أفكار وآراء

الوطن .. بين المكون الجغرافي والمحدد السياسي

18 أبريل 2021
18 أبريل 2021

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

لم ولن يكون للذاكرة تاريخ لوطن بديل، فالوطن متجذر مهما كانت حالته في ضيق أو اتساع، ومهما كانت مساحته صغيرة أو كبيرة، سهلا أو جبلا، بحرا أو جوا، فالعلاقة معه علاقة عضوية؛ لا تقبل العقود المؤقتة، والعلاقة معه كاملة؛ لا تقبل أنصاف الحلول، فإما قبولها بالكامل، وإما رفضها بالكامل، وعلى امتداد المعرفة ومساحة الوعي المتحصل، لم نسمع، أو نقرأ عن علاقة مزدوجة للأوطان إلا في ضمائر الخونة والمرتزقة، وهؤلاء يظلون في حكم الاستثناء، والقواعد المتينة لا تقاس على الاستثناء، ولذلك عندما يذكر الوطن، فإن الفرائص ترتعد خوف أن يشار إلى سوء يحوم على الوطن، فالأوطان تبقى هكذا بهية، مشرقة، ترتهن في حيواتها على النصر أو النصر، ولا غير، لا تقبل الانكسارات، ولا يكسوها الظلام، حتى تبقى أنفس من يعشقها مضيئة يكسوها السرور، ويتدفق من جوانبها الحبور، ترى في التضحيات عربون مودة للوطن، وفي السلم سباقا نحو البناء، وتراكما في العطاء.

كثيرا؛ عندما يكون الحديث عن الوطن؛ ما نتغنى بأبيات أمير الشعراء، أحمد شوقي - رحمه الله - التي يقول في جزء منها:

وللأوطان في دم كل حر: يد سلفت ودين مستحق

وقد نضيف عليها قول الشاعر عبدالمحسن بن محمد الكاظمي - رحمه الله - وهو من العراق، وقد عاش في مصر، ولقب بـ «أبو المكارم» والتي يقول فيها - حسب المصدر -:

ومن لـم تكنْ أوطانهُ مفخراً لـهُ؛ فليس له في موطنِ المجدِ مفخرُ

ومن كانَ في أوطانهِ حامـياً لها؛ فذكراهُ مسكٌ في الأنامِ وعـنـبرُ

ومن لم يكنْ من دونِ أوطانهِ حمى؛ فـذاك جـبـانٌ بـل أَخَـسُّ وأحقرُ

يبقى صحيحا أن ترتهن الأوطان على عنصرين ماديين أساسيين؛ الأول: هو (المكون الجغرافي): وهو المصان بمجموعة من الحدود، والتي تكون على تماس مع مجموعة الأقاليم المتاخمة للوطن، وهي الحدود المنظمة بقوانين دولية، وباتفاقيات ثنائية، لا يحيد أي طرف عنها، إلا في الحالات الاستثنائية، وأغلبها حالات التنمر، وهي الحالات التي تقلصت كثيرا في العصور الحديثة انعكاسا لرغبة المجتمع الدولي إلى الارتكان إلى الهدوء والاستقرار، وإلى الاهتمام بالتنمية، وتوفير سبل العيش الكريم لمجموعات السكان في الوطن الواحد، ولذلك تقلصت الحروب إلى أدنى مستوى لها، وهذا من فضل الله على هذه الأمم، وإن خرجت دول عن هذه الصورة المستقرة، فينظر إليها من زاوية الاستثناء، خاصة بعد انتهاء حالة الحرب الباردة.

أما الثاني، فهو (المحدد السياسي): وفيه تتسع مساحة الوطن أكثر وأكثر، وهو على درجة كبيرة من الحساسية المفرطة، ذلك لأنه يعنى الإنسان بكل تطلعاته، وبكل آماله، وبكل طموحاته، وبكل تناقضاته وشكوكه، ولذا فالتعامل معها ليس يسيرا، فما يرضيه اليوم، يغضبه في الغد، لأنه ينطلق من هوى النفس، وما يملي رغباتها، ويقنع تطلعاتها، ورضا الناس كما هو معلوم «غاية لا تدرك» وبالتالي فالأمر جد معقد إلى درجة الكفر بالوطن في بعض المواقف، فالإنسان؛ كما هو معروف «حمال أوجه» ومن هنا تنشأ الثورات، وتعم المظاهرات، لاستحالة الوصول إلى حالة التوازن المطلقة في رضا شعوب الأوطان، ومع ذلك كله، وفي وجود مجموعة التناقضات التي لا يحتملها البعض، حيث يرى فيها مساسا باستحقاقاته كفرد في الوطن، تجثم أهمية الوطن عند الاغتراب عنه، حيث يظل ذلك الهاجس المؤرق للنفس التي تتمنى أن تعود إليه في أقرب رحلة متجهة نحو الوطن، ولذلك تحرص الأوطان على تنمية أبنائها وتحفيزهم، والعناية بهم عناية مطلقة، فهم المورد المهم، والرصيد الأبقى، وهم الحاضر في كل المواقف التي يتعرض فيها الوطن لامتحانات قاسية، وهم المعول عليهم تعويض خسارات الوطن في كل الظروف، والمناسبات، والملمات، ومتى أعطي المورد البشري الاهتمام الكبير، كلما عز الوطن، وتصدر قائمة الأوطان المنجزة في حقول التنمية المختلفة، وكلما كان ذلك حصانة مطلقة للوطن، تجعله موئل فخر واعتزاز، والأوطان؛ في حقيقتها؛ لا تراهن إلا على أبنائها، الأوفياء الأقوياء، المخلصين، وتحقق هذه المبادئ المهمة في أبناء الوطن ليس صعب المنال بالصورة التي لا يمكن معها القياس على ما يحدث -أحيانا- في الواقع في حالات الأزمات، فالصورة أبعد من ذلك بكثير، لأن نسب من تغتلي بين جوانحهم همم البناء والمحافظة على المكتسبات هم الأكثر عددا في مختلف الأوطان، وهذا العدد يظل له استحقاقاته المعرفية في كثير مما يقع في محيط الوطن، حتى يكون محصنا بالمعرفة، فلا تستطيع الأيدي الغاشمة، والأفكار الدخيلة استقطابه، وتوظيفه التوظيف السيئ، والمشكلة أن هذه الرؤية بهذا التوضيح غير حاضرة لدى الكثير من الأنظمة السياسية، لأن التركيز يكون دائما على النخب، وهذه النخب؛ في كثير من تعاطيها مع الوطن؛ لا تكون صادقة، ولا أمينة، وتلعب دائما على ورقتها الخاصة، وهذه معضلة كل الأوطان، بلا استثناء، ومن هنا - في تقديري الشخصي - تظهر المجموعات الخارجة عن القانون؛ وفعلها خطأ ولا يوافقها أحد عليه؛ وإن استحلت لنفسها مبررات تتكئ عليها للخروج عن القانون.

يأتي النظام السياسي ليكون حارسا أمينا على مكتسبَي الأوطان (المكون الجغرافي والمحدد السياسي) وذلك ليس فقط من خلال حمايته الأمنية، ولكن أيضا من خلال تنمية موارد الوطن المختلفة؛ الطبيعية والبشرية، والمحافظة على مكتسباته التاريخية، والسعي الحثيث على توظيف كل ما من شأنه أن يعزز وجوده، ويعلي سهم تألقه وتميزه، ومساهمته الفاعلة في المجتمع الدولي، بما في ذلك تعزيز التعاون بينه وبين مختلف الدول كعلاقات ثنائية، من خلال إبرام العلاقات وتطويرها بما يخدم الطرفين، ولا يتقاطع مع مصالحهما المختلفة، والاحتكام إلى قوانين وأنظمة ما تتفق عليها الدول في تنظيم العلاقات وفق أسس ومبادئ الأمم المتحدة، وما ينسحب بذلك على الانضمام إلى مؤسسات الأمم المتحدة فيما يحافظ على المجتمع الدولي آمنا مستقرا، يحفظ للجميع كرامته، واستقلاله، وحياديته، وفق مفهوم الحصانة السيادية التي تقرها الأعراف الدولية، وقد عرف الدكتور سعود بن عبدالله العماري الحصانة السيادية بقوله: «هي أحد أهم المبادئ الراسخة في القانون الدولي العام، وتعني عدم جواز خضوع دولةٍ بغير إرادتها، لقضاء دولة أخرى. فلا يجوز لدولة ذات سيادة أن تفرض سلطتها القضائية على دولة أخرى ذات سيادة، إذ لا توجد دولة تملك الحق قضائيًا وقانونيًا في الحكم على أفعال دولة أخرى، وذلك استنادًا إلى مبدأ الاستقلال بين الدول، وبالتالي فإن فرض إحدى الدول سيادتها على دولة أخرى يعد انتهاكًا وإخلالاً بمبدأ السيادة» - انتهى النص - وفق: جريدة الشرق الأوسط؛ 30/10/2016م، العدد (13851).

بدأت في الآونة الأخيرة؛ هنا في وطننا العزيز؛ تظهر أصوات نشاز، لم تعتد عليها القيم العمانية، ولا قيم الأوطان الأصيلة، وهذه الأصوات في صور مناشدات، لرؤساء دول لإعانتهم لاحتياجاتهم المختلفة، وهذا بدوره يشكل ظاهرة خطيرة في نكران الجميل، وفي الاستخفاف بقيم الوطن من ناحية، وقيم المجتمع من ناحية ثانية، وبقيم الرجولة من ناحية ثالثة، فكيف يليق بمواطن ينشد المساعدة من رئيس دولة من خارج وطنه، وهو يعيش في ظهراني وطنه، أليس هذه مثلبة معيبة لحقيقة المواطنة، وهل وصل بنا الحال لأن نصل إلى هذا المستوى من ترجي الآخر؟ فأين العزة والكرامة؛ والحرية، وأين حقيقة الوطن الإيمانية في نفوسنا؟ أليس هذا التصرف يلغي كل هذه المكتسبات للمواطنة الأصيلة في نفوس أبناء الوطن؟ فمهما كانت الأسباب لن يكون من اللائق أن يصل الحال بأي مواطن أن يكون في هذا الموقف، فللأوطان فعل السحر في احتفاظها بمكانتها في نفوس أبنائها، ولعلنا نقرأ هذه المكانة في نفوس أولئك الذين غربتهم الظروف القاسية، وعلى الرغم من سنين غربتهم عن أوطانهم، إلا أنهم لا يزالون يحملون أوطانهم بين حناياهم، ويشعرون أنفسهم بأنهم بلا قيمة، ولا معنى، ولذلك هم يستحضرون أوطانهم في كل تفاصيل حياتهم، ولو على مستوى مساحتهم الضيقة داخل منازلهم، حيث مفردات الوطن حاضرة في هذه المساحة الضيقة: في اللغة واللهجة، وفي الملابس، وفي العادات والتقاليد، وفي اللوحات الفنية، وفي الأكلات الشعبية، وفي إقامة المناسبات، وفي المشاركة في المعارض، وفي التواصل المحموم بالوطن الأم، وفي تتبع أخبار الوطن عبر مختلف القنوات، أوليست هذه علاقة عضوية بالوطن؟.