am666566
am666566
أعمدة

نوافذ :إدراك الحياة ولا شيء أكثر

14 أبريل 2021
14 أبريل 2021

بشرى خلفان -

كلما فتحنا قناة تواصل انهالت علينا التعازي، الفيسبوك، تويتر، أخبار الواتس أب، وأين ما ولينا وجهنا واجهنا الموت، الموت الذي كنا نحمله على أكتافنا بخفة، غير شاعرين بثقل غير ثقله الوجودي وأسئلته، الموت الذي تناولته الأدبيات، الموت الذي يحدث دوما للآخرين، ولا يحدث لنا.

الموت الذي يظل غريبا حتى يحدث في العائلة، حتى يمسنا بشكل شخصي، ويعمل مشرطه فينا، ويحفر بالفقد أرواحنا.

الموت لا يوجع الموتى، يقول محمود درويش، بل يوجعنا نحن الذين نتعقب وراء الذين نحبهم، فنلملم من ألبومات الصور الذكريات، الضحكات والمشاهد والأحداث والتجارب الصغيرة المشتركة.

نلملم الروائح من ثيابهم حين نخرجها من الدواليب، ثم نعود لنتذكر المناسبات، أي هذه كانت أقرب لقلب صاحبها، أيها ناسبه في اللون أو الملمس، أيها كان زاهيا فبهت، أيها فصلت لتلبس في العيد أو لحضور عرس الأبن البكر، وأيها جاء هدية ؟

ندخل المكتبة لنجرد الكتب الناعسة على الرفوف، سنقول هامسين وكأننا نعزز في داخلنا قيمة الوقت، كانت له مكتبة عظيمة، هنا الموسوعات التي كان يفقد فيها إحساسه بالزمن، وهنا كتب السياسة التي التهمت روحه في المقارنات، هنا الأدب، هنا الشعر والرواية، هنا طوى ورقة، وهنا وضعت ورقة صفراء كعلامة قص.

نلتقط كتابا مكفيا على الطاولة، نتساءل أين توقفت عيناه عن القراءة؟ عند نهاية أي فقرة شعر بالتعب، فترك الكتاب مستسلما في وحدته للخشب؟ هل فرك عينيه أم تراه تثاءب؟ أتركه مللا أم تركه على شوق وأمل؟

لكن هذا الموت الذي يحدث الآن، ما عاد موتا شخصيا، بل هو موت عام، وكأن ملك الموت صار يحصد أرواح العالم بمنجل عريض، لا سبب له ولا مسببات مقبولة-إن كان الموت بحاجة لسبب- سوى أن فيروسا لعينا، تخلّق في لحظة فراغ العالم من المعنى، فكأنه أراد أن يعيد ترتيبه قليلا، أن يقلّب تربة الأرواح، أو أن يبني على الأنقاض عالما آخر، سيحاج البعض بأنه أكثر جدة، وسأحاج أنا بأنه سيبقى فارغا من المعنى حتى يعاد بناء المعنى فيه، والمعنى يحتاج للزمن كما في الرواية تماما. هل هذا ما يحدث فعلا؟ هل جعلت الجوائح التي مرت على البشرية منذ وباء أثينا حتى الطاعون الأسود والكوليرا والانفلونزا الأسبانية الناس بشرا أفضل؟ هل أعادت بناء المعنى فيهم؟

هل كان للطاعون الأسود الذي اجتاح أوروبا والصين في القرن الرابع عشر، وحصد أكثر من ثلث سكان العالم أثرا في النفس البشرية، هل غيرها؟ هل صرنا أكثر تعاطفا، أكثر حساسية في تأملنا لهذه الثنائية الأبدية؟

أم أننا صرنا ننظر للموت كجزء من طبيعة الحياة نفسها، مصنوع من نفس الخامة؟ فالحياة تعود بسرعة لتشغلنا- الحياة بأكثر لحظاتها إشراقا وأكثرها تشويشا وعتمة- ومعها تعود الصراعات الصغيرة- التي ندرك أنها تافهة جدا- لتشغلنا من جديد، لتجرنا نحو مزالقها، رغم أننا أقسمنا في لحظة ما، وفي ومضة تبصر عابرة بأننا سنكون أكثر اتساعا وتفهما وجمالا، وأننا لن نسمح للصغائر بأن تأخذنا لكهوف ظلمتها. لكنها الحياة، هي هكذا، وهي تغلب دوما، فتعيد تأكيد حضورها فينا، لتأخذنا في جريانها المستمر، لذا لا نجد نحن الفانين بدّا من عيشها، بل وربما تشبثنا بها أكثر، ربما صار إدراكنا للموت إدراكا أعمق لأهمية الوقت الذي نعيشه، فنستضن بهدره على ما لا يترك لنا أثرا فيه، وربما كانت هذه الفكرة من الموت، إدراك الحياة ولا شيء أكثر.