محمد الرحبي
محمد الرحبي
أعمدة

"صالح".. غادرنا

04 أبريل 2021
04 أبريل 2021

محمد بن سيف الرحبي

رحل بهدوء، كالذي اعتدناه منه، وأتخيّله بذات الابتسامة الهادئة كأنها حسب المطلوب بالضبط، لا أكثر ولا أقل.

فجعنا برحيل مباغت، وقد كان للتو يستعد لبدء حياة جديدة يستكشفها مع مرحلة "التقاعد" بعد أن أمضى ثلاثين عاما على طاولة الوظيفة الرسمية.

كان تقاعده من الحياة قسريا أيضا، بمفارقات هذا الوباء في سيرته الصاخبة، عكس ما كان عليه "صالح" وقد باغته الفيروس للمرة الثانية.

صالح الذي ودّع حياتنا الفانية، كان فرحا بأنه اجتاز الامتحان "الكوروني" ليستوعب ما مرّ من آلام وفقد لعديد من عائلته، كما حاول استيعاب أن يترك المرء البيت الذي قضى فيه، موظفا بمرتبة إنسان، أكثر من نصف عمره.. مستريحا إلى ظله.

حينما التقيت به أول مرة كنا للتو نقطف زهرة منتصف العشرين الثانية من عمرنا، كنّا صغارا حملتنا شهادة "الإعدادية العامة" إلى واحة المعهد الإسلامي بالوطيّة، وكان "صالح علي خلفان" الفتى الآتي ضمن رفاقه من "أدم" يدخل، مثلنا، في حياة أخرى، بعيدا عن البيت، في السكن الداخلي، حيث الحياة مع الرفاق طوال اليوم..

وحينما تفّرقت بنا السبل عام 1986، بعد ثلاث سنوات أبت الحياة إلا أن تجمعنا مرة أخرى تحت مظلة الوظيفة، وتوزعنا على الأقسام الفنية لجريدة عمان، لكنّا تشاركنا السكنى تحت سقف واحد، كمتدربين "مؤقتا"، حينما كان عام 1987 في مفتتح ربيعه، وربيعنا الذي سار بنا طويلا، على امتداد عشرات السنين.

عاش "صالح علي" الظل الذي أحبّه، في قسم يدعى "الجمع العربي" إشارة إلى طريقة جمع الحروف النحاسية في المطابع لتشكّل كلمات وأسطرا وفقرات تدمغ الجريدة بطابعها الكتابي، وحتى مع ميلاد الحواسيب في بدائيتها الأولى كان صالح وفيا للمكان الذي تعرّف فيه على الصحافة، من خلال خطوط الصحفيين والكتّاب، نادرا ما كان يشتكي أو يتبرّم، أو يدّعى امتلاكه لقدرات تتيح له الانتقال إلى مكان آخر، أو يضع اسمه كتوقيع على مقال أو في واجهة تحقيق صحفي، وبعد أن ألغت ثورة الحواسيب، العامة والفردية، مهام هذا القسم "التاريخي" في حياة المطابع انحاز "صالح المحروقي" إلى الحياة البسيطة والهادئة، يغادر مكتبه إلى ظل عائلته، حيث الأولاد يكبرون، ويكبر صالح بأخلاقه وابتسامته التي اعتدنا عليها.

لكن مساءات أواخر مارس أرادت أن تقول لنا عن ابتسامة لم تعد صالحة للحياة إلا من خلال الذكريات الحائرة في سرادق العمر، وقد سبقنا إلى ذلك الدرب الكثير من الرفاق، وفي كل نعي ننعي أنفسنا، ومع كل رحيل نشعر بثمّة جزء منّا يرحل معهم، وتبقى الغصّة التي تكبر مع كل رحيل وفقد، نستعيد آخر حروف تبادلناها، وآخر صورة جمعتنا، وآخر موعد لن يكتمل، حيث الأشياء الجميلة تبقى تحلم بالكمال.