الهروب إلى الأمام سياسة خاطئة في التعامل مع الأزمات الدولية
د. عبدالعاطي محمد -
قبل أيام تحدث هينرى كيسنجر الدبلوماسي الأمريكي المخضرم، وصاحب السبعة والتسعين عاما، عن ضرورة أن تتوصل الولايات المتحدة والصين إلى تفاهم وإلا سيواجه العالم وضعًا خطيرًا مشابهًا لما كان عليه قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى.
وعندما يصدر كلام مثل هذا من شخصية بوزن كيسنجر بخبرته العريضة بتطورات النظام العالمي، فلا بد من التعامل معه بجدية شديدة من جانب جميع الأطراف الدولية، خاصة الكبرى منها، لإيقاف التدهور القائم في العلاقات الدولية، والاتفاق على مخرج يعيد الاستقرار والأمن لربوع العالم المختلفة.
وقد أقام كيسنجر قراءته للوضع الدولي المعاصر استنادًا إلى مؤشرات لم تعد تغيب عن أي مواطن بسيط تؤكد أن العلاقات بين الدول الكبرى سواء على مستوى القيادات أو السياسات قد وصلت إلى مفترق طرق كحالة لم تشهدها منذ بداية القرن الحادي والعشرين، وأن هذه الحالة تشابه ما كان عليه العالم قبيل الحرب العالمية الأولى حيث كانت الصراعات المستمرة يجري حلها على أساس فوري، ولكن أحدها كان يخرج عن السيطرة في مرحلة ما، وهكذا جاء اندلاع تلك الحرب، الأمر الذي ليس ببعيد عن المشهد المعاصر.
وكان من الممكن التقليل من الوقع السيئ للمناوشات والتهديدات التي تتوالى في هذا المشهد كل يوم تقريبا، لو أن هذا الكلام صدر من الإعلام أو من جانب شخصيات غير مختصة أو ضمن حملات دبلوماسية لشن ضغوط متبادلة بين الخصوم، ولكنه جاء من شخصية لها خبرة دبلوماسية وعلمية أيضا مثل هنري كيسنجر، ولذلك لا يجب النظر لما قاله على أنه أمر هين أو مجرد اجتهادات قد لا تصيب، وإنما التعامل معه على أنه رؤية دقيقة للتغيرات الحادثة في أوزان القوى النسبية بين الدول والأمم المعاصرة وتباين الأهداف والمصالح إلى حد الاختلاف الشديد.
وكذلك التنبيه إلى أن السياسات المتبعة بهذا الصدد لا تؤدي إلى خفض حدة الصراعات بل إلى زيادتها، بما يعني أنها خاطئة، وغني عن القول أنه لم يعد خافيا تبادل الأطراف الثلاثة يوميا تقريبا مختلف أشكال الصدام، وكأنهم فقدوا القدرة على التفاهم، أو لم تعد هناك رجعة عن المواجهة.
وتابع كيسنجر أن الأمر هذه المرة أكثر خطورة من السابق، أي من الوضع قبيل الحرب العالمية الأولى بالنظر إلى الأسلحة فائقة التطور التي تمتلكها كل من الصين والولايات المتحدة.
وبالمقابل فإن الحل السريع المطلوب قبل الوقوع في المحظور (نشوب حرب عالمية) هو في تقديره التفاهم لإقامة نظام دولي جديد، تفاهم يتم في الأساس بين الولايات المتحدة والصين بالنظر إلى الصعود الكبير في وزن الأخيرة على الصعيد الدولي من حيث المستوى الاقتصادي، وكذلك روسيا على الصعيد السياسي الاستراتيجي، وكلاهما باتت لديه قوة عسكرية ضخمة. ولكنه زاد الموقف تعقيدا عندما أشار إلى أن الولايات المتحدة ستجد نفسها في موقف صعب وهي تتفاوض مع الصين التي تتقدم بسرعة الصاروخ على الصعيدين الاقتصادي والتكنولوجي وقدرتها على أن تفعل ذلك بعيدا عن مبادئ السوق الرأسمالية وإنما تحت سيطرة الدولة، ولذلك شدد على أهمية تدارك عنصر الوقت بسرعة تحقيق التفاهم بين الولايات المتحدة والصين مشيرًا أيضًا إلى أهمية وحدة الموقف الأوروبي ومساندته للسياسة الأمريكية المنتظرة بهذا لصدد. وواقع الأمر كما يقول الدكتور إسماعيل صبري مقلد الأستاذ المخضرم للعلاقات الدولية: إن الواقع الدولي اليوم يختلف إلى حد كبير عن الواقع خلال تسعينيات القرن الماضي إثر انتهاء الحرب الباردة، ذلك الواقع الذي سمح للولايات المتحدة بالتفرد في قيادة العالم حيث كان قد تحقق تفكيك الاتحاد السوفييتي السابق، وكانت الصين في بداية طريق الانطلاق الاقتصادي، أي أن كليهما كان في موقف ضعف، وأما الآن فالصورة جد مختلفة لغير صالح الولايات المتحدة لدرجة تهدد فعلًا إمكانية استمرارها في قيادة العالم أو استعادة هذه القيادة بمعنى أدق، وذلك استنادًا إلى ما سبقت الإشارة إليه من تعاظم عناصر القوة في جانبي كل من الصين وروسيا.
ما قاله كيسنجر يذكرنا بمقولة قديمة جديدة مضمونها أن هناك سياسة تسمى «الهروب إلى الأمام»، والقصد منها إنه عندما يكون هناك طرف ما في ورطة أو فلنقل أزمة مستحكمة، ولا يريد أن يبدو ضعيفًا أمام خصمه، يلجأ إلى قاعدة استخدام الهجوم (أيا كان شكله) ضد خصمه لكي يتخلص من وضعية الضعف، ويفهم من المقولة الشهيرة أنها دلالة على غياب التصرف السياسي الحكيم والمنطقي الذي هو من المفترض أن يكون مبدأ أي طرف سياسي رشيد، خاصة عندما تنسد الطرق للتفاهم السلمي.
وغالبا ما يؤدي العمل بهذه القاعدة إلى خسارة من يلجأ إليها على عكس ما يعتقد، وتحديدا عندما تقترن بعمل عسكري أو حتى التهديد به. وهنا يبدو مغزى إشارة كيسنجر إلى التذكير بمناخ الحرب العالمية الأولى، حيث احتمال أن يؤدي تصرف اندفاعي ولو بسيط، وعملا بمقتضى قاعدة «الهروب إلى الأمام» لتجنب الاتهام بالضعف، إلى اشتعال حرب مدمرة لكل الأطراف المعنية بأزمة ما.
ودون الدخول في تفاصيل تلك الحرب نتوقف أساسا عند سبب اندلاعها وطبيعة الظروف المحيطة التي دفعت سريعا وبلا تروٍ إلى تكبيد العالم خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، فقد نشبت في 28 يوليو 1914 عندما قام شخص يدعى غافيريلو برينست وهو قومي صربي بوسني من يوغسلافيا باغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فردينانو مع زوجته في سراييفو، فردت إمبراطورية النمسا المجرية بتوجيه إنذار إلى صربيا ونجحت في استقطاب التحالفات الأوروبية آنذاك ومعها مستعمراتها للقتال ضد الإمبراطورية العثمانية ودول البلقان.
وجمعت الحرب بين معظم القوى الدولية الكبرى آنذاك كتداعيات لحادث صغير هو واقعة الاغتيال المذكورة. وساعد على ذلك ما كانت قد أحرزته من تقدم في المعدات العسكرية فضلًا عن قدراتها الاقتصادية، وراح ضحية تلك الحرب ما يقرب من 15 مليون شخص بين قتلى عسكريين ومدنيين.
ولا ندعي بأن التاريخ سيعيد نفسه بأن تقع حرب مشابهة، وكيسنجر نفسه لم يقل ذلك، ولكن الرجل وضع يديه على المقدمات أو المؤشرات التي من الممكن أن تدفع العالم إلى حرب مشابهة. وسنلاحظ هنا أن المقارنة تجري مع استحضار حالة الحرب العالمية الأولى وليس الثانية، لأسباب تخص الواقع الراهن للعلاقات المتدهورة بين كبار العالم لعوامل تتعلق بالنزعات القومية واستعراض القوتين العسكرية والاقتصادية وغياب التعاون والتوافق بين القوى الكبرى في التعامل مع الأزمات العالمية المعاصرة، فضلًا عن الضغوط الداخلية التي تمر بها وزادتها حدة جائحة كورونا. وكلها تعيدنا إلى خطورة الارتكان للاختيار السيئ أي الهروب إلى الأمام للتخلص من مشكلات داخلية وأخرى تتعلق بالخلل الذي أصاب النظام الدولي منذ سنوات ولم يتم إصلاحه.
وعندما يشير كيسنجر إلى واقع الحرب العالمية الأولى فإنه حقا على صواب بالنظر إلى ما هو قائم الآن من مظاهر للخلافات وأساليب التعامل، والقلق كل القلق أن يباشر الكل قاعدة الهروب إلى الأمام على أنها حائط صد لتجنب الاتهام بالضعف، ولكن كما قال الرجل يمكن أن تنفلت الحسابات وبشكل تلقائي ويقع حدث جلل ما يجعل من الصعب السيطرة على المواجهات القائمة والمنتظرة.
ومن الأمثلة التي تعيد مجددا درس الحرب العالمية الأولى أي اندلاع حرب مشابهة انطلاقا من سبب صغير أو بسيط، أن تتراشق القيادات الأمريكية والروسية بعبارات تعكس رغبة كل منهم استفزاز الآخر وتأليب الشعبين على بعضهما البعض استحضارًا لأفكار وقيم من المفترض أن العالم المتحضر قد تجاوزها، كأن يوافق الرئيس الأمريكي بايدن على وصف الرئيس الروسي بوتين بأنه قاتل! استنادًا إلى الاتهامات التي توجهها واشنطن لروسيا وغيرها بانتهاك حقوق الإنسان وقمع المعارضة، وأن يرد بوتين بتهكم على بايدن، أو أن يتضمن تقرير الخارجية الأمريكية السنوي عن حقوق الإنسان اتهامًا لروسيا بأنها تحرم مواطنيها من التعبير عن حرياتهم بشكل سلمى من خلال انتخابات حرة ونزيهة، ثم ترد سريعًا الخارجية الروسية بوصف ما جاء في التقرير بهذا الخصوص بأنه فارغ إلى حد كبير، وبأن واشنطن تكيل بمكيالين حيث لا تذكر انتهاك هذه الحقوق على أراضيها (جرائم التفرقة العنصرية)، وبأنه يعكس جنون العظمة حيث تريد الولايات المتحدة أن تفرض معاييرها فقط على الآخرين فيما يتعلق بحقوق الإنسان. وهكذا اتخذت الصين الموقف نفسه في مواجهة الاتهامات الأمريكية لها.
وفي هذا الإطار أيضا تأتي سياسة فرض العقوبات سواء على روسيا أو الصين أو غيرهما، وهي سياسة قادت إلى قيام جبهات مضادة للولايات المتحدة كما حدث في الاتفاق التاريخي بين الصين وإيران.
وبقليل من التأمل لا تخرج هذه الأجواء عن تلك التي تؤجج المشاعر العدائية وتصنع مواجهات دائمة ليس من المستبعد أن يختل أحدها ويورط الجميع في شكل ما من أشكال الحروب العالمية خاصة مع التقدم في امتلاك الأسلحة الفتاكة. إنه مناخ يتسم بالتوتر عالميا من ناحية، وبالقلق على الأوضاع الداخلية من ناحية أخرى، وكلما تصاعدت وتيرة كل منهما، فإن الاختيار يصبح هو «الهروب إلى الأمام» بكل ما يحمله من نتائج وخيمة.