رمضان .. ذاكرة القوة!
محمد جميل أحمد -
وقع ذكريات المواسم الدينية بصورة عامة، ينطوي على ذاكرة تأسيسية قوية في حياة الأمم. وكعلامة قوة لتلك المواسم لا تنعكس فقط في الطبيعة الاحتفالية التي يستقبل بها الناس ذكرى المواسم السنوية، بل كذلك تتجسد فيما يمكن أن نطلق عليه «ذاكرة القوة» حتى في أزمنة الضعف التي تعكسها حياة الأمة في لحظة من لحظات التاريخ.
في شهر رمضان وموسمه السنوي الذي تحيا به الأمة الإسلامية ذكريات قوة ماضيها شيء من ذلك، فقوة الحياة في التاريخ التي تتجدد رمزيتها في رمضان عبر الاحتفال بشعيرة الصوم تعكس لنا، من ناحية ثانية، ليس فقط طبيعة الاحتفال ورمزيته، بل كذلك قوة ضغط الاحتفال عبر التزام المسلمين في غالبيتهم بشعيرة الصوم في شهر رمضان وتغيير طبيعة حياتهم فيه وفق إيقاع روحي معين من العبادات المصاحبة لشعيرة الصوم.
في كل عودة لموسم رمضان في حياة المسلمين ثمة قوة للذكرى تنهض وتتجلى عبرها القيمة التأسيسية الأولى لفعل الصوم في حياة الأمة الإسلامية الأولى، وما يصاحبها من مظاهر وطقوس يكون تعبير الفرح بها والحفاوة بها الظاهرة الأبرز.
وإذا ما بدا واضحًا أن فعل أي طقس كبير يأخذ طابع القوة منذ لحظته التأسيسية، فإن ما نراه في حياة المسلمين المتجددة عبر تعبيرهم عن الفرح السنوي برمضان وطقوس استقباله كأمة واحدة (رغم تفرق هذه الأمة اليوم وضعفها) يوضح تمامًا طبيعة لحظة البداية التي تتجدد باستمرار في كل سنة عبر التاريخ فينعكس معنى العود المستمر لتلك الروح التي يعيش بها المسلمون في رمضان قوة طقسية تظل باستمرار محفزة وملهمة.
إن علامات قوة الإسلام الأول تتجدد ذكراها واضحة في رمضان من خلال احتفاء المسلمين بذلك الشهر، وبالرغم من انفكاك قوة الأمة في التاريخ عن قوة الأمة في الحاضر، فإن القوة الرمزية الإسلامية في رمضان تظل هي هي، لأنه في الحقيقة حين تعبّر الأمة في احتفالها برمضان وتجدد طقوسه الروحية السنوية فإن التعبير الأبرز يبرز تلك الذاكرة القوية للأمة بوضوح.
وحين يشتبك طقس ديني بالذاكرة التاريخية لأمة ما، على نحوٍ حميمي يتحول به ذلك الطقس إلى مزيج من عبادات وعادات احتفالية مركوزه في عمق التاريخ والذكريات، فإن ذلك الاشتباك بذاته يدل في تلك اللحظة على أسلوب متجذر لمعنى مستعاد من ملامح القوة في أزمنة ضعف الأمة.
وهكذا سنجد أن «عيد» رمضان الذي هو كذلك ملمح لذاكرة القوة ومتصل، في الوقت ذاته بشهر رمضان، عاكس ذات المعنى الاستعادي لمشاعر القوة في الأمة، ولو على نحو رمزي، لكنه يذكرنا بوضوح أكثر: قوة اللحظة التأسيسية الأولى للإسلام وينقل لنا المشاعر الرمزية المتصلة بها في طبيعة استقبال المسلمين للعيد.
إن طبيعة رمضان الاستعادية في حياة المسلمين، من جهةٍ أخرى، تتصل بعبادات وطقوس تعزز القرب الروحي للمسلمين بمصادر دينهم، في دلالة تؤشر على قيم دينية واجتماعية معينة من شأنها تمتين الأواصر الجماعية للمسلمين مذكرةً بقيم الرحمة والتعاون والتكافل والصبر عبر تلك المشاعر التي يشعر بها المسلم من جراء فعل الصوم، كما أن في الإحساس الجماعي بالتطَّهر الروحي والعبادي في شهر رمضان وما يصاحبهما من مشاعر تتولد في نفس الصائم جراء الجوع والعطش، ما يعزز هوية واضحة للمشاركة الوجدانية التي هي من أكبر مميزات التصور الجماعي الحميم لفعل الصوم في حياة المسلمين خلال ذلك الشهر وأثره في التفاعل مع قضايا الحرمان والفقر.
لقد أصبح شهر رمضان، في مستوى آخر، موسمًا لترويج الكثير من الأعمال الفنية الدرامية والتلفزيونية حيث تعزز هذا الارتباط منذ عقود، فيما يشبه التواطؤ بين قدوم هذا الشهر الفضيل ورواج تلك الدراما التلفزيونية في كافة الدول العربية على الأقل، فيما بدت النزعة الاستهلاكية واضحة مع قدوم هذا الشهر، لا سيما في جوانب الأكل والشرب المتصلة بتقاليد شهر رمضان. وبالرغم من أن هذه الارتباطات في جانبي الدراما التلفزيونية والاستهلاك هي جزء من تدبير يتصل بتكييف الحياة الحديثة مع التقاليد والطقوس الكبرى لشهر رمضان، فإن القوة التعبيرية للمسلمين في هذا الشهر تتجسد في تنفيذ المعنى العبادي الحرفي لشعيرة الصوم، وذلك يعتبر أكبر دلالة على قوة رمضان في حياة المسلمين.