نقطة ضوء .. وسط معارك حاقدة!!
الاثنين / 11 / شوال / 1442 هـ - 21:28 - الاثنين 24 مايو 2021 21:28
ليس من المبالغة في شيء القول بأن المواجهات العسكرية التي امتدت أحد عشر يوما بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة بقيادة حركة حماس (من 10 إلى 21 مايو الجاري) كانت من أكثر المعارك التي جسدت رصيد الحقد والرغبة المتبادلة في الإجهاز على الآخر، أو على الأقل أحداث أكبر قدر ممكن من الإيذاء له وهز الاستقرار وإشاعة الخوف والهلع بين المدنيين في جبهته الداخلية، وهذه كلها هي أدوات وتكتيكات لمحاولة كسر إرادة الخصم والوصول به إلى قناعة ما لتغيير مواقفه، وربما دفعه على طريق يمكن أن يقود إلى توافق أكبر على طريق الحل للقضايا المختلف عليها.
وفي ضوء حقيقة أن كلا الطرفين، إسرائيل من جانب وفصائل المقاومة في غزة مسنودة بالفلسطينيين في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر ورصيد التأييد العربي الأوسع، خاصة على المستوى الجماهيري من جانب آخر، لا يمكنه شطب الآخر أو الإجهاز عليه، ليس فقط لصعوبة ذلك عمليا، ولكن أيضًا لأن مصلحة كل منهما تمنعهما من ذلك في النهاية، بغض النظر عن أي تصريحات عنترية على هذا الجانب أو ذاك، فإن جولة الحرب الرابعة بين إسرائيل وحماس انتهت بالاتفاق على وقف إطلاق النار بين الطرفين صباح يوم الجمعة الماضي، وتسعى مصر بكل إمكانياتها، وبالتعاون مع أطراف أخرى، من أجل الحفاظ على وقف إطلاق النار، والانطلاق منه إلى ما ينبغي أن يكون، أو ما هو مأمول، وهو استئناف المفاوضات بين إسرائيل ودولة فلسطين للتوصل إلى حل يرتكز على مبدأ حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 67 وعاصمتها القدس الشرقية وبما يتفق مع مبادرة السلام العربية المطروحة منذ عام 2002، فضلًا عن قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالحفاظ على الحقوق الفلسطينية المشروعة وغير القابلة للتصرف.
وإذا كانت الحروب، بحكم طبيعتها، وأيا كانت مستوياتها، ترتكز بالضرورة على الكثير من الحقد المتبادل بين أطرافها، فإن الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الأخيرة كانت حافلة بمظاهر الحقد في كل ما صاحبها من ممارسات صنفتها على أنها حرب عمياء، لشدة وبشاعة القصف العشوائي من جانب كلا الطرفين للطرف الآخر دون اعتبار لا للمدنيين ولا للأطفال ولا لأي اعتبارات إنسانية، وكان القصف الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة أبلغ دليل على ذلك، وما تركته الحرب من استشهاد أكثر من 250 شهيدا فلسطينيا، منهم نحو 65 طفلًا و38 امرأة، وأكوام المباني المهدمة والمرافق التي تم إخراجها من الخدمة والمنشآت التي لم تعد صالحة للعمل، والأسر التي قتلت بأكملها، دليل على الهمجية الإسرائيلية التي تجسدت كذلك في ممارسات الجنود وعناصر الأمن الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين العزل في القدس الشرقية والضفة الغربية والمدن الإسرائيلية المختلطة مثل اللد وعسقلان وعكا وحيفا وغيرها.
وقد أيقظ ذلك المحكمة الجنائية الدولية وأطرافا مختلفة أشارت إلى الانتهاكات التي تعد جرائم حرب وجرائم متكاملة ضد الإنسانية ينبغي محاسبة مرتكبيها، على كلا الجانبين.
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هو ماذا أسفرت عنه هذه الحرب؟ وهل يمكن حدوث مواجهة أو مواجهات عسكرية أخرى بين إسرائيل وحماس؟ وهل هناك من سبيل لتجنب مثل هذا الاحتمال؟ على أي حال فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى بعض الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا: أنه في ظل طبيعة الحروب الحديثة، وتعذر تحقيق النصر بمفهومه القديم، أو التقليدي، المتمثل في استسلام طرف لمطالب الطرف الآخر، فإن النصر أصبح أمرًا نسبيًا ومطاطًا بشكل أكبر من أي وقت مضى، وينظر البعض إلى أنه طالما فشل العدو في تحقيق هدفه الأساسي في كسر الطرف الآخر، فإن ذلك يعد نصرا، بغض النظر عن واقع الحال على الأرض، خاصة أن هناك حاجة أحيانًا إلى رفع معنويات الجماهير والحيلولة دون إحباطها بكل الطرق الممكنة.
ولعل هذا هو ما يفسر أحاديث النصر بلغة مباشرة في قطاع غزة، وبلغة غير مباشرة في أوساط الحكومة الإسرائيلية وخاصة من جانب رئيسها بنيامين نتانياهو الذي تحدث عن تحقيق أهداف إسرائيل على حد زعمه. على أي حال فإن نتانياهو الذي فوجئ بوصول زخات الصواريخ إلى تل أبيب وإلى القدس وإلى العديد من المدن الإسرائيلية، على نحو غير مسبوق، وبأعداد قدرت بما يتراوح بين 3600 و3800 صاروخ مختلفة الأحجام والمديات، عمد إلى شن غارات جوية وقصف مدفعي وعمليات اغتيال وقصف أنفاق لا يمكن أن توصف إلا أنها أعمال انتقامية حاقدة ضد كل ما هو فلسطيني، سواء في قطاع غزة، أو في الضفة الغربية. ومما له دلالة أن نتانياهو نفسه الذي رفض وقف الحرب في منتصف الأسبوع الماضي، واستمر في عملياته ثلاثة أيام أخرى على الأقل بعدها قال إنه حقق ما كان يريده من تدمير للبنية الأساسية العسكرية لحركة حماس، بما في ذلك تدمير جانب كبير من شبكة الأنفاق التابعة لحماس، وأن إسرائيل حققت في أحد عشر يوما من القتال والقصف ما يعادل ما حققته في حروبها السابقة ضد حماس، بما في ذلك اغتيال 35 من القيادات العسكرية الفلسطينية، وهى خسارة كبيرة بالتأكيد.
ومع التشكك في مصداقية ما يعلنه نتانياهو، خاصة أنه يحرص على إقناع الرأي العام الإسرائيلي بصواب رده الهمجي الانتقامي ضد قطاع غزة، وتغليف ذلك بهدف ردع حركتي حماس والجهاد الإسلامي، حتى لا تعودا إلى قصف المدن الإسرائيلية بالصواريخ في المستقبل، إلا أن الواقع هو أن حركة حماس كسرت «التابو» بقصفها الواسع النطاق للمدن الإسرائيلية بالصواريخ، وسيكون هذا القصف ممكنا في أي مواجهات قادمة مع إسرائيل، كمحاولة للتأثير على الجبهة الداخلية الإسرائيلية وإحراج الحكومة.
ولكن السؤال هو هل يستمر نتانياهو في الحكم في إسرائيل؟ وهل سيستمر في قيادة تحالف الليكود، المؤكد أن ذلك سيخضع لمدى قدرة يائير ليبيد في تشكيل الحكومة الإسرائيلية القادمة، ومدى احتمال إجراء جولة خامسة من الانتخابات الإسرائيلية لن تكون في صالح نتانياهو والليكود على الأرجح، خاصة أن قطاعا يتزايد في إسرائيل أخذ يعيد حساباته وتقديره لسياسات نتانياهو، وتعامله غير المناسب مع عرب إسرائيل الذين أصبحوا يشكلون مشكلة، لا بد من التعامل المختلف معها من جانب الحكومة الإسرائيلية أكثر من أي وقت مضى، وأنه بات ضروريا إعادة ترميم العلاقة بين عرب إسرائيل -الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وبين المجتمع الإسرائيلي- والذين يصل عددهم إلى نحو مليون وسبعمائة ألف فلسطيني لا يمكن عزلهم ولا طردهم ولا الاستمرار في الاستهانة بهم وإهمال متطلبات حياتهم، خاصة أن هؤلاء يرون أنفسهم مواطنين إسرائيليين من حقهم تلقي الخدمات نفسها التي يتلقاها الإسرائيليون، وأن تعاطفهم مع إخوانهم في قطاع غزة لا يضعهم في مواجهة السلطة الإسرائيلية بشكل جادٍ برغم محاولات التهييج من جانب اليمين الإسرائيلي ضدهم، وهو ما سيحظى باهتمام السلطات الإسرائيلية خلال الفترة القادمة للحيلولة دون ظهور مشكلة يمكن أن تهدد إسرائيل من الداخل في المستقبل.
على الصعيد الفلسطيني، فإنه مع إدراك الشعور بالرضا من جانب حماس، بعد قصفاتها الصاروخية غير المسبوقة للمدن الإسرائيلية، وبغض النظر عن حديث إسماعيل هنية قائد حماس في غزة حول «النصر الإلهي وإفشال صفقة القرن واتفاقيات إبراهام والدفاع عن الأقصى»، فإن قطاع غزة يواجه الآن مشكلة ضخمة لوجستية وتنموية وحتى على صعيد التخلص من ركام الدمار تمهيدًا لإعادة البناء، والتكلفة الضخمة لهذه العملية.
وإذا كانت مصر قد سارعت بتقديم نحو 3000 طن من المساعدات المختلفة للقطاع والتعهد بتقديم 500 مليون دولار للمساعدة في عمليات الإعمار، إلا أن الوضع في غزة يحتاج إلى الكثير من الأموال فهل سيقدمها الاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربية والولايات المتحدة، أم أن الأمر سيكون تكرارًا لما حدث بعد حرب 2014 والتي لم تكف سبع سنوات لترميم كل ما تهدم من بيوت ومرافق فلسطينية في تلك الجولة، ولم تتم إعادة بناء عدد منها حتى الآن؟ من جانب آخر فإنه إذا كانت محاولات استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية من فتح وحماس والفصائل الأخرى قد تعثرت، حتى الآن على الأقل، فإنه برغم أهمية وضرورة استعادة الوحدة الفلسطينية الآن واتخاذ مواقف فلسطينية مشتركة حيال مختلف التطورات، إلا أن احتمال استعادة الوحدة الفلسطينية قد لا يكون الآن أفضل مما كان عليه قبل الحرب الأخيرة، خاصة بعد ما تحقق لحركة حماس من تعاطف واسع على مستوى الشارع الفلسطيني والعربي والإسلامي، وبعد محاولات قوى وأطراف إقليمية التلفع بالكوفية الفلسطينية في الآونة الأخيرة واستغلال ما حدث لخدمة مصالحها في المقام الأول بغض النظر عن المصالح الفلسطينية.
ثانيا: إنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن نقطة الضوء التي ظهرت من بين ركام حرب الحقد العمياء التي استمرت أحد عشر يوما، تتمثل في ظهور بوادر إدراك متزايد لأهمية وضرورة العمل للتوصل إلى حل سياسي يقوم على أساس حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية على حدود 67، وتتمثل أهمية هذا التطور، الذي ظهر بوضوح داخل إسرائيل -وعبّرت عنه العديد من المقالات والتعليقات في الصحف الإسرائيلية في الأيام الماضية - وعلى المستوى الأمريكي، خاصة داخل الحزب الديمقراطي وفي تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه، وعلى صعيد الاتحاد الأوروبي أيضا، في أنه يستند إلى قناعة مفادها أن إسرائيل لن تشعر بالأمن بدون إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وأن المنطقة بكاملها يمكن أن تدخل مرحلة جديدة مختلفة في جوانب عديدة، إذا تم التوصل إلى تسوية شاملة ودائمة، وأنه من غير الممكن إهمال أو تجاوز الفلسطينيين، وأن المواجهات يمكن أن تتكرر إذا استمر الوضع الراهن.
ومن هنا ظهرت بالفعل دعوات لاستئناف محادثات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ولا تزال موسكو تعرض استعدادها لاستضافة محادثات إسرائيلية-فلسطينية بمشاركة الرباعية الدولية وأنها -موسكو- تنتظر رد إسرائيل بعد أن وافق الفلسطينيون على تلك المبادرة الروسية.
وإذا كانت فرص نجاح العرض الروسي تظل محدودة، بالنظر إلى الخلافات الروسية-الأمريكية من ناحية، وتجنب حكومة نتانياهو -وهي حكومة تصريف أعمال- التجاوب مع هذا الاقتراح من ناحية ثانية، فإن واشنطن يمكنها القيام بدور بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا بالطبع، ومن خلال الضغط على إسرائيل بشكل يحملها على التجاوب والعودة لاستئناف المحادثات المتوقفة منذ عام 2014، غير أن ذلك سيصدم بالضرورة بعراقيل من جانب إسرائيل، خاصة إذا رفضت وقف عمليات الاستيطان وطرد الفلسطينيين في القدس الشرقية، كما أن حماس يمكن أن تطرح نفسها كطرف يشارك في التفاوض المقترح، وهو ما يمكن أن يشكل مشكلة للسلطة الفلسطينية إذا لم تتمكن من التوصل إلى توافق ما مع حركة حماس يسمح بإدارة الموقف الفلسطيني على نحو يخدم المصالح الوطنية الفلسطينية في النهاية.
وبالرغم من أهمية نقطة الضوء المشار إليها إلا أن خبرة التطور في المنطقة تشير بوضوح إلى أنه سيمر غالبًا وقت غير قليل قبل أن تتبلور إرادة مختلف الأطراف لاستئناف المحادثات الفلسطينية-الإسرائيلية، وحتى يتحقق ذلك فإن عبئا كبيرا يقع على عاتق القاهرة للحفاظ على استمرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، ومنع تفاقم أي احتكاكات محتملة وتطورها إلى انفجار واسع قد يجد فيه هذا الطرف أو ذاك فرصة لخلط الأوراق والهروب من استحقاقات باتت ضرورية على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني كذلك.
وفي ضوء حقيقة أن كلا الطرفين، إسرائيل من جانب وفصائل المقاومة في غزة مسنودة بالفلسطينيين في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر ورصيد التأييد العربي الأوسع، خاصة على المستوى الجماهيري من جانب آخر، لا يمكنه شطب الآخر أو الإجهاز عليه، ليس فقط لصعوبة ذلك عمليا، ولكن أيضًا لأن مصلحة كل منهما تمنعهما من ذلك في النهاية، بغض النظر عن أي تصريحات عنترية على هذا الجانب أو ذاك، فإن جولة الحرب الرابعة بين إسرائيل وحماس انتهت بالاتفاق على وقف إطلاق النار بين الطرفين صباح يوم الجمعة الماضي، وتسعى مصر بكل إمكانياتها، وبالتعاون مع أطراف أخرى، من أجل الحفاظ على وقف إطلاق النار، والانطلاق منه إلى ما ينبغي أن يكون، أو ما هو مأمول، وهو استئناف المفاوضات بين إسرائيل ودولة فلسطين للتوصل إلى حل يرتكز على مبدأ حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 67 وعاصمتها القدس الشرقية وبما يتفق مع مبادرة السلام العربية المطروحة منذ عام 2002، فضلًا عن قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالحفاظ على الحقوق الفلسطينية المشروعة وغير القابلة للتصرف.
وإذا كانت الحروب، بحكم طبيعتها، وأيا كانت مستوياتها، ترتكز بالضرورة على الكثير من الحقد المتبادل بين أطرافها، فإن الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الأخيرة كانت حافلة بمظاهر الحقد في كل ما صاحبها من ممارسات صنفتها على أنها حرب عمياء، لشدة وبشاعة القصف العشوائي من جانب كلا الطرفين للطرف الآخر دون اعتبار لا للمدنيين ولا للأطفال ولا لأي اعتبارات إنسانية، وكان القصف الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة أبلغ دليل على ذلك، وما تركته الحرب من استشهاد أكثر من 250 شهيدا فلسطينيا، منهم نحو 65 طفلًا و38 امرأة، وأكوام المباني المهدمة والمرافق التي تم إخراجها من الخدمة والمنشآت التي لم تعد صالحة للعمل، والأسر التي قتلت بأكملها، دليل على الهمجية الإسرائيلية التي تجسدت كذلك في ممارسات الجنود وعناصر الأمن الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين العزل في القدس الشرقية والضفة الغربية والمدن الإسرائيلية المختلطة مثل اللد وعسقلان وعكا وحيفا وغيرها.
وقد أيقظ ذلك المحكمة الجنائية الدولية وأطرافا مختلفة أشارت إلى الانتهاكات التي تعد جرائم حرب وجرائم متكاملة ضد الإنسانية ينبغي محاسبة مرتكبيها، على كلا الجانبين.
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هو ماذا أسفرت عنه هذه الحرب؟ وهل يمكن حدوث مواجهة أو مواجهات عسكرية أخرى بين إسرائيل وحماس؟ وهل هناك من سبيل لتجنب مثل هذا الاحتمال؟ على أي حال فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى بعض الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا: أنه في ظل طبيعة الحروب الحديثة، وتعذر تحقيق النصر بمفهومه القديم، أو التقليدي، المتمثل في استسلام طرف لمطالب الطرف الآخر، فإن النصر أصبح أمرًا نسبيًا ومطاطًا بشكل أكبر من أي وقت مضى، وينظر البعض إلى أنه طالما فشل العدو في تحقيق هدفه الأساسي في كسر الطرف الآخر، فإن ذلك يعد نصرا، بغض النظر عن واقع الحال على الأرض، خاصة أن هناك حاجة أحيانًا إلى رفع معنويات الجماهير والحيلولة دون إحباطها بكل الطرق الممكنة.
ولعل هذا هو ما يفسر أحاديث النصر بلغة مباشرة في قطاع غزة، وبلغة غير مباشرة في أوساط الحكومة الإسرائيلية وخاصة من جانب رئيسها بنيامين نتانياهو الذي تحدث عن تحقيق أهداف إسرائيل على حد زعمه. على أي حال فإن نتانياهو الذي فوجئ بوصول زخات الصواريخ إلى تل أبيب وإلى القدس وإلى العديد من المدن الإسرائيلية، على نحو غير مسبوق، وبأعداد قدرت بما يتراوح بين 3600 و3800 صاروخ مختلفة الأحجام والمديات، عمد إلى شن غارات جوية وقصف مدفعي وعمليات اغتيال وقصف أنفاق لا يمكن أن توصف إلا أنها أعمال انتقامية حاقدة ضد كل ما هو فلسطيني، سواء في قطاع غزة، أو في الضفة الغربية. ومما له دلالة أن نتانياهو نفسه الذي رفض وقف الحرب في منتصف الأسبوع الماضي، واستمر في عملياته ثلاثة أيام أخرى على الأقل بعدها قال إنه حقق ما كان يريده من تدمير للبنية الأساسية العسكرية لحركة حماس، بما في ذلك تدمير جانب كبير من شبكة الأنفاق التابعة لحماس، وأن إسرائيل حققت في أحد عشر يوما من القتال والقصف ما يعادل ما حققته في حروبها السابقة ضد حماس، بما في ذلك اغتيال 35 من القيادات العسكرية الفلسطينية، وهى خسارة كبيرة بالتأكيد.
ومع التشكك في مصداقية ما يعلنه نتانياهو، خاصة أنه يحرص على إقناع الرأي العام الإسرائيلي بصواب رده الهمجي الانتقامي ضد قطاع غزة، وتغليف ذلك بهدف ردع حركتي حماس والجهاد الإسلامي، حتى لا تعودا إلى قصف المدن الإسرائيلية بالصواريخ في المستقبل، إلا أن الواقع هو أن حركة حماس كسرت «التابو» بقصفها الواسع النطاق للمدن الإسرائيلية بالصواريخ، وسيكون هذا القصف ممكنا في أي مواجهات قادمة مع إسرائيل، كمحاولة للتأثير على الجبهة الداخلية الإسرائيلية وإحراج الحكومة.
ولكن السؤال هو هل يستمر نتانياهو في الحكم في إسرائيل؟ وهل سيستمر في قيادة تحالف الليكود، المؤكد أن ذلك سيخضع لمدى قدرة يائير ليبيد في تشكيل الحكومة الإسرائيلية القادمة، ومدى احتمال إجراء جولة خامسة من الانتخابات الإسرائيلية لن تكون في صالح نتانياهو والليكود على الأرجح، خاصة أن قطاعا يتزايد في إسرائيل أخذ يعيد حساباته وتقديره لسياسات نتانياهو، وتعامله غير المناسب مع عرب إسرائيل الذين أصبحوا يشكلون مشكلة، لا بد من التعامل المختلف معها من جانب الحكومة الإسرائيلية أكثر من أي وقت مضى، وأنه بات ضروريا إعادة ترميم العلاقة بين عرب إسرائيل -الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وبين المجتمع الإسرائيلي- والذين يصل عددهم إلى نحو مليون وسبعمائة ألف فلسطيني لا يمكن عزلهم ولا طردهم ولا الاستمرار في الاستهانة بهم وإهمال متطلبات حياتهم، خاصة أن هؤلاء يرون أنفسهم مواطنين إسرائيليين من حقهم تلقي الخدمات نفسها التي يتلقاها الإسرائيليون، وأن تعاطفهم مع إخوانهم في قطاع غزة لا يضعهم في مواجهة السلطة الإسرائيلية بشكل جادٍ برغم محاولات التهييج من جانب اليمين الإسرائيلي ضدهم، وهو ما سيحظى باهتمام السلطات الإسرائيلية خلال الفترة القادمة للحيلولة دون ظهور مشكلة يمكن أن تهدد إسرائيل من الداخل في المستقبل.
على الصعيد الفلسطيني، فإنه مع إدراك الشعور بالرضا من جانب حماس، بعد قصفاتها الصاروخية غير المسبوقة للمدن الإسرائيلية، وبغض النظر عن حديث إسماعيل هنية قائد حماس في غزة حول «النصر الإلهي وإفشال صفقة القرن واتفاقيات إبراهام والدفاع عن الأقصى»، فإن قطاع غزة يواجه الآن مشكلة ضخمة لوجستية وتنموية وحتى على صعيد التخلص من ركام الدمار تمهيدًا لإعادة البناء، والتكلفة الضخمة لهذه العملية.
وإذا كانت مصر قد سارعت بتقديم نحو 3000 طن من المساعدات المختلفة للقطاع والتعهد بتقديم 500 مليون دولار للمساعدة في عمليات الإعمار، إلا أن الوضع في غزة يحتاج إلى الكثير من الأموال فهل سيقدمها الاتحاد الأوروبي ودول الخليج العربية والولايات المتحدة، أم أن الأمر سيكون تكرارًا لما حدث بعد حرب 2014 والتي لم تكف سبع سنوات لترميم كل ما تهدم من بيوت ومرافق فلسطينية في تلك الجولة، ولم تتم إعادة بناء عدد منها حتى الآن؟ من جانب آخر فإنه إذا كانت محاولات استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية من فتح وحماس والفصائل الأخرى قد تعثرت، حتى الآن على الأقل، فإنه برغم أهمية وضرورة استعادة الوحدة الفلسطينية الآن واتخاذ مواقف فلسطينية مشتركة حيال مختلف التطورات، إلا أن احتمال استعادة الوحدة الفلسطينية قد لا يكون الآن أفضل مما كان عليه قبل الحرب الأخيرة، خاصة بعد ما تحقق لحركة حماس من تعاطف واسع على مستوى الشارع الفلسطيني والعربي والإسلامي، وبعد محاولات قوى وأطراف إقليمية التلفع بالكوفية الفلسطينية في الآونة الأخيرة واستغلال ما حدث لخدمة مصالحها في المقام الأول بغض النظر عن المصالح الفلسطينية.
ثانيا: إنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن نقطة الضوء التي ظهرت من بين ركام حرب الحقد العمياء التي استمرت أحد عشر يوما، تتمثل في ظهور بوادر إدراك متزايد لأهمية وضرورة العمل للتوصل إلى حل سياسي يقوم على أساس حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية على حدود 67، وتتمثل أهمية هذا التطور، الذي ظهر بوضوح داخل إسرائيل -وعبّرت عنه العديد من المقالات والتعليقات في الصحف الإسرائيلية في الأيام الماضية - وعلى المستوى الأمريكي، خاصة داخل الحزب الديمقراطي وفي تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه، وعلى صعيد الاتحاد الأوروبي أيضا، في أنه يستند إلى قناعة مفادها أن إسرائيل لن تشعر بالأمن بدون إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وأن المنطقة بكاملها يمكن أن تدخل مرحلة جديدة مختلفة في جوانب عديدة، إذا تم التوصل إلى تسوية شاملة ودائمة، وأنه من غير الممكن إهمال أو تجاوز الفلسطينيين، وأن المواجهات يمكن أن تتكرر إذا استمر الوضع الراهن.
ومن هنا ظهرت بالفعل دعوات لاستئناف محادثات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ولا تزال موسكو تعرض استعدادها لاستضافة محادثات إسرائيلية-فلسطينية بمشاركة الرباعية الدولية وأنها -موسكو- تنتظر رد إسرائيل بعد أن وافق الفلسطينيون على تلك المبادرة الروسية.
وإذا كانت فرص نجاح العرض الروسي تظل محدودة، بالنظر إلى الخلافات الروسية-الأمريكية من ناحية، وتجنب حكومة نتانياهو -وهي حكومة تصريف أعمال- التجاوب مع هذا الاقتراح من ناحية ثانية، فإن واشنطن يمكنها القيام بدور بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا بالطبع، ومن خلال الضغط على إسرائيل بشكل يحملها على التجاوب والعودة لاستئناف المحادثات المتوقفة منذ عام 2014، غير أن ذلك سيصدم بالضرورة بعراقيل من جانب إسرائيل، خاصة إذا رفضت وقف عمليات الاستيطان وطرد الفلسطينيين في القدس الشرقية، كما أن حماس يمكن أن تطرح نفسها كطرف يشارك في التفاوض المقترح، وهو ما يمكن أن يشكل مشكلة للسلطة الفلسطينية إذا لم تتمكن من التوصل إلى توافق ما مع حركة حماس يسمح بإدارة الموقف الفلسطيني على نحو يخدم المصالح الوطنية الفلسطينية في النهاية.
وبالرغم من أهمية نقطة الضوء المشار إليها إلا أن خبرة التطور في المنطقة تشير بوضوح إلى أنه سيمر غالبًا وقت غير قليل قبل أن تتبلور إرادة مختلف الأطراف لاستئناف المحادثات الفلسطينية-الإسرائيلية، وحتى يتحقق ذلك فإن عبئا كبيرا يقع على عاتق القاهرة للحفاظ على استمرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، ومنع تفاقم أي احتكاكات محتملة وتطورها إلى انفجار واسع قد يجد فيه هذا الطرف أو ذاك فرصة لخلط الأوراق والهروب من استحقاقات باتت ضرورية على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني كذلك.