مؤتمر تونس واتجاهات التجديد الرقمي
د. حسني محمد نصر -
الأسبوع الفائت وعلى مدى يومين اجتمع عشرات من الباحثين وأساتذة الإعلام العرب في منتدى علمي مهم نظمه معهد الصحافة وعلوم الأخبار في الشقيقة تونس، وتداولوا فيما بينهم قضايا تتعلق بالصحافة والتجديد في الزمن الرقمي والممارسات الصحفية في مختلف أنواع وسائل الإعلام. وتضمن المنتدى أربعة محاور دارت حول التقنية كمدخل للتجديد الرقمي، والتجديد الصحفي في غرف التحرير، والتجديد في النماذج الاقتصادية، وأثر التجديد على الهويات الصحفية. وقد كان لي الشرف أن أتحدت أمام المنتدى حول التجديد الدستوري والقانوني الذي صاحب التجديد الرقمي وجاء استجابة له في بعض الدول العربية. وقد تضمن حديثي بعض الأفكار التي أردت هنا أن أشاركها المهتمين بالقضايا الإعلامية وصناع القرار في الإعلام الوطني والعربي، كدعوة لتجديد الخطاب القانوني المتعلق بوسائل الإعلام وحدود دورها ومسؤولياتها في المجتمع في هذا العصر الرقمي.
أول هذه الأفكار هو الإقرار بأن التشريع في مجال الإعلام والصحافة ووضع قوانين للعمل الإعلامي في الدولة لم يعد ينظر له على أنه معوق من معوقات حرية الإعلام، بل أصبح في عصر تعدد وتنوع منصات النشر أحد أهم المرتكزات التي يقوم على أساسها النظام الإعلامي في الدولة، كما يمثل أحد أهم المحددات والمقاييس التي يتم على أساسها تقييم نظرة المجتمع للإعلام ومدى إيمانه بحريته، ونظرة المجتمع الدولي للأنظمة الحاكمة. وتعد النصوص الدستورية الخاصة بالإعلام والقوانين المنظمة له، أيًا كان مسماها، بالإضافة إلى الممارسات الإعلامية الفعلية، وطبيعة العلاقة بين وسائل الإعلام وبين السلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة، من أهم الأسس والمعايير التي تقاس بها حرية الإعلام، وتصنف الدول على أساسها في تقارير المنظمات والهيئات والمحافل الدولية المعنية بحرية الإعلام. ويقوم التشريع للإعلام ووسائله على فكرة أن تنظيم الإعلام مهمة يجب أن تتولاها المجالس التشريعية والنيابية والحكومات، وأن التنظيم الذاتي الذي تقوم به الوسائل نفسها، والجمعيات والنقابات لا يمكن أن يغني عن التنظيم الحكومي الذي يحقق المساواة للجميع أمام القانون.
على المستوى العربي، سارعت دول عربية في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، مدفوعة بموجات الاحتجاجات الشعبية أثناء ما أطلق عليه ثورات الربيع العربي، وبعدها، من جانب، وبالحتمية الرقمية التي اجتاحتها، من جانب آخر، وتغير الأنظمة السياسية في بعضها من جانب ثالث، إلى تغيير دساتيرها وقوانين الصحافة والمطبوعات والنشر وإصدار دساتير وقوانين جديدة لتواكب التغيرات السياسية والتكنولوجية التي شهدها العالم العربي. وقامت بعض الدول التي تغير نظامها السياسي بتغيير قوانين الصحافة والمطبوعات والنشر ليس فقط لتتوافق مع الأنظمة الجديدة، ولكن أيضا لتواكب المشهد الإعلامي التكنولوجي الذي رسخه الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي، فيما شعرت دول أخرى لم تطلها رياح التغيير بأهمية استباق الثورات بإحداث تغيرات بنيوية في تشريعاتها المتعلقة بالإعلام والصحافة والنشر لتجنب ما حدث لأنظمة عربية أخرى.
لقد كشف إصدار بعض الدول العربية دساتير وقوانين جديدة للإعلام تفتح المجال الإعلامي قليلا وتتجاوز بعض القيود التي كانت تتضمنها النصوص الدستورية والقانونية السابقة. كان مدفوعة بعاملين هما ما أحدثته ثورات الربيع العربي من تغيرات سياسية بنيوية في الدول التي وقعت بها، وفي الدول التي خشيت من تكرارها. والتغيرات الكبيرة التي شهدها الإعلام سواء على مستوى التكنولوجيا وتمدد وازدهار وسائل الإعلام الجديدة وشبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف الذكية، وإدراك تلك الدول استحالة تطبيق الأسس القانونية القديمة على وسائل الإعلام الجديدة أو فرض رقابة وقائية على كل ما ينشر فيها. ومن ثم أصبح على الدول الأخرى ألا تنتظر كثيرا حتى تحدث نصوصها الدستورية وقوانين الإعلام بها، خاصة تلك التي ما زالت تحتفظ بقوانين قديمة تعود إلى القرن الماضي.
الفكرة الثانية أن التجديد الدستوري والتشريعي الذي يتماشى مع المستقبل، يجب أن يزيل التناقضات العديدة بين النصوص الخاصة بالإعلام والصحافة في الدساتير العربية التي تنص على كفالة حرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة، وبين الممارسات الفعلية على الأرض التي تتسم بالتضييق على هذه الحرية. إذ يبقى تفعيل هذه الحقوق رهنا بإرادة النظام الحاكم في المقام الأول الذي يتمتع بالسيطرة على كل مؤسسات الدولة ومنها المؤسسة النيابية والتشريعية، التي تمكنه من تعديل الدساتير، حتى تلك التي وضعها بنفسه.
وتحمل قوانين الإعلام في جميع الدول العربية تقريبا قائمة طويلة من المحظورات تنبه الصحفيين بأنهم لا يستطيعون كتابة القصص التي قد «تضر الاقتصاد » أو «تخل بالنظام العام»، وهو ما يؤدى إلى ممارسة مفرطة للرقابة الذاتية من جانب الصحفيين لتجنب المتاعب. في المقابل فإنه في الدول التي تتمتع فيها الصحافة بالحرية يُسمح للصحفيين بتغطية أي موضوع دون قيود. والقيود النادرة التي يتم فرضها عادة تتعلق بالتهديدات الوشيكة للأمن القومي أو التعدي على الخصوصية أو القضايا تنطوي على القذف أو السب أو الإهانة. وعلى هذا الأساس فإن أي تعديل لقوانين الإعلام في الدول العربية يجب أن يخلصها من اللغة الفضفاضة التي قد تدفع الصحفيين إلى الحد من تقاريرهم التي تستهدف تحقيق الصالح العام. وتمتد محظورات النشر في قوانين الصحافة والمطبوعات والإعلام الحديثة التي صدرت في الأعوام الأخيرة إلى كل وسائل ومنصات النشر ولا تقتصر على الصحف فقط لتشمل المواقع الإلكترونية الشخصية أو المدونات الإلكترونية الشخصية أو الحسابات الإلكترونية الشخصية التي يبلغ عدد متابعيها خمسة آلاف متابع أو أكثر. ورغم أن النصوص الجديدة أو التي تم تجديدها جاءت أكثر انفتاحا من نظيرتها القديمة، فإن واقع ممارسة حرية التعبير والصحافة والإعلام لم يتغير كثيرا وظل على ما هو عليه تقريبا. وباستثناءات قليلة للغاية، ظلت الدول العربية تحتل مراتب دنيا في هذه التقارير، بل أن وضع حرية الصحافة ازداد سوءا في بعضها مثل عما كان عليه في ظل النصوص الدستورية والقانونية القديمة. ولعل هذا ما يؤكد أن مشكلة الإعلام العربي ربما لا تكمن في النصوص الدستورية والقانونية، بقدر ما تتعلق بإيمان الأنظمة بأهمية حرية الإعلام وحدود دوره في دعم التنمية والتحول الديمقراطي وتصحيح الأخطاء.
لا شك في أن التغيرات التي حدثت على مستوى النصوص الدستورية والقانونية في الدول العربية تمثل تحولا ملموسا نحو منح وسائل الإعلام التقليدية والجديدة مزيدا من الحريات، إلا أنها تبقى مع ذلك مجرد نصوص صماء لا يتم تطبيقها على أرض الواقع. وهي نصوص دعائية في المقام الأول تريد الأنظمة الحاكمة من خلالها للعالم أنها قد تغيرت في تعاملها مع وسائل الإعلام. ورغم ما حملته هذه التغيرات من إعادة التأكيد على حرية التعبير والصحافة، فإن القيود الأساسية المتوارثة من سياقات تاريخية مختلفة ما زالت قائمة بشكل كبير. ولم تنجح هذه التغيرات في تغيير قيود الإصدار وقيود التوزيع والتداول، وقيود النشر، وزيادة حماية الصحفيين، أو التخلص من ممنوعات النشر.
ختاما نقول إن اتجاه الدول العربية نحو تحديث القوانين التي تنظم عمل وسائل الإعلام في المجتمع يبدو اتجاها صائبا وملحا في ظل التغيرات المتلاحقة التي تشهدها بيئة وصناعة الإعلام على جميع المستويات التكنولوجية والإنتاجية، ولكن يجب أن يكون هذا التحديث في اتجاه منح وسائل الإعلام مزيدا من الحريات سواء على صعيد حرية الإصدار والتوزيع والتداول، وحماية الصحفيين والعاملين في وسائل الإعلام، وخفض قوائم محظورات النشر الطويلة.