أفكار وآراء

التراث بين الوصل والقطيعة

14 أبريل 2021
14 أبريل 2021

عبدالله العليان -

لا تزال قضية التراث كفكر وثقافة في حياة الأمم، بين الأخذ والاستفادة من هذا الإرث الكبير من العطاء المتوارث، باعتباره أحد المقومات التي خلّفها الآباء والأجداد عبر قرون، من حيث الأخذ والاستمداد والاستفادة من القيم التراثية الحيّة، دون الأخذ من الأفكار التي تجاوزها الزمن، من حيث عدم القدرة على التجدد والعطاء في ذاتية هذا التراث الماضوي، لكن البعض ينظر للتراث نظرة سلبية شاملة، باعتباره من ماضيه فقط، ويجب القطيعة معه تمامًا، والبعض الآخر يرى أن التراث مسكون فينا، شئنا أم أبينا، ثم إن الأمم عبر التاريخ تستفيد من تاريخها، لكونه جزءًا من مقومها الثقافي والفكري الذي يعبّر عما مكنونها التاريخي الممتد، ومن الذين تحدثوا عن أهمية هذا التراث -خاصة الحيّ منه- المفكر والفيلسوف الدكتور طه عبدالرحمن، حيث يرى أنه لا يمكن الاستغناء عن التراث، ونأخذ من تراث الآخر المختلف: «فلا -يمكن أن يحصل- إبداع بغير تراث ولا هوية بغير تراث، إذ يكون التراث بمثابة المرتكز الذي يسمح للإنسان أن يستجمع قواه ليمتد في المستقبل، فالماضي هو عبارة عن نقطة ارتكاز للاندفاع للمستقبل، أما إذا أصبح الماضي بمثابة نقطة استقرار وجمود فهذا يضر بالهوية والإبداع معًا».

وينتقد الدكتور طه عبدالرحمن من يرون ضرورة أن نعمل قطيعة مع تراث الأمة والانسلاخ من ماضيها -وهو كأنه يشير للدكتور عبدالله العروي- وهو أحد الداعين إلى القطيعة من حيث إن الغرب تقدم عندما تجاوز تراثه وأقصاه أثناء حركته إلى الأمام، من خلال إبعاد الكنيسة المسيحية عن تدخلاتها في العلم والاختراع والمجالات الإنسانية الأخرى، لكن طه عبدالرحمن يرى أن هذا القول يشكل مغالطة تجافي الحقيقة، كما جرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، حيث إن ما جرى للكنيسة كان أمرًا معقولًا لأنها كانت تحارب العلم والتقدم، لكن الغرب لم يقطع مع تراثه الروماني واليوناني: «لقد كان الغرب دائما يعتبر تراثه جزءًا من هويته، وجزءًا من الطاقة الإبداعية التي يمتلكها، فالمقارنة بيننا وبينه مختلفة: فالاشتغال الغربي بالتراث كان تأييدًا لمقوماته وإحياء لقيمه».

ولا شك أن التراث لا يمكن فصله عن واقعه هكذا دون فرز وانتقاء، وكل الحضارات، تقدمت ونهضت دون أن تلغي ماضيها الحيّ، وحركة الإصلاح المسيحي، وخاصة كـ«الفن» الذين طالبوا بالإصلاح الكنسي، لم يخرجوا عن قيم الديانة المسيحية، ولا اعتبروا ماضيهم الفكري والثقافي هو العائق، لكن كان الإصلاح من داخلها لبعض قراراتها وتدخلاتها في غير شؤونها، وليس من خارجها، لكن بعض المثقفين العرب، الذين انبهروا بما جرى في الغرب من تحولات فكرية وفلسفية، اعتبروا أن تراثنا هو العائق! وخلطوا من الفضاء الكنسي، الذي كان فعلًا أعاق الغرب، وبين تراثنا الذي لم يكن معيقًا للتقدم والنهوض، إنما الأسباب ترجع للسياسات والقرارات والاستبداد التي أدت للجمود والتقهقر، وغيرها من الأسباب التي أدت إلى ما سميّ بعصور الانحطاط، على عادات وتقاليد ليست معبرة عن التراث الفكري والثقافي والأدبي الصحيح، الذي كان باعتراف الغرب نفسه الذي كان له الأثر في حضارة الغرب، سواء بعد تعرفه على علوم العرب والمسلمين بعد الحروب الصليبية، أو النهضة العلمية والفكرية في الأندلس عندما حكمها المسلمون عدة قرون.

ومن الباحثين والمستشرقين المعاصرين، الذين أنصفوا الحضارة العربية الإسلامية وتراثها الكبير في التقدم الحضاري، «مارتن كريمر» وهو المتخصص في تاريخ العرب والإسلام قال في بعض أبحاثه: «إن الشرق الأوسط كان بؤرة الحضارة العالمية..

فالإمبراطورية الإسلامية التي ترسخت دعائمها على مدار القرون الأربعة الماضية -بعد ظهور الإسلام- كانت قد نشرت حضارة إسلامية. هذه الحضارة كانت صامدة بفضل الإرادة الحرة لأكبر العقول المبدعة في العالم آنذاك. ولا يوجد أدنى شك في أن السلالات الإسلامية كانت تمثل آنذاك القوى العظمى من مختلف النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية. هذه الحضارة المدنية العالية كانت تنجب العباقرة وترعاهم. ولو أن جائزة نوبل كانت موجودة في ذلك الزمان لكانت الغالبية العظمى ممن ينالونها هم من المسلمين».

ومن المفكرين العرب البارزين، الذين انتقدوا القطيعة الكاملة مع تراث الأمة وماضيها كجزء من الحداثة والتقدم الدكتور محمد عابد الجابري، سواء في كتابه (نحن والتراث)، أو في كتابه (التراث والحداثة)، يقول الجابري في «نحن والتراث» ناقدًا لمن يرى ضرورة القطيعة مع الماضي: «يطرح بعض المثقفين العرب الذين يبدو أن صلتهم بـ(التراث) الأوروبي أقوى من صلتهم بالتراث العربي الإسلامي مشكلة استيعاب الفكر العربي المعاصر لمكتسبات الليبرالية.. إننا نعتقد أن طرح المسألة بهذا الشكل طرح خاطئ تماما. ذلك لأنه عندما يطلب من العرب أن يستوعبوا الليبرالية الأوروبية فإن ذلك يعني أن عليهم أن يستعيدوا على صعيد وعيهم تراثًا أجنبيًا عنهم بموضوعاته وإشكالاته ولغته، وبالتالي لا يشكل جزءًا من تاريخهم. إن الشعوب لا تستعيد في وعيها، ولا يمكن إلا تراثها أو ما يتصل به».

ومن الأكاديميين العرب الذين تحدثوا عن القطيعة مع التراث، أو المطلقات عامة الدكتور عبدالله العروي، الذي لم يتزحزح عن مسألة القطيعة مع الماضي منذ كتاباته الأولى، خاصة كتابيه (الأيديولوجية العربية المعاصرة)، و(العرب والفكر التاريخي) والهدف في ذلك من أجل ما أسماه بالاندماج في الغرب وسنسير سيرته في كل ما اتخذه من أفكار وسياسات ونقاطع المطلقات كلها، ولم يراجع العروي مواقفه الفكرية التي تجاوزها حتى الزمن منذ أكثر من أربعين عاما، وما قاله الدكتور عبدالله العروي في نقده والمطالبة ما سماها بطيّ الصفحة وتجاوز في هذا التراث، لاقت نقدًا شديدًا من غالبية المفكرين والمثقفين من كل الاتجاهات الفكرية.. يقول العروي في الكتاب المشترك وهو عبارة عن حوارات فكرية: «إن الماضي لا يمكنه أن يخدمنا في حل مشاكلنا ولا في إعادة إعطاء الماضي قيمته الحقيقية».

ومن النقد الذي وجه للعروي في مسألة القطيعة مع التراث، ما قاله الباحث الدكتور علي زيعور في كتابه (الشرعية والمنعة في خطاب التاريخانية)،: «إن أطروحات العروي» توحي بالأنا المركزية الأوروبية وبالعقلانية الغربية النرجسية والاستعلائية واللاتاريخية..[إنها] خطاب في محو الذات، وفي تبخيس قدراتنا على بناء تكييفانية خلّاقة إسهامية متميزة مستقلة داخل النظام العالمي».

ولذلك فإن الدكتور العروي في طلبه للدخول للحداثة، يرى في المقابل أن الحل في طرد وإقصاء التراث وتجاوزه، من أجل إتباع الغرب فيما سار فيه كلية دون انتقاء أو أخذ أجزاء من رؤيته الفكرية، وترك أجزاء أخرى، «فالعروي -كما يقول الباحث إدريس هاني- لا يقدم رؤية جديدة للحداثة ولا ينخرط في لعبة نقدها، على الرغم من تمسكه بأهداب الفكر التاريخي الآيل حتمًا إلى معانقة الطرح الكوني. بل إنه يؤشر إلى وجود هذا الأنموذج ماثلا أمام أعيننا. إنها الحداثة كما هي في الغرب، يجب أن تحضر كما هي في الغرب في المجال العربي. وأن مهمة العرب و المسلمين اليوم، كامنة في أن يبذلوا جهدا كبيرا في استيعاب دروس الحداثة وفي الوقت نفسه، أن يكفوا عن أن يتحدثوا عن خصوصيتهم كعرب أو كمسلمين. ليكفوا -إذن- عن الحديث حول كونهم عربا أو مسلمين، فللحداثة صورة واحدة، وواحدة فقط».

لكن العروي تجاهل أمرًا مهمًا في حياة الشعوب وتجاربها أن مسألة الارتماء في الآخر وتقليده في رؤاه، دون تمييز أو الأخذ من علومه، لا يمكن أن يلقى القبول من الثقافة الذاتية، فتركيا في عهد كمال الكمالية في العشرينيات من القرن الماضي، حاولت أن تجتث ثقافة الشعب التركي، وإحلال الأنموذج الغربي، إلى حد استئصال العادات والتقاليد الخاصة في الشعب التركي، وبعد نحو أكثر من 70 عامًا، استعاد الشعب التركي هويته من جديد اختيارًا وليس فرضًا من الدولة الجديدة، وهذا مسألة لصيقة بالهوية والقيم، ولا يمكن الشعوب أن تتخلى عن ميراثها الذي يمتد لقرون، نعم الأمم والحضارات تستفيد من الحضارات الأخرى، وكل حضارة أو ثقافة تستفيد من الأخرى، وهذا حدث عبر التاريخ، من حيث العلوم والتكنولوجيا سواء من حيث المنهج أو في الطرق والأساليب، أو التقليد فيحدث من الأخذ، لكنها لا يمكن أن تتجاوز هويتها وقيمها تمامًا، وهذه قضية بديهية في حياة الأمم.