أفكار وآراء

أزمة الثقة .. من يصنعها؟

04 أبريل 2021
04 أبريل 2021

أحمد بن سالم الفلاحي

بين أزمة الثقة وتعزيزها ثمة مساحة فاعلة للحوار، فالحساسية المفرطة لهذه المفردة "الثقة" هي التي تستدعي النظر في شأنها، لأهميتها الموضوعية في أي علاقة قائمة بين طرفين، فالمكسب والخسارة في مختلف هذه العلاقات القائمة بين مختلف الأفراد والمؤسسات، تعلي من نتائج مكاسبها الثقة، وتضاعف من خساراتها الثقة، وبالتالي فمتى تعززت هذه الـ "ثقة" بين أي طرفين كتب لمشاريعهما المشتركة النجاح، والتقدم، وتحقيق الطموحات والآمال، وأهم ما في هذه العلاقات كلها، هي تلك الثقة القائمة بين الشعوب وحكوماتها، وتأتي هذه الأهمية في هذا الموضع بالذات لأنها متعلقة بمشروع مهم، ومصيري، في حياة كل فرد يستوطن محددا جغرافيا ما، وهو الوطن، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فالأوطان لا تقبل المساومة على استحقاقاتها في أي مناخ من المناخات القائمة بين طرفي المعادلة المصيرية، وهي معادلة قائمة على فهم واحد لا يقبل الثنائية "فإما أن يكسب؛ وإما أن يكسب" ولا مجال هنا للخسارة، وبالتالي فتعزيز الثقة بين أي طرفين فاعلين في مسيرة الأوطان هي أمر مقدس، لا يجوز المساس به أبدا مهما كانت الأسباب، وفي أوقات الأزمات والأحداث الجسيمة يجب أن تكون كؤوس العلاقات مترعة بالثقة.

تحل المؤسسة الأسرية (المعمدة بقطبي الأسرة؛ الأب والأم؛ حيث النشأة الأولى) كأول محطة في طريق تعزيز الثقة وتنميتها في نفوس أفرادها، وتسعى من أجل تحقيق ذلك بطرق عديدة؛ يأتي في مقدمتها مستوى الصدق والشفافية في تعاملها مع أفرادها الصغار الذين للتو يتطلعون لفهم أوسع للحياة من حولهم، وبالتالي كلما كان الكبار في الأسرة أكثر صدقا، وودا، ووضوحا، كلما سهل ذلك مسارات التفاعل بينهم وبين أبنائهم، وأدى ذلك إلى زيادة نسبة الثقة في نفوس هؤلاء الصغار، وكانوا أكثر شجاعة، وأكثر ذكاء، وأكثر ودا، وينظر المجتمع بشكل عام إلى المؤسسة الأسرية بكثير من الأمل والطموح في سبيل تعزيز الثقة في أبنائها، فهم المعول عليهم في تعزيز البناء، والتنمية، والوصول بالأوطان إلى مصاف الدول التي تحقق مكاسب كبيرة من خلال جهود أبنائها الصادقين، والمعززين بالثقة والصدق والأمانة، ولا مجال هنا للقيام بهذا الدور في "النشأة الأولى" إلا من خلال هذه المؤسسة المحورية في حياة الأفراد، ومتى استطاعت الأسرة تعزيز هياكل بناء الثقة، وتقوية أعمدتها الماكنة في نفوس أبنائها؛ أدى ذلك إلى وجود أفراد صالحين داعمين لطموحات أوطانهم، وآمال النفوس التواقة إلى رفع أوطانهم إلى مستويات من الرقي والنماء، ومن ثم تأتي لاحقا محددات تجربة الإنسان الفرد في نمو ثقته بنفسه من خلال مجموعة الأعمال الإنجازات، وتهيئة الظروف الداعمة لتعزيز ثقته بنفسه، وتعاطيه مع محفزات هذا البناء في البيئة المحيطة، وهضم مجموعة المثالب، والإخفاقات التي قد تتصادم مع هذه الثقة المتأصلة.

أتصور؛ بمفهومي البسيط؛ أن الثقة استحقاق إنساني، شديد الأهمية، وبقدر ما هي جذر فطري عند كل منا، إلا أنها تتعزز بعوامل بيئية كثيرة، تدخل الميكانيكية في تعزيزها من أوسع الأبواب، ولذلك فالثقة لا تقف عند مكتسبها الفطري؛ على أهميته؛ ومن هنا يستلزم أمر نموها والمحافظة عليه بذل كثير من الجهد، وصدق النوايا، وإخلاص التوجه، والنظر إلى تعزيزها؛ أكثر؛ من خلال خلق مشروعات تربوية تنفذ وفق خطط، فالثقة هي مشروع إنساني ذو حساسية مفرطة، وأي إخلال في تنفيذ برامج هذا المشروع، معناه زعزعة هذه الثقة، ومتى وصلت إلى هذا المنحنى الخطير، يصدق عليه قول الشاعر: "إن القلوب إذا تنافر ودها؛ مثل الزجاج كسرها لا يجبر" وهذا المعترك، يعيشه المربون أكثر من غيرهم ومتى نجح هؤلاء المربون أدى ذلك إلى وجود مجتمع قوي ومتماسك، يزهو بإنجازات معنوية كبيرة، يتجاوز الكثير من مظان الإحباط التي قد تواجهه وهو في خضم مسيرته حياته الممتدة.

أجزم أن من أعقد مفاهيم الثقة؛ هي تلك الثقة التي تنضوي تحت مفهوم الاستحقاق الوطني، وذلك لعدة أسباب؛ من بينهما: أولا؛ أنها علاقة بين سلطتين؛ تنفيذية، وأخرى اجتماعية، وكلا السلطتين تتنازعهما مجموعة من المحددات، والأطر الفنية، وكل منهما يتموضع على رؤيته الخاصة، فالسلطة التنفيذية تعمل على تنفيذ خططها وبرامجها وفق منظومة اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية، عبر برنامج زمني، لا يخضع كثيرا لاعتبارات فئوية، أو ظرفية، بينما تتلقى السلطة الاجتماعية نتائج عمل السلطة التنفيذية، وتخضعه إخضاعا كميا، أكثر منه نوعيا، وبالتالي فإن كان هذا الناتج غير ملبٍ للطموح، فإن بوصلة الثقة بالسلطة التنفيذية سوف تنحرف - مسجلة خسائر كثيرة - خاصة إذا سبق هذا الناتج مجموعة من الوعود، والآمال، وهذه إشكالية موضوعية في هذه العلاقة، ولن يسلم منها أي نظام سياسي، مهما بذل من جهد وقدم من تضحيات، فالعلاقة بين السلطتين؛ علاقة شديدة الحساسية، وانفراط عقدها، يكون دائما "قاب قوسين أو أدنى" ومن هنا تتجلى حكمة الطرف الأول "السلطة التنفيذية" للجم الفراغات المؤدية إلى زعزعة الثقة بين الطرفين.

تلعب الأحداث الجسيمة والمحورية كالكوارث والأزمات دورا محوريا في تعزيز الثقة أو زعزعتها، بين الشعوب والحكومات، ولذلك تجند الحكومات الذكية كافة إمكانياتها المادية والمعنوية في مثل هذه المناسبات لكسب الثقة بصورة أكبر عند الشعوب، سواء من خلال كفاءة العمل، والشفافية في التعاطي مع الأحداث، وفي إبراز النتائج الصحيحة والصادقة، مبتعدة كل البعد عن بث المعلومات المغالطة في حقيقتها، فالنتائج مهما كانت ستظل في متناول كل فرد في المجتمع، خاصة اليوم في ظل وسائل التواصل الاجتماعي التي جاءت لتخدم الشعوب؛ كأفراد؛ أكثر من أن تنحاز نحو الحكومات، حيث لم تعد هناك أسرار وخفايا يمكن المحافظة عليها بعيدا عن معرفة هذا القطاع العريض من الجمهور، وبالتالي متى اقترب صاحب القرار من وضوح الرؤية والشفافية والمصداقية في التعاطي مع جمهوره، أدى ذلك؛ بما لا يدع مجالا للشك؛ إلى ارتفاع مؤشر الثقة، وانتاب الجميع الشعور بالمسؤولية الوطنية، وتحمل المسؤولية الفردية التحاما مع المسؤولية الوطنية الكبرى.

يأتي مفهوم الـ "جمهور" ليسجل اتساعا معرفيا في التعريف به، وذلك لتعدد الجماهير، وانتصاراتها لمختلف الموضوعات، فهناك جمهور لموضوع الثقافة، وهناك جمهور لموضوع الرياضة، وهناك جمهور لموضوع الاقتصاد، وهناك جمهور لموضوع السياسة، وهناك الجمهور العام، وهو الأوسع تعدادا وتنوعا، وفي مجمل هذه المجاميع كلها هناك علاقات وشائجية كثيرة بين طرفين: الجمهور وموضوعه، وفي كل هذه المناخات الجماهيرية على تعددها تحتاج إلى هذه الثيمة الـ "ثقة" ومعنى ذلك أن تزعزع الثقة في أي علاقة من هذه العلاقات، أفضى ذلك إلى كثير من الإشكاليات، وبالتالي فقدان الدعم، والتآزر، والتعاون، وهذا بدوره سوف ينعكس على استقرار المجتمع ككل، وليس فقط بالفئة التي ينتمي إليها الجمهور، وهذا ما يخلق بدوره تذبذب في القدرة على الاحتفاظ بتوازن كفتي الميزان في كل هذه العلاقات، ولكن ما يبعث على الاطمئنان أنه من النادر جدا، أن يحدث تزعزع في الثقة بين كل هذه الأطراف مجتمعه، فإذا فقدت الثقة بين طرفي الجمهور الرياضي؛ على سبيل المثال؛ فلن يحدث ذلك، بنفس المستوى، بين طرفي جمهور الثقافة، وقس على ذلك أمثلة كثيرة.

ينظر إلى المؤسسة التشريعية بكثير من الأهمية في تعزيز ثقة الشعب، حيث إنها تمثل جسر العبور بين المواطن والحكومة، فوق ذلك أن أعضاء هذه المؤسسة هم من اختارهم الشعب؛ من بين مئات الآلاف من المواطنين؛ لتجسير هذه العلاقة في مناخات كثيرة متعلقة بالتنمية، وبمختلف الأحداث الجسيمة التي يمكن أن يواجهها الطرفان في وقت الأزمات، وبالتالي متى استطاع أعضاء هذه المؤسسة استشعار هذه الأهمية، أدى ذلك إلى تخفيف العبء على الحكومة، والتي تنفذ خططها وبرامجها وفق جداول زمنية محددة.

ويمكن القول؛ ختاما؛ أنه وكما هو معلوم بالضرورة؛ أن الثقة حالة نفسية معنوية، وليست مادة مقبوضة أو متجسدة يمكن نقلها من مكان إلى آخر، أو تخزينها في حافظة ما، أو وهبها لطرف ثانٍ بمجرد إجراء ميكانيكي ملموس "أخذ وعطاء" في لحظة معينة، بل هي أبعد من ذلك بكثير، بل الثقة وتعزيزها تفرزها مجموعة من السلوكيات، والممارسات المتبادلة بين مختلف الأطراف، ولا تحتمل أية مساومات من شأنها أن تشير إلى تناقض ما في كل هذه الممارسات والسلوكيات، وبالتالي فأي إخلال في هذا التعاقد بين مختلف الأطراف، من شأنه أن يحدث "مثلمة" في منظومة هذا التعاقد؛ يؤدي ذلك، بلا أدنى شك، إلى زعزعة هذه الثقة، وبالتالي من يمنح الثقة هو من ينتصر إلى المبادئ والقيم، وليس غيره.