أفكار وآراء

مفاوضات سد النهضة .. الحوار الخشن إلى أين ؟ !

12 أبريل 2021
12 أبريل 2021

د. عبد الحميد الموافي -

ليس من المبالغة في شيء القول إن فشل جولة المفاوضات المصرية السودانية الأثيوبية التي رعاها الرئيس فيليكس تشيسكيدى رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية يومي الرابع والخامس من أبريل الجاري في العاصمة كينشاسا، قد أحدثت المزيد من القلق وهيأت لتوتر متزايد، على مختلف المستويات الرسمية والشعبية، سواء في الجانبين المصري والسوداني، أو في الجانب الأثيوبي الذي بات متأكدا أنه يمارس لعبة خطرة بشكل حقيقي، وتكشف الشعارات المبالغ فيها عن ضعف الموقف الذي تحاول تغطيته بشكل أو بآخر، خاصة في ظل معطيات الواقع الأثيوبي الداخلي في هذه المرحلة.

وفي ظل الاستقطاب الحاد بين مصر والسودان من جانب وأثيوبيا من جانب آخر، ومع كل يوم يمر، وهو ما يقرب موعد الملء الثاني لبحيرة سد النهضة في موسم الفيضان في شهر يوليو القادم، وإصرار أثيوبيا على المضي قدما في عملية الملء الثاني، ورفض مصر والسودان للقيام بذلك بشكل أحادي، وتمسكهما بضرورة التوصل إلى اتفاق ملزم قانونا للدول الثلاث ينظم عملية الملء وإدارة سد النهضة وبما يخدم مصالح الدول الثلاث، فإن الفجوة باتت أوسع من أن يتم التقليل منها، أو الحديث عن إمكانية تجاوزها سريعا، خاصة وأنه لم تتوفر حتى الآن على الأقل، إرادة أو رغبة دولية حقيقية أو فعالة للعمل على حل هذه المشكلة المعقدة. ويبدو أن أطرافا عدة تنظر بارتياح، وربما تساعد بشكل أو بآخر الجانب الأثيوبي ليستمر في مماطلاته لممارسة المزيد من الضغوط على مصر والسودان والوصول إلى حافة الهاوية، ربما أملا في أن يؤدي تعقيد الموقف والوقوف على حافة الانفجار إلى بزوغ مواقف أكثر مرونة.

غير أن التفكير على هذا النحو ينطوي على مخاطرة حقيقية، سواء بالنسبة للدول الثلاث بشكل مباشر، أو للأمن والاستقرار في شرق إفريقيا بشكل غير مباشر، وهو ما حذر منه الرئيس عبد الفتاح السيسي بوضوح في الأيام الأخيرة. وفي ضوء ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، أكثر من أي وقت مضى، هو إلى أين تتجه الأزمة؟ وهل يمكن أن تحدث حربا حول السد، بمحاولة قصفه أو تدميره بشكل أو بآخر، وماذا يمكن أن يترتب على ذلك من مخاطر ؟ وهل يمكن أن تنفرج الأزمة في الأسابيع القادمة عبر صيغة تعاونية ما، قبل فيضان يوليو، وهل يمكن أن تؤدي أمطار غزيرة، كتلك التي حدثت العام الماضي على الهضبة الأثيوبية، إلى حدوث مرونة أكبر في مواقف الدول الثلاث. على أية حال فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا : إنه بالرغم من أن المفاوضات المصرية السودانية الأثيوبية حول مشروع سد النهضة تعود إلى ما يزيد على عشر سنوات، وبالرغم من استقرار اتفاقيات تقسيم مياه نهر النيل وفقا لاتفاقيات أعوام 1902 و 1929 و1959، والتفاهم المصري الأثيوبي، المثقل بتراكمات سلبية مكتومة، على مدى العقود الماضية، وبغض النظر عن بعض المنغصات مثل اتفاقية عنتيبي، مبادرة حوض النيل، التي رفضت مصر التوقيع عليها لأنها تدعو إلى إعادة النظر في تقاسم مياه النيل بين دول الحوض، فإن أسوأ، أو بمعنى أدق أخطر ما في النزاع الحالي بين مصر والسودان وأثيوبيا، أنه يطرح مسألة تقاسم المياه وأنصبة مصر بالذات في مياه النيل وهي 55,5 مليار متر مكعب والسودان 18,5مليار متر مكعب، وهما دولتا مصب، وما تعتبره أثيوبيا حقا لها في مياه النيل الأزرق الذي ينبع من الهضبة الأثيوبية ويمتد عبر السودان ليصب في نهر النيل. ففي الوقت الذي حولت فيه حكومة أديس أبابا مشروع سد النهضة إلى مشروع للفخار والكرامة والسيادة الوطنية، وحولته إلى قضية تحد في مواجهة مصر والسودان، وعينها على الداخل الأثيوبي من ناحية، وعلى دول حوض النيل الأخرى من ناحية ثانية، وتقديم نفسها كقوة إقليمية أفريقية موازية لمصر وقادرة على إعادة تقسيم مياه النيل مرة أخرى، فإن الطرح الأثيوبي لقضية مياه النيل الأزرق على أنها قضية موارد أثيوبية وطنية، منحها الله لأثيوبيا، وأن من حق أديس أبابا التحكم فيها واستخدامها على النحو الذي تريد، وحتى بيعها – بيع المياه الفائضة منها لمن يرغب في شرائها – وهو ما ظهر في تصريحات مسؤولين أثيوبيين يعد جولة كينشاسا الأخيرة، من شأنه أن يطرح في الواقع مخالفة وانتهاكا صريح للقواعد وللاتفاقيات الدولية الخاصة بالمياه وبقواعد استغلال الأنهار الدولية، وكذلك انتهاك كل الأعراف التي استقرت بشأن تقاسم مياه النيل خلال القرون والعقود الماضية، وهو ما لا يمكن تبريره على أي نحو قانوني بالقول بأن الاتفاقيات السابقة هي اتفاقيات استعمارية، أو تم التوصل إليها خلال فترة الاستعمار الغربي لإفريقيا، ولا بالزعم بأن الأمطار تهبط على الهضبة الأثيوبية وتنطلق في النيل الأزرق الذي يمر في الأراضي الأثيوبية ثم السودانية حتى يصب في مجرى النيل هو والنيل الأبيض وذلك تحت شعار « المياه مياهنا والأرض أرضنا والسد سدنا « أو القول بأن المياه « هبة إلهية لأثيوبيا تستخدمها كما تشاء «كما تعلن الحكومة الأثيوبية.

فبالنسبة لاتفاقيات تقسيم مياه النيل فهي اتفاقيات دولية، صحيح أنها تمت في ظل سيطرة الاستعمار الغربي على إفريقيا إلا أنها لم تهدر أو تتجاوز حقوق دول المنبع في حوض النيل، لأن مصر والسودان هما دولتا المصب، وكان المبدأ هو مراعاة مصالح دول الحوض جميعها والتشاور مع مصر – باعتبارها دولة المصب النهائية – بالنسبة لإقامة أية منشآت على النهر يمكن أن تؤثر على كميات المياه التي تصل إليها، أو على تدفق المياه في نهر النيل بشكل أو بآخر، وقد حرصت مصر على مراعاة حقوق دول المنبع والتنسيق معها، بل والقيام بالكثير من الخدمات ذات الصلة بمياه النيل في دول الحوض جميعها على مدى العقود الماضية. يضاف إلى ذلك أن الدول الإفريقية عند استقلالها من الاستعمار الغربي، اتفقت على أن تظل حدودها السياسية كما هي عند الاستقلال وذلك تفاديا لنشوب نزاعات فيما بينها بسبب الحدود، وقد تبنى الاتحاد الإفريقي هذا المبدأ بعد أن تبنته منظمة الوحدة الإفريقية التي أنشئت عام 1963 في أديس أبابا.

من جانب آخر فإن نهر النيل هو من الأنهار الدولية، بحكم مروره في إحدى عشرة دولة إفريقية من المنبع حتى المصب، وتدخل روافده، ومن أهمها النيل الأزرق والنيل الأبيض في هذا الإطار، وبالتالي فإنه لا يمكن الاحتجاج بأن مياه النيل الأزرق هي ملك لأثيوبيا، أو إنها هبة إلهية لها وحدها، خاصة وان النيل الأزرق يهطل عليه سنويا ما يتجاوز ال 900 مليار متر مكعب من المياه، وهذه كلها لا يمكن إلا أن تتدفق في مجرى النيل الأزرق لتصب في مجري النيل. والأحكام والقواعد الحاكمة لاستغلال الأنهار الدولية عديدة ومعروفة تماما على المستوى الدولي، ولا يمكن إلا الانصياع لها واحترامها من جانب كل الأطراف، غير أن تآكل الثقة المتبادلة بين مصر والسودان من ناحية وأثيوبيا من ناحية أخرى وتداخل مشكلة السد مع قضايا اقتصادية وتنموية واجتماعية وبالتأكيد سياسية في الدول الثلاث يزيد من تعقيد الأزمة ويجعل من الجدل القانوني حديثا لا يسمعه أحد تقريبا، لأن الأزمة أصبحت مجسدة على الأرض وتتطلب تحركا عمليا وتوافقيا من الدول الثلاث لتحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة وعبر خروج الجميع كاسبا بشكل أو بآخر .

ثانيا: إنه في ظل متابعة التحركات ذات الصلة بأزمة سد النهضة، يمكن القول إنه بالرغم من مشاركة عدة أطراف دولية وإقليمية، وبعضها عربي، في تمويل السد وتقديم الدعم الفني والأمني لأثيوبيا على مدى الفترة الماضية، فإن كل هذه الأطراف تلتزم موقف الصمت والترقب للأزمة بين مصر والسودان وأثيوبيا، ومع إدراك تعاون البعض سرا مع أديس أبابا، فإنه لم تتوفر حتى الآن على الأقل رغبة دولية واضحة وقوية للتدخل للإسهام في حل الأزمة والتقريب بين الدول الثلاث. ومع أن مصر والسودان اقترحتا صيغة رباعية تتضمن تدخل أمريكا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة إلى جانب الاتحاد الإفريقي للمساعدة في إيجاد حل، وكانت القاهرة قد دعت البنك الدولي والولايات المتحدة للتدخل من قبل، إلا أن أثيوبيا لا تزال ترفض ذلك، إصرارا منها على الدور الذي يقوم به الاتحاد الإفريقي ورفض أية وساطات أو أدوار مراقبة لأية أطراف أخرى، وذلك من منطلق أن الأزمة إفريقية وانه يجب حلها في الإطار الإفريقي، وأن مجلس الأمن الدولي ذاته أصدر بيانا في يونيو الماضي يحبذ ويدعم دور الاتحاد الأفريقي للتوصل إلى حل. وفي ظل ضعف تأثير الاتحاد الإفريقي، بحكم ثقل دور أثيوبيا فيه، واتخاذ الاتحاد لموقف « محايد « فإن فرص التوصل إلى اتفاق في ظل رئاسة الكونغو الديموقراطية لن تزيد عن فرصه التي لم تتحقق في ظل رئاسة جنوب إفريقيا له العام الماضي. وبذلك وجدت مصر والسودان نفسيهما في مواجهة تعنت وتلاعب أثيوبي ومماطلة لاكتساب الوقت ورفض لمقترحات الحل، وهو ما يجعل الجميع يقترب من مواجهة الخطر خلال الأسابيع القادمة مع حلول شهري يونيو ويوليو وهما شهرا الأمطار الغزيرة على الهضبة الأثيوبية. ومع أن الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا وبالطبع الولايات المتحدة يمكنها ممارسة الضغط على أثيوبيا، لو أرادت، إلا أن إدارة بايدن تحدثت عن إمكانية تسهيل المفاوضات وإيجاد حلول، وأعادت المساعدات التنموية لأثيوبيا – 270 مليون دولار – التي كان ترامب قد أوقفها، وفصلت بين تلك المساعدات وبين أزمة سد النهضة.

والمؤكد أن كل الأطراف الإقليمية والدولية تدرك المخاطر التي تواجهها كل من مصر والسودان في حالة عدم التوصل إلى اتفاق مع أثيوبيا وما يمكن أن يترتب على ذلك من مخاطر . فهل هناك من يتربص بالقاهرة ويدفع بها إلى التورط في حرب بشكل ما، سواء لوقف تنميتها وتطويرها الملموس، أو لاستنزاف مواردها لسنوات قادمة ؟ ثالثا: انه في ظل المماطلة الأثيوبية والإصرار على الملء الثاني لبحيرة سد النهضة من خلال حجز 13,5 مليار متر مكعب من المياه المتدفقة إلى السودان ومصر، لوح الرئيس عبد الفتاح السيسي بشكل واضح ومحدد بأن حصة مصر من مياه النيل «خط أحمر «، وأن المساس بها يمكن أن يؤدي إلى عدم استقرار « لا يتخيله أحد « في المنطقة، وانه لا ينبغي لأحد أن يفكر في أخذ نقطة مياه من مصر، وان مصر قادرة و «كل الخيارات مطروحة».

وبالرغم من أن الرئيس المصري نفى انه يهدد أي طرف، ودعا أثيوبيا إلى التعاون لتحقيق المصالح المشتركة، إلا أن أديس أبابا أدركت معنى التصريحات المصرية. ومع الوضع في الاعتبار أنه جرت مناورات جوية مصرية سودانية ( نسور النيل 1 و 2 ) كما تم التوقيع على اتفاق أمني بين مصر وأوغندا قبل أيام، إلا أن ذلك لا يعني أن مصر ماضية إلى الحرب. صحيح إنها حددت خطها الأحمر، ولكنها في الوقت ذاته لا تزال تفتح الطريق أمام التوصل إلى توافق مفيد للدول الثلاث حول اتفاق ملزم لملء السد وإدارته. غير أنه ينبغي الانتباه إلى ظهور جنرالات السوشيل ميديا الداعين للحرب، وكذلك دعوات بعض التيارات السياسية المصرية المحبذة لإعداد الدولة للحرب، وهي دعوة تتضمن في باطنها مطالب أخرى محددة، كما طالب البعض بالسماح لهم بمحاربة أثيوبيا، وهي كلها دعوات ينبغي الحذر منها، لأنها في جوهرها تريد الضغط على القيادة المصرية ومحاولة دفعها – ربما نيابة عن أطراف أخرى – للتورط في حرب يدفع الشعب والدولة المصرية ثمنها من حاضره ومستقبل أجياله.

ومع اليقين بأن القيادة المصرية لا تستجيب لمثل تلك الدعوات، وأنها تزن المصالح الوطنية المصرية بميزان دقيق، فإن التوجه إلى مجلس الأمن الدولي، وزيادة التنسيق العسكري مع السودان، تحسبا وتلويحا بإمكانية التحرك العسكري لردع أثيوبيا ودفعها للتجاوب، وتبني ملف تعاون عملي يخدم مصالح مصر والسودان وأثيوبيا بشكل متوازن، والقيام بتحرك دبلوماسي سريع وفعال وواسع النطاق مع الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن وعلى النطاق الدولي الأوسع يمكن أن يؤدي إلى فتح الطريق للتوصل إلى اتفاق، خاصة وانه يمكن نظريا بدء الحرب ولكن ماذا بعد ؟ ومتى وأين ستنتهي وكيف وبأية خسائر؟ وماذا سيترتب عليها بالنسبة للمستقبل ؟ فهل يملك دعاة الحرب إجابات ؟!