أفكار وآراء

على أبواب حرب باردة جديدة؛ هل الانحياز خيار أم ضرورة؟

19 أبريل 2021
19 أبريل 2021

د. عبدالملك بن عبدالله الهِنائي -

تلوح في أفق العلاقات الدولية بوادر حرب باردة جديدة. ورغم أن دوافعها وأسبابها تبدو مختلفة عن أسباب ودوافع الحرب الباردة التي تلت الحرب العالمية الثانية، إلا أن قطبيها أو أقطابها لا يختلفون كثيرا عن قطبي أو أقطاب الحرب الباردة السابقة، وبذلك تترسخ مقولة «الشرق شرق والعرب غرب ولا يلتقيان» التي قالها الشاعر الإنجليزي روديارد كيبلينغ، RUDYARD KIPLING المولود في الهند في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

وإذا أصبحت الحرب الباردة الجديدة أمرا واقعا، فهل الانحياز إلى أحد طرفيها حتمي؟ وهل هو خيار الأقوياء أم ضرورة الضعفاء؟ تُعَرِّف الموسوعة البريطانية الحرب الباردة أنها حرب تُشن على جبهات الدبلوماسية والاقتصاد والدعاية propaganda و لا يستخدم فيها السلاح الحربي إلا بصورة محدودة. كان الكاتب والروائي البريطاني جورج أورويل George Orwell أول من استخدم مصطلح «الحرب الباردة» في مقال نشره عام 1945. أما البداية العملية لها فتعود إلى أوائل عام 1947 بعد إعلان الرئيس الأمريكي هاري ترومان ما سُمي «مبدأ ترومان Truman Doctrine»، الذي كان الهدف منه الحد من توسع النفوذ السوفييتي ومن انتشار الشيوعية في أوروبا والعالم، واستمرت الحرب الباردة حتى انهيار سور برلين في أواخر عام 1989.

وبينما كان الاختلاف العَقَدي أو (الأيديولوجي) هو الدافع الأساس وراء الحرب الباردة السابقة فإنه يبدو حتى الآن أن المصالح الاقتصادية والتنافس التجاري هما الدافع الأهم للحرب الباردة الجديدة، وهذا يبدو معقولا في ظل تراجع دور الأيديولوجيا واشتداد التنافس على المصالح الاقتصادية في العلاقة الدولية.

اتسمت العلاقات الدولية خلال فترة الحرب الباردة باستقطاب دولي كبير، وانقسم العالم إلى «معسكر شرقي» بقيادة الاتحاد السوفييتي و»معسكر غربي» بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية». ورغم ظهور قطب ثالث تمثل في حركة عدم الانحياز، إلا أن الحركة لم تكن غير منحازة كما يبدو من اسمها، لكنها كانت كما قال مؤسسوها والمنظرون لها حركة «عدم انحياز إيجابي». وكان كبار مؤسسيها، وهم يوغسلافيا ومصر والهند وإندونيسيا ودول أخرى معها، أقرب إلى الشرق منهم إلى الغرب. لم يكن الغرب كله كتلة واحدة في مواجهة الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي، بل اختارت كل من سويسرا والنمسا وفنلندا البقاء على الحياد، وكذلك الحال في الكتلة الشرقية، حيث كانت رومانيا متململة في موقفها من الاتحاد السوفييتي، كما تم قمع محاولات للتمرد قامت بها المجر وتشيكوسلوفاكيا.

أما العلاقات بين الصين والاتحاد السوفييتي فقد كانت علاقة قوية في الفترة التي تلت قيام جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، ولكنها تحولت إلى خصام أيديولوجي ثم إلى اشتباك مسلح على الحدود بين روسيا والصين في منتصف ستينات القرن الماضي.

استغلت الولايات المتحدة الأمريكية الخصام الأيديولوجي بين الصين والاتحاد السوفييتي فقام الرئيس الأمريكي نيكسون بزيارة الصين في عام 1972، وقد استمرت العلاقات الصينية الأمريكية في التحسن، خاصة في زمن الرئيس الصيني دينغ تشياوبيغ، الذي أجرى إصلاحات واسعة في الاقتصاد الصيني، وأصبح البلدان يتمتعان بشراكة قوية، خاصة في مجالات التجارة والصناعة والاستثمار، سواء كانت في صورة استثمارات أمريكية مباشرة في الصين أو استثمارات صينية في أسواق المال الأمريكية وفي السندات الحكومية وأذونات الخزينة الأمريكية.

ومع بداية الألفية الحالية دخلت العلاقات الدولية مرحلة جديدة يشوبها التنافس، خاصة مع تنامي دور الصين في الاقتصاد العالمي وعودة روسيا إلى الساحة الدولية كقوة عسكرية جبارة ومصدر رئيس للأسلحة إلى كثير من دول العالم وبينهم حلفاء تقليديون لأمريكا، مثل تركيا، بالإضافة إلى تحسن الاقتصاد الروسي واعتماد بعض الدول في وسط وجنوب أوروبا على الغاز الروسي. وقد زاد التوتر بين روسيا والغرب بعد أزمة أوكرانيا وانفصال شبه جزيرة القرم وعودتها إلى روسيا. كما أن الأنشطة الصينية في بحر الصين الجنوبي واعتراض أمريكا وبعض دول المنطقة عليها أدت إلى توتر في العلاقات الأمريكية الصينية. وقد زاد التوتر بوصول دونالد ترامب، المعروف بميوله اليمينية، إلى رئاسة أمريكا واستخدامه للعقوبات الاقتصادية على مؤسسات وأفراد في روسيا والصين وإيران وغيرها من الدول. كذلك عمدت أمريكا إلى فرض المزيد من الرسوم والقيود التجارية على الصادرات والاستثمارات الصينية في أمريكا، التي ردت عليها الصين بإجراءات مماثلة. وهكذا دخل البلدان في حرب تجارية ليس على أراضيهما فقط وإنما حول العالم، ولا يبدو أن العلاقات الأمريكية الصينية ستتحسن كثيرا في عهد الرئيس جو بايدن.

لن يسهب هذا المقال في تناول دور روسيا في الحرب البارد الجديدة، لأن حضورها في منطقة بحرب العرب والخليج العربي ما زال محدودا من النواحي الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية، وإنما سيركز على دور الصين فيها.

يرى محللون وخبراء أن المشروع الصيني المعروف بمشروع «الحزام والطريق» هو «القوة الناعمة» التي تستخدمها الصين في علاقاتها الدولية، فمن خلال هذا المشروع قامت بتحسين شبكة قطاراتها وربطها بأوروبا، مما مكنها من زيادة صادراتها. كما تقوم الصين بالاستثمار في الموانئ والبُنى الأساسية الأخرى في كثير من دول العالم، بما فيها دول في أوروبا الغربية وآسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية. كذلك طورت الصين من قدراتها في تصنيع واستخدام التقانة الحديثة، خاصة في قطاع الاتصالات، فهيمنت شركة هواوي مثلا على سوق الجيل الخامس في عدد من الدول الحليفة لأمريكا، كما دخلت شركات صينية أخرى قطاع التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا المالية من خلال تطبيقات على الهاتف، مثل تطبيق ويتشات وتطبيق تيكتوك، وهو ما حدا بأمريكا وبعض حلفائها، مثل بريطانيا واستراليا، إلى اتخاذ إجراءات لمقاطعة عدد من الشركات الصينية العاملة في تلك القطاعات.

وفي منطقتنا والمناطق المحيطة بها يبرز التواجد الصيني على أكثر من صعيد. فإلى جانب التبادل التجاري الذي يميل غالبا لصالح الصين، توجد شركات صينية تستثمر في عدة قطاعات وأنشطة، من أهمها قطاع النفط والغاز وقطاع الصناعة وقطاع البُنى الأساسية. ومن تلك الاستثمارات مشروع المدينة الصناعية الصينية، التي تقع ضمن المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم. وهناك أيضا تواجد صيني مهم في المنطقة، يقع ضمن مشروع «الحزام والطريق»، مثل تطوير ميناء كولومبو في سريلانكا، وميناء جواذر في باكستان، الذي تقوم الصين بربطه بقطار وطريق سريع مع حدودها، هذا بالإضافة إلى المشاريع التي أعلن أن الصين ستقيمها في الكويت.

لكن الخطوة الأهم للحضور الصيني في المنطقة، هي مذكرة التفاهم التي تم توقيعها مؤخرا بين الصين وإيران وتتضمن صفقة مدتها خمسة وعشرون عاما تقوم فيها الصين بشراء النفط الإيراني مقابل الاستثمار في عدد كبير من المشاريع، التي منها منطقة اقتصادية خاصة في جنوب إيران.

هذا الحضور الاقتصادي الصيني الكبير في المنطقة الذي يتواكب مع تبادل تجاري متصاعد، تقابله علاقات تقليدية بين دول المنطقة وأمريكا وأوروبا، وهي علاقة تتداخل فيها المصالح النفطية واعتماد دول المنطقة في تسليحها على الدول الغربية، وهو تسليح مدعوم بوجود عدد من القواعد والتسهيلات العسكرية التي تقدمها دول المنطقة لأمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول الغربية. ولمّا كانت الأوضاع السياسية لهذه المنطقة وتطلع شعوبها نحو مستقبل أفضل، خاصة من النواحي الاقتصادية والعلمية، فإن على دول المنطقة الاستفادة من تجارب حياد كل من سويسرا والنمسا وفنلندا أثناء الحرب الباردة السابقة، وعليها التعامل بإيجابية مع كل الأطراف، وفق مبدأ المصالح المتبادلة، وعدم الخضوع لأي ضغوط لاتباع سياسات لا تخدم مصالحها في شيء.

تبقى نقطة يجب مراعاتها من جميع الجهات المؤثرة في الرأي العام، سواء وسائل الإعلام أو الأشخاص المؤثرين في المجتمع أو المختصين بالشؤون الدِينية، وهي ألا يتم إقحام الدين في الحرب الباردة التي تلوح في الأفق، فيتم تصويرها على أنها صراع بين الإيمان والإلحاد، كما حدث في الحرب الباردة السابقة.

وقد كانت من نتائج ذلك التصوير انسياق العامة وبعض النخب في المنطقة الممتدة من طنجة إلى جاكرتا وراء وهم، كانت أفغانستان أكبر ساحات الصراع فيه، وأدى إلى عواقب وخيمة لا زالت آثارها مستمرة خاصة على العرب والمسلمين.

** باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية