ما مصير إدلب، ومن يمتلك مفتاح الحل فيها؟
دمشق - عمان - بسام جميدة:-
لاتكاد الدمعة تفارق عينا أبو عبده الرجل الذي تجاوز السبعين من عمره بخمس سنوات، ونالت منه الحرب فأحنت ظهره، ووهن العظم منه، وابيضت عيناه من الحزن بعد أن فقد ثلاثة من أبنائه الشباب، اثنين منهم مخطوفين لدى إحدى الفصائل المسلحة، ودفع كل ما يملك من اجل فك أسرهما دون جدوى، والثالث فقده شهيدا، والرابع مهاجرا في أوروبا وبات هو المعيل لأحفاده مع زوجاتهم، وكان من أصحاب الأملاك في ادلب، وحالته المادية ميسورة، وهو اليوم نازح في إحدى ضواحي دمشق، وليس أمامه سوى الانتظار والوعود التي استنزفت ما تبقى من أمواله من أجل فك أسر ولديه، وكأنه يجري وراء سراب، ويقول مقهورا: «هذه حالتي وأنا واحد من مئات الأسر الكريمة التي شردتها الحرب، لم نرتضي أن نبقى تحت أيادي المسلحين وخرجنا، ولكن أنهكتنا الحرب والنزوح والوضع الاقتصادي المتردي بالكاد ندفع إيجار البيت، ونطعم الأحفاد، وهذه حال كثير من العائلات التي خرجت من ادلب، ونأمل أن تنتهي معاناتنا ونعود لبيوتنا وأراضينا التي استولى عليها الغرباء، فهل سنموت في بيوتنا، ونرى أولادنا المفقودين، أم سنبقى هكذا رهينة للحزن» .
مشهد من الداخل لمعرفة الوضع في داخل مدينة إدلب تواصلت عُمان وبوساطة أحد أهالي إدلب النازحين، مع احد من السكان الأصليين هناك عبر الواتس «وتحتفظ عٌمان بنسخة من التسجيل الصوتي»، حيث عبر فيه عن المعاناة التي يعيشونها هناك نتيجة توافد الكم الكبير من المسلحين النازحين وما يقومون به من أفعال تجاه أهالي المدينة، يقول أبو محمد الأدلبي، كما أحب أن يذكر أسمه هكذا، «منذ أربع سنين لم نأخذ معونة، اصبحنا غرباء في بلدنا، في البداية كنا نركض ونعمل لمساعدة كل الأهالي النازحين إلى مدينتنا من باقي المحافظات ونفتح بيوتنا للجميع، وللأسف اليوم باتوا هم أصحاب المدينة ونحن الغرباء فيها، اخذوا بيوتنا وأصبحنا ننام في الزراريب والدكاكين، والأماكن الضيقة، وأي شخص يتحدث أو يتذمر تصبح قيمته فقط طلقة واحدة يقتلونه بدم بارد..
غالبية الذين جاءوا إلى إدلب من الشباب بعضهم بدأ يعمل بتصريف الدولارات والبعض الأخر في «السلبطة» على الناس دفع الأتاوات، وهذا يبيع الذهب وذاك يتاجر بكل شيْء، امتلكوا كل الأسواق والمتاجر، تركوا محافظاتهم وجلسوا هنا ينتظرون المساعدات ويتاجرون بإدلب وأهلها بل ويستولون على منازل الأهالي النازحين منهم ويطلبون «الدية». ويتابع الأدلبي، «هناك عائلة جاءت إلى مزرعتها لتتفقدها قاموا بتصفيتهم جميعا، للأسف ارذل الناس جاءوا إلى هنا وتم تسليطهم علينا، بات الحشيش والمخدرات منتشرة في كل مكان بشكل غريب وعجيب..هناك تكتل مسلحين غرباء، تسلموا المفاصل المهمة في البلد، دوائر حكومية وأمنية وغيرها، ممن تتبع للمعارضة المسلحة، لم نعد نعرف احد هنا، الموتورات تملأ الشوارع، شارع القصور من أرقى أحياء المدينة لا يوجد فيه إدلبي واحد، استولوا عليه وعلى المنازل فيه. أهل ادلب يموتون ببطء، هناك تسلط علينا ممن له سوابق وجرائم كثيرة جاءوا إلى الشمال السوري فاصبح مرتعا للفارين والمجرمين والمسلحين وتجار البشر والحجر».
لم تعد خضراء
تقع محافظة إدلب في شمال سوريا، ويطلق عليها إدلب الخضراء لكثرة أشجار الزيتون والكرز فيها. تبعد عن حلب جنوبا 60 كم وعن اللاذقية 132 كم وعن دمشق 330 كم وعن حمص 168 كم وعن حماة 105 كم، وتتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة كونها محاذية لتركيا.
كان عدد سكانها حسب إحصاء عام 2010، يقدر بـ164.883 نسمة، ولكن يعيش فيها نحو 2.3 مليون شخص، بينهم أكثر من مليون نزحوا من مناطق أخرى، مع أعداد كبيرة من المسلحين الذين رفضوا إلقاء السلاح وتم ترحيلهم إلى هناك مع أو بدون عوائلهم بما أطلق عليه حينذاك ركاب «الباصات الخضر» وفق الاتفاقيات التي تمت حينذاك بوساطة روسية. وهكذا باتت ادلب المعقل الرئيس للفصائل المسلحة، ولم تعد خضراء بل تحولت أشجارها إلى حطب وبساتينها إلى صحراء، وبيوتها إلى مخابئ للفارين.
منطقة «خفض التصعيد»
تشكل محافظة إدلب مع أجزاء من محافظات محاذية لها إحدى مناطق اتفاق خفض التصعيد التي تم التوصل إليها في مايو 2017 في أستانا برعاية روسيا وإيران، وتركيا الداعمة للمعارضة. كما تم التوقيع في موسكو على اتفاق لوقف إطلاق النار في إدلب بين الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، حصلت موسكو بموجبه على تعهد من أنقرة بتطهير جميع المناطق الواقعة على طول الطريق السريع إم فور وشماله ما بين حلب واللاذقية عبر إدلب ومنذ بدء الاتفاق، تشهد إدلب هدوءاً نسبياً، فيما تم فتح طريق إم فايف الدولي من دمشق إلى حلب مروراً بإدلب بشكل كامل وانتشار العديد من نقاط المراقبة التركية في إدلب ومحيطها.
لا بوادر حل في الأفق
حول ادلب وماهو المآل والمصير، بعد هذا الجمود على هذه الجبهة، وهل هناك في الأفق تفاهمات جديدة ما، بشأنها وهي التي تعج بالمسلحين تحدث د. زاهر اليوسفي عضو مجلس الشعب السابق، قائلا «الكل كان يعتقد أن الباصات الخضر التي كانت تنقل المسلحين غير الراغبين بالتسوية من مناطقهم إلى ادلب أنها تنقلهم إلى مصيرهم المحتوم ومثواهم الأخير، وترسخ في أذهاننا هذا بعد أن بدأ الجيش السوري بعملية تطهير وتحرير ريف ادلب الجنوبي والشرقي، لكن فجأة بدأت الأمور تتجه لتدويل مشكلة ادلب وبدأت الدول الحليفة والضامنة تدور في فلك وقف الأعمال القتالية والبحث عن حل غير الحل العسكري، ودخلت دول كثيرة على الخط بسبب وجود الكثير من الإرهابيين من رعاياها في إدلب، وتعددت الطروحات وتشابكت الأفكار وكثر الحوار وتجمد كل شيء، منذ سنة وأكثر ولم يعد يرى في الأفق أي حل سياسي أوعسكري، وبالنسبة لرأيي لا أرى أي حل، إلا الحل الذي يفرضه الجيش العربي السوري».
ولكن هناك اتفاقيات فرضتها الظروف أوقفت العمل العسكري على هذا المحور، ولا اعتقد أن العمل العسكري وارد في القريب القادم، رد اليوسفي بقوله: «لم أقل أن الحل العسكري وارد، بل قلت إنني لا أرى غيره، وهذا رأيي، والحلول الأخرى كلها لف ودوران واتفاقيات وقف القتال وتخفيض التوتر والتصعيد كلها كانت لصالح المليشيات التي تهالكت أمام ضربات الجيش واستغلتها لإعادة ترتيب صفوفها وإعادة تسليح عناصرها».
معقل للفصائل المسلحة
منذ بداية الأزمة انضمت محافظة إدلب للحراك الذي عبث بالأراضي السورية، وسيطر «جيش الفتح»، وهو تحالف يضم فصائل إسلامية ومتشددة بينها جبهة النصرة (فرع تنظيم القاعدة بسوريا) التي تحولت إلى «هيئة تحرير الشام» على كامل محافظة إدلب باستثناء بلدتي الفوعة وكفريا وذلك بعد اقتتال داخلي بين الفصائل المتعددة في 2017، باتت هيئة تحرير الشام تسيطر على الجزء الأكبر من محافظة إدلب بعد أن أجهضت على بقية الفصائل المعارضة في يوليو 2017 مقابل تواجد محدود لفصائل أخرى أبرزها حركة أحرار الشام وحركة نور الدين زنكي. وفي 18 فبراير 2018، أعلنت الحركتان المذكورتان اندماجهما تحت مسمى «جبهة تحرير سوريا» لتخوضا مجدداً معارك مع متشددي هيئة تحرير الشام.
وظهر هناك فصيلان هما «جيش البادية» و«جيش الملاحم» انشقا عن هيئة تحرير الشام في أواخر عام 2017، بسبب انفصالها عن تنظيم القاعدة، ويساندهما في جنوب إدلب الحزب التركستاني الإسلامي الموالي لتنظيم القاعدة.
كما ظهر تنظيم «داعش» هناك وكان منافسا قويا للجماعات المتشددة والمعارضة المسلحة في إدلب واستولى على بعض القرى والبلدات على الحدود بين حماه وإدلب وانتزعتها من «هيئة تحرير الشام» وفي يناير 2018 قام التنظيم بهجمات ضد القوات الحكومية في جنوب إدلب، وبالقرب من مطار «أبو الظهور». وتواجدت في معارك إدلب فصائل أخرى كثيرة منها حركة أحرار الشام، وحركة نور الدين زنكي، وجيش الأحرار، وفيلق الشام، وجيش العزة بالإضافة لفصائل اصغر. وبداية العام المنصرم تم الإعلان عن تشكيل ستة ألوية عسكرية جديدة في محافظة ادلب للتنسيق مع الجيش التركي في المنطقة والألوية المشكلة من الجيش الوطني والجبهة الوطنية للتحرير تخضع لقيادة عسكرية سورية بشكل كامل وليست تحت قيادة ضابط تركي، حسب القائد العسكري الذي صرح حينها لوكالة الأنباء الألمانية ولم يفصح عن أسمه، مشيرا إلى أن هناك تنسيقا وغرفة عمليات مشتركة مع الجيش التركي المتواجد في المحافظة . وأكد القائد العسكري أن «الجيش التركي منتشر بشكل كبير في محافظة ادلب في جسر الشغور وجبل الزاوية والنيرب والمسطومة وأريحا إضافة إلى نقاط انتشاره وفق اتفاق سوتشي بين الروس والأتراك» لافتا إلى أن هذا الانتشار يحتم وجود آلية عمل مشتركة بين الجيش الوطني والجيش التركي لتسهيل عمل الطرفين معاً على الأرض.
النقاط العسكرية
لم يتوقف تدفق الأرتال التركية قبل وبعد اتفاق وقف إطلاق النار في منطقة خفض التصعيد والتي تعتبر مدينة ادلب جزءا واسعا منها، وبلغ عدد الآليات التي دخلت الأراضي السورية خلال الفترة الممتدة من الثاني من شهر فبراير 2020 وحتى نهاية مارس إلى أكثر من 11965 شاحنة وآلية عسكرية تركية تحمل دبابات وناقلات جند ومدرعات و«كبائن حراسة» متنقلة مضادة للرصاص ورادارات عسكرية فيما بلغ عدد الجنود الأتراك الذين انتشروا في إدلب وحلب خلال تلك الفترة أكثر 10500 جندي تركي حسب إحصائيات المرصد السوري المعارض. هذا وتسيطر تركيا عدّة مناطق من محافظات حلب وإدلب والرقّة والحسكة في شمال شرق، وشمال غرب سوريا، وتُقدَّر مساحة المناطق التي تسيطر عليها في سوريا بـ(8835) كم2 ومنها حوالي 4000 كم2 في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، أيْ غرب الفرات لوحدها.
من أرض مملكة إيبلا.. تخرج الأسئلة
تعرف محافظة إدلب بكثرة متاحفها ومواقعها الأثرية التي تعود لحقب تاريخية قديمة، ومن أبرزها مدينة إيبلا الأثرية، إحدى أقدم الممالك في سوريا قبل الميلاد، وكذلك المدن المنسية التي بعثت فيها الروح من قبل المنظمات العالمية التي تعني بالآثار، ولم تسلم كل تلك الآثار من النهب والسرقة كما سرقت حتى أشجار الزيتون المعمرة وذات النوعية الجيدة، وحسب المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا، محمود حمود، إن محافظة إدلب تضم أكثر من 800 مدينة تقع في الكتلة الكلسية الممتدة من إدلب إلى غربي حلب، وهذه المدن تعود إلى الفترة بين القرن الأول والقرن السابع للميلاد، وتضم «أكثر من ألفي دير وكنيسة أثرية، تعرّض الكثير منها للتخريب والتدمير»، وذلك «لبيع حجارتها ومنحوتاتها» في أكثر الأحيان. والأسئلة الملحة التي تبحث عن إجابات مؤكدة وتلهج بها ألسنة «الادلبيين» وكل السوريين معا: ماهو مصير أدلب وريفها، وهل سيبقى الأتراك فيها، وماهي الحلول للتعامل مع الفصائل المسلحة فيها، وهل تأخير الحل على محور إدلب سيؤخر الحل السوري برمته، وماهي احتمالية عودة المسلحين الذين تم تسفيرهم من غالبية المحافظات السورية كل إلى موطنه الأصلي...؟
أسئلة كثيرة وطويلة تحتاج لإجابات قد تفرضها التطورات الدولية وربما يفرضها الواقع على الأرض، وربما تعود الحكمة إلى عقول الجميع ليعود الوطن متعافيا ومتماسكا أكثر من ذي قبل بعد أن ارتوت الأرض بالدماء.