أفكار وآراء

الابتعاث: في سبيل البحث عن فلسفة جديدة

مبارك بن خميس الحمداني -

لم يعد شعار الاستثمار في رأس المال البشري شعاراً تنموياً للاستهلاك السياسي والأدبي في أدبيات وخطط وبرامج التنمية، بل أصبح مفردة مقترنة بالعديد من المؤشرات والمقاييس ومقاربات التشكيل والتأسيس التي يمكن على ضوئها استقراء مسارات تحقق المفهوم في أي تجربة تنموية. وإذا كان Shultz يعرف رأس المال البشري بكونه: «المعرفة والمهارة وما شابه ذلك من الصفات التي تؤثر في ممارسات الأفراد للقيام بأعمال ذات قيمة»، فإن أدبيات التنمية الحديثة حددت عناصر رأس المال البشري في أربعة عناصر أساسية: (المعرفة، والمهارات، والقدرات، والقيمة). وتشكل منظومات التعليم في عمومها وسياسات وبرامج الابتعاث على وجه الخصوص أحد أشكال الاستثمار في رأس المال البشري، إذ يتوقع من هذه البرامج أن توفر الموارد المادية لتأهيل فرد بتجربة أكاديمية وتطبيقية وثقافية وعملية مفارقة يستطيع لاحقاً من خلالها أن يشكل قيمة مضافة إلى حقل العمل الذي ينتمي إليه. وفي هذا الصدد شرعت السلطنة منذ بداية مقاربة الدولة الحديثة في عام 1970 في إيجاد تجارب مختلفة للابتعاث، وذلك لتأهيل كوادر بشرية تستطيع قيادة زمام العمليات التنموية المختلفة، وتسيير حركة الاقتصاد والمعرفة والإدارة العامة في البلاد، ولعل آخرها البرنامج الوطني للدراسات العليا، الذي تم في العام المنصرم إيقافه لدواعي جائحة كوفيد 19 ومراجعته بما يخدم الوضع الاقتصادي والتنموي الراهن.

ونعتقد أن أول متطلبات تلك المراجعة بعيداً عن الجانب المالي والمحاسبي الصرف هو البحث عن فلسفة جديدة للابتعاث، تستطيع الإجابة عن سؤال: «لماذا نبتعث بالأساس؟». وما الغاية الفعلية والتطبيقية من تسخير الدولة لموارد معينة في سبيل ابتعاث الدارسين في مختلف دول العالم وتجارب الأكاديميا المختلفة؟ وحين نقول بضرورة إيجاد إجابة ملحة للسؤال، فإن تلك الإجابة يفترض بها أن تبتعد عن الشعارات التقليدية العامة، وترتبط بمؤشرات ومقاييس معينة، تسهم بصورة أو بأخرى في تقييم أثر التجربة على الواقع التنموي، بالاستفادة من الحقل الناشئ في اقتصاديات التعليم، والذي يعرفه عبدالغني النووي بـكونه «علم يبحث أمثل الطرق لاستخدام الموارد التعليمية مالياً وبشرياً وتكنولوجياً وزمنياً من أجل تكوين البشر بالتعليم والتدريب عقلاً وعلماً ومهارة وخلقاً وذوقاً ووجداناً وصحة وعلاقة في المجتمعات التي يعيشون فيها حاضراً أو مستقبلاً ومن أجل أحسن توزيع ممكن». إذن ثمة إلحاحات أساسية لمنطلق الإجابة على سؤال فلسفة الابتعاث:

- الابتعاث كتجربة ثقافية متكاملة أم الابتعاث في سبيل معرفة أكاديمية؟

- الابتعاث في سبيل سنوات خدمة مقابلة أم الابتعاث في سبيل نقل وتطبيق معرفة مضافة؟

- الابتعاث في سبيل منحة للتميز والتفوق الأكاديمي أم الابتعاث في مشروع خطة لما بعد العودة؟

هذه الأسئلة تقودنا إلى مقاربة بعض الأفكار التي نعتقد أنها قد تكون مجدية في سبيل مراجعة البرامج الوطنية للابتعاث والدراسات العليا والسياسات التي تقوم عليها هذه البرامج. والمنطلق في تقديرنا بضرورة وجود «إطار وطني للابتعاث وتأهيل القدرات الوطنية» يشمل هذا البرنامج مسحاً موازياً للتوجهات الوطنية المنعكسة في «رؤية عمان 2040» و«خطط التنمية الخمسية» بحيث يتم حصر هذه التوجهات ودراسة بنية القدرات الوطنية في المؤسسات وتحديد الاحتياجات العلمية والعملية، وإسقاطها على مشاريع ابتعاث محددة، بحيث يكون لكل مبتعث «بطاقة ابتعاث» تشكل دليلاً عملياً لتقييم التجربة وتحتوي هذه البطاقة وصفاً للمستهدفات من التجربة، وتحديداً لأهم المخرجات المتوقعة، وترسيمًا للقيمة المضافة المرجوة أن يقدمها المبتعث لسياق النشاط التنموي الذي ينشط فيه. كما أن حصر الابتعاث في مقاربة التوجهات والألويات الوطنية لا يعني حصره في تخصصات بعينها، وإنما ينبغي أن يتأسس جزء من فلسفة الابتعاث على تكوين النخب الوطنية في مجالات الفنون والثقافة والاجتماع وعلوم النفس والتاريخ والآداب وغيرها من التخصصات التي تبدو للوهلة الأولى أنها ليست ذات أولوية.

المنطلق الآخر الذي نقترحه في هذا الصدد هو مراجعة اتفاقيات التعاون الثقافي وتفعيل وإيجاد اتفاقيات جديدة للتبادل الطلابي والتعاون الثقافي مع الوجهات الأكاديمية والدول الصاعدة في حقول الأكاديميا المختلفة، وأن تكون هذه الاتفاقيات مرجعية لتأطير توجهات الابتعاث ومعيناً في سبيل التبادل الطلابي وتقليل كلف الصرف على برامج بعينها. كما أن تجربة الابتعاث في تقديرنا ينبغي أن تتأسس على ثلاثة عناصر أساسية، وليس على عنصر التحصيل والإنجاز الأكاديمي وحده، وإنما «انخراط الطالب في أنشطة بحثية ضمن إطار المؤسسة الأكاديمية التي يدرس فيها أو المراكز البحثية التي تحتويها» و«ربط الطالب ببعض المؤسسات المهنية ذات الصلة بمجال تخصصه وإيجاد برامج تدريبية برقابة مباشرة من الملحقيات الثقافية» و«متابعة التحصيل العلمي ومدى تفاعل الطالب مع التجربة الثقافية للبلد الذي يدرس فيه عموماً». ونقترح أن يتم ربط كل تجربة ابتعاث بمشروع ما بعد العودة Action plan ترتبط بمحددات تطبيق المعرفة/ مشاريع التخرج الذي ينشط فيها الطالب بالحقل الذي سينخرط فيه بعد العودة وأن يكون أهم عناصرها عنصر «نقل المعرفة» وعنصر «القيمة المؤسسية المضافة» التي سيقدمها المبتعث للمؤسسة أو الحقل الذي ينشط فيه. وألا تقترن التجارب بمجرد اشتراط مدد زمنية للخدمة بعد العودة.

وفي تقديرنا فإن من الضرورة بمكان توحيد أنظمة الابتعاث، ومعايرتها بالحاجات التنموية الفعلية حتى في الحقل الأكاديمي، وذلك لن يتأتى إلا بوجود مراصد بحثية ترصد وتقيم التجارب والأولويات وتحدد الاتجاهات العامة. وأن لا يكون الابتعاث مقتصراً على الدراسة الأكاديمية وإنما يدمج فيه منظور «التدريب المهني» في المؤسسات الرائدة عالميًا سواء مؤسسات دولية أو شركات أنتاج أو مؤسسات دولة مرجعية، وأن يوضع لها نظام مرجعي لقبول المبتعثين للتدريب وفقاً للاحتياجات الوطنية. وختاماً نقول: إن مرحلة المراجعات الراهنة بضرورتها وحتميتها ينبغي أن تأخذ في الاعتبار ضرورة ربط الابتعاث ببناء السمة الوطنية Nation branding وتفعيل دور المبتعثين وفق برامج استراتيجية محددة في بناء هذه السمة وتعزيزها والإسهام في تسويقها وترويجها.