أفكار وآراء

بعد كورونا، قبل النسيان

حِصّة البادية -

كم من الوقت نحتاج كي نتذكر - لا كي ننسى - ما خلّفت كورونا في حياتنا من آثار؟ نعم نحتاج التذكر رغم أن الأمر يبدو غريبا، إذ أن عشرات الأبحاث تثبت تأثير كورونا سلبا على الذاكرة، إما بأثر غير مباشر عبر العزل والحجر، وما يخلفانه من عزلة قد تؤثر على التركيز والإدراك وتؤذي الذاكرة، أو بأثر مباشر نتيجة للإصابة بالفيروس، بل إن بعض الباحثين سجّل فعليا حالات لفقدان الذاكرة لدى المتعافين من كورونا بعد أشهر من الإصابة.

ومع تداخل الواقع المعاش بالواقع الرقمي لا نجد مناصا من قراءة تأثير هذا الوباء على ما ستحمله الذاكرة من ترسباته، عبر ما مرّ بنا من اليومي العابر (أخبار، وفيات، تعازٍ، شكوى، صور) أو تفاصيل وتداعيات ما قد يسكن عميقا من خوف أو ترقب، فقد أو حزن.

كل هذه التفاصيل المعاشة يوميا - وإن لم تكن شخصية - لن نعود بعدها كما كنا قبل كورونا يقينا.

مشاهد لا يمكن إلا أن تخدش أعماقنا وتترك في الذاكرة ندوبا لا تنسى:

- احترازات كورونا وكماماتها التي صيّرتنا نسخا متشابهة حيثما كنا في هذا العالم؛ إذ لم تنس كورونا أحدا، ومن فاتتهم الموجة الأولى استدركوها عبر تزاوجها المباغت في موجات أُخَر لتجمع قارات العالم المختلفة؛ فلا تكاد بقعة تنجو من سكنى أو عبور لهذا الوباء.

- انتظار وترقب نتيجة الفحص.

- الحجر أوان المخالطة وقلق التحول للعزل، وخشية التسبب بالعدوى لقريب ضعيف المناعة أو زميل دائم الصحبة.

- العزل أوان الإصابة وما قد يخالطه من رعب العزلة من جهة، وترقب الأسوأ من آثار كورونا من جهة أخرى.

- إصابة قريب لا تملك معها قربا منه، ولا مد يد العون إليه، خصوصا إن كان في مرحلة حرجة.

- فقد قريب أو حبيب لن تملك حتى وداعه كما ينبغي، وستنزف عميقا لشعورك بحرمانك وحرمانه وداعا أخيرا يليق بما بينكما من ذكريات.

- انفتاح العالم الرقمي المفتوح على أخبار كورونا، هواجسها، موجاتها المختلفة والمتتابعة، أعراضها المتحولة.

- آثار كورونا لا على أجسادنا وأرواحنا وحسب، بل على حياتنا ومجتمعاتنا في جميع جوانبها الاجتماعية والاقتصادية.

- معالجات كورونا وبدائلها التي أكسبتنا مهارات تقنية فنية، كما أكسبتنا مناعة ضد الصدمات والفقد والحزن؛ لما اتسع من فضاءات تواصلية تكثّف معها ما تراكم في أرواحنا من أسى متصل.

- تحولنا من مخلوقات جمعية تتصل بحلقات من الأفراد حتى في أبسط أنشطتها اليومية كالمأكل والمشرب إلى مخلوقات تخشى التجمع وتميل للعزلة، أو تضييق حلقاتنا الرحبة إلى دوائر مغلقة من أعداد محدودة، أو استبدال عوالمنا الواقعية التفاعلية إلى عوالم افتراضية، ضاعفنا فيها حضورنا كما ضاعفنا مخاوفنا، وتشاركناها حوارا و رفدا كما تشاركناها أحزانا وفقدا.

- حالة الترقب والانتظار لبيان اللجنة العليا بين مسكون بالقلق يتحرى إغلاقا ومسكون بالجمع يتحرى إطلاقا.

ما صنعت كورونا كثيرا لا يَخفى، ولا يُنسى، فأنّى لنا نسيان ما حرمتْنا من بركات والدينا عبر قُبلة على رأسِ والدٍ، أو انحناءٍ على يدي والدة؟!، هل ننسى دمعا تكثّف فانهمر، أو تخفّى فاستتر مع خطوات تفصلنا عن أحبتنا أوان حجر أو عزل؟!، وهل ينَسى الواقفُ على نافذةٍ بعيدة جسدا كان يرقبه حتى فارقت الروح منه الجسد ولم يُمكّن حتى من وداعه؟! هل يمكن لذلك الراحل البعيد نسيان وحدته وعزلته؟ ترى هل رحلَ خائفا، حزينا أم عاتبا؟ هل باغته الموتُ كما باغتته كورونا؟ أم انتظر طويلا حتى حمّل ذاكرته وذاكرةَ الأحبةِ حوله أكواما من حنين وذكريات بين ألم وأمل، كانت زادا لذلك الانتظار وعتادا بعدها إما لفقدٍ نخشاه أو لقاء نتمناه؟.

لم تكتف كورونا باقتحام ذاكرتنا ونحت آثارها في زواياها، بل تجاوزتها لابتكار «ذاكرة مناعية « خاصة لمقاومتها، ذاكرة تطول وتقصر تماما كما تفعل ذاكرتنا لمقاومة الشيخوخة والهرم.

لكل منا ذاكرة ملأى سردا بتفاصيل كورونا، يحاول بعضنا كتابتها توثيقا لهذه المرحلة، ثم تجاوزها تنفيسا عبر توقيعها في محاولة للتحرر والنجاة، كما يحاول بعضنا الآخر تجاوزها بالتغافل والتناسي علّها تمر اعتقادا أن في التجاهل تخفيفا من آثارها الباقية على ذاكرتنا الفردية والجماعية.

ومع كل هذه المشاهد اليومية عبر أعوام تمر بيننا، هل يمكن أن يتسرب ذلك من تلافيف الذاكرة ليسقط مع أعراض كورونا إلى العدم؟ أم أنه سيبقى شاهدا على حالة نادرة من تعايش العالم بأكمله مع ذاكرة جمعية غيرت وستغير أولوياتنا وطريقة تفكيرنا وحتى عواطفنا؟