أنســاغ :بطون منتفخة، أمعاء خاوية: «نمو» بلا «تطور» في أمريكا اللاتينيَّة «5/ الحلقة الأخيرة»
عبدالله حبيب -
«ليست الثورة تُفَّاحة تسقط حين تنضج..عليك أن تجعلها تسقط»
-تشي غيفارا-
استعرضت في الحلقة السابقة من هذه الـ«أنساغ» الآثار الزلزاليَّة التي ترتبَّت في الأمريكتين (الشمالية والجنوبية) نتيجة انتصار الثورة الكوبيَّة في عام 1958 بقوة السلاح (و«بقوة السلاح» هذه هي عبارة ينبغي التوكيد عليها لفهم الرعب الذي أصاب الدوائر السياسيةَّ والأمنيَّة في الولايات المتحدة التي اتضح لها ـ فجأة، تقريبًا ـ
إنه قد طفح الكيل بشعوب أمريكا اللاتينيَّة، وقد جاءت حقبة «الكلاشنكوفات» و«السيمينوفات»، وقد حلَّ عصر «الحالمين المُلتحين المجانين» فيديل كاسترو، وتشي غيفارا، وكاميلو سونفيغوس وذلك ضمن خلفية تعامل الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع «الفناء الخلفي لبيتنا» بدءًا من «عقيدة مونرو» (1823) ووصولًا إلى عهد إدارة جون كندي (ستينيّات القرن العشرين) حيث تم التقدم بمشروع «التحالف من أجل التقدم» الذي حاججتُ حول ظاهره وباطنه: كان المقصود إعاقة العملية الثوريَّة المتَّقدة والمتراكمة في النفوس والوجدان الجمعي لصالح ما يمكن وصفه بحفل عشاء خيري متقشف. لكن ما الذي حدث بعد إدارة كندي؟.
حسن جدًا. لقد جاءت إدارة رِتشَرد نِكْسُن (نعم، صاحب فضيحة «ووتر غيت» ما غيره) التي كانت أسوأ، في الحقيقة، من إدارة كندي فيما يخص التعامل مع أمريكا اللاتينيَّة وأوضاعها المزرية؛ فقد أقامت تلك الإدارة سياساتها على يقينيَّة ان الولايات المتحدة لها مصالح حيويَّة واسعة، تكتيكيَّة واستراتيجيَّة، في أمريكا اللاتينيَّة؛ ولذلك فإن على الثانية أن تبقى بمنأى عن أية توجهات سياسيَّة وأيديولوجيَّة راديكاليَّة، وعن أية «اختراقات خارجيَّة» (لاحظوا هنا أن مصطلح «الاختراقات الخارجيَّة» ليس له إلا معنى واحد فقط هو «الاختراقات غير الأمريكيَّة» على اعتبار ان السوفييت والصينيين، مثلًا، يسكنون في المريخ أو زُحل) التي تلك «الاختراقات»، عنيتُ- قد تعرَّض مصالح وسيطرة الولايات المتحدة للخطر، وأنه ليس هناك حاجة لأن تُسَخِّر الولايات المتحدة أية موارد ذات شأن لأمريكا اللاتينيَّة ما دام الوضع القائم في الثانية يخدم مصالح الأولى، وأن التغييرات البهرَجيَّة المتواضعة، كتلك التي سعى إليها «التحالف من أجل التقدم» (إدارة كندي، 1961)، قد تُضعِف القوى السياسية الموجودة في الميدان وتؤثر على علاقات السُّلطة مع الحلفاء الطبيعيين للولايات المتحدة؛ أي الأنظمة الديكتاتوريَّة بصريح العبارة، والممارسة، والمجاهرة بالقمع.
أما إدارة جِمِي كارتر، فلأسباب تتعلق بالنزعة العامة لسياسات الولايات المتحدة وقتئذ، ولما أظن أنه ترجمة لنزعة مسيحيَّة تَطَهُريَّة متأصلة في شخص الرئيس الذي علينا ألا ننسى أنه يحمل رتبة «شِدْياق» في الكنيسة، وهي مرتبة في التراتبيَّة الكهنوتيَّة أقل من درجة «كاهن» بدرجة (ونحن العرب، في جملة استطراديَّة، وصلتنا «إنسانويَّة» كارتر المسيحيَّة في اتفاقيَّة كامب ديفِد. وسأظل، على صعيد شخصي، أتذكر حوارًا تلفزيونيًّا معه سئل فيه عن الزعيم الأحب إليه خلال فترة رئاسته، فأجاب بلا تردد: أنور السادات!. والحقيقة إنني لم أتعجب كثيرًا من إجابته تلك)، فقد حاولت- إدارة كارتر، قصدتُ - بطرق رمزيَّة، وبعد أن بلغ السيل الزبى، دعم الحد الأدنى من الديمقراطيَّة في أمريكا اللاتينيَّة (وهذا هو الاستثناء الثاني للسياسة النموذجية التي اتبعتها الولايات المتحدة بطريقة مُمَنْهَجَة إزاء جارتها). ومع أن تلك المحاولات البسيطة كانت أبعد من أن تكون ناجعة بصورة خاصة فإن أهميتها تكمن في أنها برهنت على أنه يمكن الانتقال من سياسة القمع والاضطهاد إلى سياسة التعاون والتفاهم والحوار، والإسهام بذلك في خلق ظروف اقتصاديَّة، وسياسيَّة، واجتماعية «معقولة» في المنطقة من دون إلحاق أدى ضرر بمصالح الولايات المتحدة التي هي أمر واقع. لقد كان كارتر «مسيحيًّا طيبا» يذهب إلى الكنيسة، وإلى البيت الأبيض، وأول ما يفعله في الصباح هو قراءة التقرير اليومي لوكالة الاستخبارات المركزيَّة الأمريكيَّة (CIA)، ثم يقرر ما الأصلح للولايات المتحدة والعالم.
وفي الحقيقة فإنه يمكن أن نجد مثالًا على هذا التوجه في «تخلي» الولايات المتحدة عن «السيادة» على منطقة قناة بنما (التي كان الرئيس الأمريكي فرانكلِن روزفلت قد «أخذها» في عام 1903 ليقوم أحد أخلافه، وهو جورج بوش الأب، بـ«إعادة أخذها» عمليًَّا في عام 1989)، وإعادة إجرائيَّات التحكم والإشراف على القناة إلى بنما التي علينا ألا ننسى أنها، وبصفتها كيانًا سياسيًّا مستقلًا، كانت أصلًا من صُنْع الولايات المتحدة، وكان ديكتاتورها مانويل نورييغا أحد عملاء وكالة الاستخبارات المركزيَّة الأمريكيَّة حتى تاريخ القبض عليه و«تسفيره» في طائرة شحن عسكرية أمام كاميرات التلفزيون في مشهد إذلاليٍّ وتَغَطْرُسي من الطراز الرفيع ليقضي عقوبة السجن في الولايات المتحدة بتهمة تجارة المخدرات وغسل الأموال بعد أن انتهى دوره ولم تعد منه فائدة ترجى، ولذلك فقد انتهى إلى إرشيف العملاء ومزبلة التاريخ. ما أزال أتذكر شخصيًّا ما بثَّه التلفاز من مشاهد، وقد كنت أمام أسوأ فيلم أمريكي على الإطلاق.
لكن، ومع وصول الرئيس الأمريكي رونَلْد ريغَن إلى دفة البيت الأبيض في عام 1981، عادت السياسة الأمريكية نحو أمريكا اللاتينيَّة إلى الاستلهام الكامل لحذافير «عقيدة مونرو» (1823)؛ وبذلك عادت الولايات المتحدة لتقديم الدعم غير المشروط بالطُّرق العلنيَّة والسريَّة، وعلى جميع الأصعدة، إلى الحلفاء القدماء الذين هم دهاقنة الحكم العسكري المطلَق وأساطين اليمين المتطرف كما في تشيلي والبرازيل، لتبدأ مرحلة أخرى من مراحل الجوع، والبطش، والعسف، وحمَّامات الدم في أمريكا اللاتينيَّة. وإننا نجد، في هذا الإطار، المثال الأكثر غُلُوًَّا، وتطرفًا، ودمويَّة لما عُرِف بـ«الريغَنِيَّة» في حالة نيكارغوا؛ حيث لم تألُ الإدارة الأمريكية جهدًا مقيتًا، ولم تدَّخر طريقة شائنة، ولم تستثنِ أسلوبًا شنيعًا (بما في ذلك تجاوز ولَي أذرع بعض قوانينها نفسها) في محاولتها للإطاحة بالحكومة الساندانيَّة الشرعيَّة في ماناغوا (وقد تورطت حتى بعض الأطراف العربية في تلك المساعي غير الحميدة، وأصبحت الوثائق والمعلومات حول ذلك متاحة لمن أراد اليوم). لقد انتهجت الولايات المتحدة في ذلك خطابًا عدائيًَّا رخيصًا وبروباغاندا سياسية لِشيطَنَة نظام دانييل أورتيغا؛ فازدرت عرضه الحوار غير المشروط مع واشنطُن، وفرضت حصارًا اقتصاديًّا صارمًا، وأكرهت أنظمة أمريكيَّة لاتينيَّة على الانضمام إليها، وخالفت القوانين، والقرارات، والأعراف الدوليَّة، وصالت في النهار وجالت في الليل، وسلَّحت ودرَّبت على أراضيها الإرهابيّين والسَّفَّاحين اليمينيّين (بل شبه الفاشيّين) من فلول الدِّكتاتور المخلوع مقيت الذِّكر أناستاسيو سوموزا، وارتكب مرتزقتها أبشع الجرائم بحق النيكاراغوييّن في الأرياف في ما تحتفظ منه الأراشيف ومراكز الأبحاث والدراسات ببعض من أسوأ الصُّور في ذاكرة القرن العشرين، ولغَّمت موانئ نيكاراغوا، وقصفت مدارسها ومستشفياتها على أيادي عملائها المتمركزين في قواعد في هندوراس من بقايا «الحرس الوطني» في نظام سوموزا الملطَّخ بالآثام، والفساد، والدماء. وقد أدت هذه الحملة الشعواء (حرفيًّا ومجازًا) لاضطرار الساندانييّن إلى تركيز مواردهم وإمكاناتهم المحدودة أصلًا على الدفاع عن البلاد في ما كان حقًا حربًا وطنيَّة من الدرجة الأولى، واستمرارًا مباشرًا وفوريًّا لحرب شعبيَّة ثوريَّة من الدرجة الأولى أيضًا، وذلك عوضًا عن تكريس تلك المصادر والإمكانات لما وعدت به الثورة شعبها: برامج الإصلاح الاقتصادي، والسياسي، والتطور الاجتماعي التي لم يكن هناك مناص من إلغاء بعضها وتقليص بعضها الآخر بسبب المتطلبات المُلحَّة للميزانيَّة العسكريَّة الدِّفاعيَّة، وقد أدى ذلك إلى تفاقم الاستياء والقنوط بين صفوف الأهالي وصولًا إلى هزيمة الساندانييِّن في الانتخابات واضطرارهم للعودة إلى موقع المعارضة السلميَّة.
بهذا تنتهي سلسلة حلقات «أنساغ» التي خصصتها لمشكلة «النُّمو» بلا «تطوُّر» في أمريكا اللاتينيَّة التي هكذا أدعوها دومًا: قلوبنا القابضة على الجمر. كما إني أستأذنكم في أن مادة «أنساغ» ستتوقف خلال الشهر الفضيل، وسوف تعاود الظهور بعد ذلك. هذا وكل عام وأنتم بخير.