أفكار وآراء

سوء حظ بيت العجائب

11 أبريل 2021
11 أبريل 2021

زاهر بن حارث المحروقي -

من سوء حظ بيت العجائب في زنجبار أنه انهار في وقت انشغل فيه المواطنون العمانيون بقضايا عديدة تمس حياتهم اليومية، وسط الحديث عن الضرائب - التي جاء تطبيقها مع بداية شهر رمضان الفضيل - وعن رفع الدعم عن الكهرباء والماء، والتقاعد المبكر، والفساد، وبعض التصريحات غير المسؤولة التي تسبّب الإحباط وتبثّ الطاقة السلبية في المواطنين، وغيرها من القضايا، ولسانُ حالهم يقول يجب أن تكون الأولوية في الاهتمام بالبشر لا بالحجر، وهو في المجمل قولٌ صائب، إلا أنه يعبّر عن وجهٍ واحد فقط للعُملة، فالاهتمام - في حالة كهذه - يجب أن يكون بالبشر والحجر معًا ولكن ليس على حساب البشر.

ظلّ بيت العجائب شامخًا منذ عام 1883، والذي بناه السلطان برغش بن سعيد بن سلطان، واستخدمه قصرًا للاستقبالات الرسمية وقاعة للاحتفالات، وسُمِّي بهذا الاسم، لأنه كان أول مبنى في زنجبار تصل إليه الكهرباء، وأول مبنى في شرق إفريقيا يحتوي على مصعد كهربائي، وأدخل القصرُ عناصر معمارية جديدة إلى شرق إفريقيا، بما في ذلك الأعمدة الخارجية التي كانت مصنوعة من الحديد، ممّا ساعد في ثبات السقوف العالية وصموده، حتى الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق من ظهر يوم الجمعة الخامس والعشرين من ديسمبر 2020، عندما انهار الجزء الأمامي منه، وهو الواجهة المطلة على البحر وبها برج الساعة، الذي بني عوضًا عن منارة دُمِّرت خلال الاعتداء الإنجليزي على زنجبار في السابع والعشرين من أغسطس من عام 1896، في الحرب التي عُرفت زورًا وبهتانًا بأقصر حرب في التاريخ، التي دمرت قصر بيت الحكمة، وتضرّر من جرائها قصر بيت الساحل، فلم يصب بيت العجائب إلا بأضرار طفيفة، وأثناء إعادة الترميم عام 1897 بُني برج الساعة في واجهة المبنى مكان المنارة، فيما لم يُعَد بناء بيت الحكمة الذي حُوِّل إلى حديقة.

دار نقاش كبير في مجموعات التواصل حول الاهتمام ببيت العجائب، ورأى كثيرون أنّ الموضوع غير ذات قيمة، ويجب أن ننساه باعتبار أنه انهار وانتهى أمره.. فماذا في ذلك؟! ووجِّهت اتهاماتٌ كثيرةٌ بالتقصير للمسؤولين عن ترميمه، بعد أن وقّعت السلطنة في أكتوبر 2019م، وثائق إسناد مناقصة إعادة تأهيل المبنى بحوالي ستة ملايين دولار، الأمر الذي استنكره البعض في مواقع التواصل في أن تصرف السلطنة مثل هذا المبلغ على معلم يعود الآن لدولة أجنبية، ورأوا أنّ المواطنين العمانيين أولى وأحق بهذا المبلغ الكبير.

لا بد من الاعتراف أولًا أنّ هناك تقصيرًا ما في متابعة كيفية الترميم، من ذلك مثلًا أنّ الدكتور محسن الكندي المهتم بالأثر الثقافي والمعماري العماني في زنجبار، وله كتابات مبكرة في هذا الشأن، أخبرني - متأسفًا - أنه زار بيت العجائب ووجد أنّ طريقة الترميم كانت بدائية جدًا وبطيئة، ولا ترقى إلى أن تسمّى ترميم. وهذا ما تأكّد فعلا وقت الانهيار، إذ كان هناك أربعة عُمّال فقط، هذا غير المبلغ المرصود للترميم، فهو مبلغ كبير لا شك في ذلك، وقد قرأتُ بعض التغريدات من زنجبار تحدّثَت عن شبهة فساد من قبل المسؤولين هناك، ممّا يؤكد التقصير في المتابعة.

وحول الانتقادات التي أثيرت حول ترميم البيت، أرى أنها ليست مبررة، لأنّ هذه الآثار هي جزءٌ من التراث العماني، ولا يصح أصلا أن نهملها سواء في إفريقيا أو آسيا أو أيِّ مكان في العالم. وإذا كنتُ أرى أنّ الاهتمام بها واجب، فإني - في الحين نفسه - من المؤمنين بأهمية توفير الحياة الكريمة للمواطنين، دون المساس بما يضر حياتهم اليومية، فهم لم يُستشاروا في كلِّ القرارات السابقة التي أدت إلى الأزمة الاقتصادية، ومن ثَم لا يجب أن يتحملوا هم الخطأ ويدفعوا الثمن، وهو ما سبق لي وأن أشرتُ إليه في أكثر من مقال.

والحقيقة تؤكد أنّ لعُمان قوى ناعمة كثيرة في الشرق الإفريقي، إلا أنها لم تستغلها، حتى أصبحت مكانة عُمان والعمانيين تتراجع لصالح أطراف لم تكن موجودة هناك في الأصل، ووصل الأمر إلى سرقة وانتحال كلِّ ما هو عُماني، بما في ذلك الآثار. والقضيةُ ليست مجرّد حجر انهار بقدر ما هي حضارة وتاريخ، فإذا أهملنا اليوم تراثنا خارج عُمان، فإننا سنفرط فيه داخل عُمان غدًا، ومن يهمل ثقافته وتاريخه فإنه سيهمل وطنه، وما يؤسف له هو أنّ عُمان أصبحت تفقد تلك القوى الناعمة قوة بعد قوة.

المرجو أن يكون انهيار الواجهة الأمامية لبيت العجائب فرصة لإعادة ترتيب الأوراق حول الوجود العماني في الشرق الإفريقي بشرًا وحجرًا، فلا يخفى أن زنجبار أصبحت قِبلة سياحية يأتيها الزوار من كلِّ مكان في العالم، ولكن من يزورها الآن لن يجد الآثار العمانية، وإذا وجدها فإنها ناقصة أو مشوهة، ولا يسمع الزائر من المرشدين السياحيين إلا عبارات مكررة عن تجارة العمانيين للعبيد. ومن شاهد الحلقات الأولى من البرنامج التلفزيوني الذي أعدّه وقدّمه الزميل محمد المرجبي عن الشرق الإفريقي، وقارن بين الصور التي تأتي الآن من زنجبار فإنه سيرى اختفاء الشواهد من المقبرة السلطانية، وهذا موضوع له ما بعده، إذ بعد سنوات قليلة لن يعرف الناس هذا قبر من وهذا قبر من؟! بل إنّ بعض الزوار ذهبوا لزيارة قبر الشاعر الكبير أبي مسلم البهلاني ـ رحمه الله ـ، فلم يجدوه، وأشار بعض كبار السن إلى موقع القبر دون وجود ما يثبته لأنه اندثر. ومثلما هو معلوم فإنّ طمس هوية القبور وسرقة الشواهد من أكبر الجرائم الإنسانية، ولها سوق رائجة، وقد حدث كثيرًا أن اختفت شواهد القبور من عُمان نفسها، كما أشار إلى ذلك الباحث محمد بن عبدالله السيفي في كتابه «التاريخ المحفور على شواهد القبور».

يبدو للمتابع أنّ هناك خطة ممنهجة لمحو الآثار العمانية في تلك الديار، إذ وصل الأمر أنّ أحد الأشخاص، وزّع للناس أكثر من خمس عشرة ألف دشداشة غير عمانية مجانًا، على حساب الدشداشة العمانية التي كانت إحدى سمات المجتمع هناك.

ما زال الوقت قائمًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فيكفي ما خسرناه في زنجبار من آثار ومخطوطات ومبانٍ تاريخية، تُمثِّل الفكر والثقافة والحضارة العمانية. ومبنى بيت العجائب واحدٌ من تلك المباني التي يجب المحافظة عليها، ولا يمكن الآن ترميمه فقط، إذ أنه يحتاج إلى البناء من جديد بشكله الحالي على أسس حديثة، ليبقى شاهدًا على الهوية العمانية وتراث وحضارة وتاريخ عُمان.

وفترةُ الوجود العماني في الشرق الإفريقي - بحسناته وسيئاته - لا يمكن أن تُفصل عن التاريخ العماني فهي جزءٌ منه، ومن الخطأ اعتبارها عيبًا أو عارًا.