؛ إذ لم تمنع تلك الديمقراطيات الأوروبية نفسها عن انتهاك حقوق إنسان آسيا وأفريقيا خلال الحقبة الاستعمارية ونهب ثرواته دون أن يرف لها جفن.

وإذا كان فولتير نفسه، مثلا، قد كتب مقالا عن أنواع البشر أتى فيه بالعجائب من حيث تصنيف البشر الذين فرق بينهم فروقا عنصرية، فإن ذلك يحيلنا بالضرورة إلى فكرة أنه: مهما بدا من شعار سياسة القيم في الفضاء التنظيري فإنها في مجال سياسات الدولة الحديثة ليست قيما مطلقة، وإنما تخضع للتوظيف في أفق المصالح السياسية لكل دولة على حدة.

ولعل المجال الأبرز اليوم للوعي البارد الذي تعكسه مؤسسة دولية كبرى كالأمم المتحدة وقراراتها، التي لم تنفذ رغم تعلقها بحقوق سياسية مستندة إلى حقوق الإنسان، كقرارات الأمم المتحدة حول قضية فلسطين؛ يكشف لنا عن طبيعة الأخذ النسبي بتلك القيم، كما يكشف لنا، من زاوية أخرى؛ حدود الأخذ بتلك القرارات من قبل القوى الدولية، من ناحية، ومن قبل الدول التي تملك حق الفيتو في مجلس الأمن، من ناحية ثانية والحال، أننا سنجد أنفسنا حيال هذا الواقع أمام نسبية مقصودة في استخدام سياسية القيم من حيث ممارسات الدول الكبرى، وهي نسبية تختلف عن المبادئ النظرية التي أقرتها الحداثة السياسية، وكذلك تختلف حتى عن مواثيق الأمم المتحدة المتصلة بتلك القيم في مواقفها السياسية من قضايا عادلة كثيرة في العالم.

والسؤال الفلسفي الذي يفرض نفسه هو: هل يمكن أن يحدث تطابق بين الحق المطلق في الأخذ بالقيم الإنسانية لحقوق الإنسان، كما هي في الأسس النظرية لفلسفة الحداثة، وبين الاستخدامات المسيسة لتلك الحقوق في سياسة القيم عبر ممارسات القوى العظمى؟ نتصور: أن ذلك لن يكون ممكنا أبدا في ظل القاعدة الحتمية الحاكمة للأصل المادي في فلسفة الحداثة السياسية، وهي فلسفة تقوم على مبدأ النفعية ولا تؤمن بالخير المطلق والخالص؛ لأن فعل الخير الخالص عادة ليس مما تحبذه المبادئ الاعتبارية للدولة الحديثة. ولهذا سنجد أن القانون الدولي هو نقطة ضعف الحداثة السياسية التي فيما تقر تلك الحداثة بكل تفاصيله إقرارا نظريا لكن ذلك لا يطبق بصورة مطلقة في سياسات الدول ولاسيما الدول الكبرى.

هل ذلك يعني: اليأس من أي فكرة للخير العام في سياسات الدول الكبرى؟ الإجابة لا بطبيعة الحال، لكننا في الوقت نفسه سنجد أنفسنا أمام خيارات مختلفة في سياسات الدول الكبرى.

صحيح أن الدول الكبرى وسياساتها ليست سياسات جمعيات خيرية، لكن كلما كانت المبادئ الدستورية لدولة كبرى، كالولايات المتحدة الأمريكية، تعزز من قيم حقوق الإنسان؛ كلما كان أفق حقوق الإنسان مرتبطا بحدود تلك المصالح، وكذلك بالسياسات النسبية لكل حزب في الأخذ الجاد بتلك القيم في سياسته الخارجية.

وغني عن القول؛ أن الفرق هنا سيكون واضحا؛ بين دولة تتبنى سياسة القيم في خلفيتها الدستورية وسياساتها بحسب موقعها في العالم كالولايات المتحدة، وبين دول أخرى لا تطبق سياسة القيم وحقوق الإنسان بحذافيرها حتى في حدودها السياسية ناهيك عن خارج تلك الحدود؛ ككل من الصين وروسيا! هكذا سنجد أن العالم الحديث، ووفق صيرورة الدولة الأمة، قد حقق مكاسب كبيرة في سياسة القيم، ولو نظريا، كما هو في ميثاق الأمم المتحدة، والبروتوكولات والمعاهدات التي أصدرتها المنظمة الدولية.

صحيح، أن العالم اليوم ليس فيه عدل مطلق، لكن في الوقت نفسه أصبح أفضل بكثير من الحياة الإنسانية العامة لقرون ما قبل الحداثة، وبفضل الحداثة السياسية اليوم أصبحت حركة الناس وحرياتهم وعيشهم متاحا في جميع الدول والمجتمعات، وذلك ما لم يكن ممكنا في العصور القديمة.

إن سياسية القيم، رغم الاستخدام الذرائعي لها في أجندات القوى الكبرى، تعتبر مكسباً نسبياً مهماً!