عاصم الشيدي
عاصم الشيدي
أعمدة

شباب نزوى.. أنموذج يستحق التكرار

03 أبريل 2021
03 أبريل 2021

عاصم الشيدي

[email protected]

ما زلت أذكر جيدا ردّ أحد أعضاء مجلس إدارة اتحاد عمال السلطنة على متداخل في ندوة نظمتها جمعية الكتاب والأدباء في عام 2011 عندما قال المتداخل، محتدا: لا يليق أن يعمل العمانيون في وظائف عمالية، هذه الوظائف لا بد أن تترك للعمالة الوافدة! المداخلة غريبة من شخص أفترض أنه على مستوى جيد من العلم والمعرفة ويحضر ندوة ثقافية متخصصة، ولكن الأغرب منها كان ممثل اتحاد العمال في تلك الندوة الذي قال: نعم أتفق معك، هذه الوظائف لا تليق بالعمانيين!! كان المشهد في عُمان حينها لا يخلو من التباس ومن بعض الفوضى التي سادت بعض المنابر.

خرجتُ يومها مستغربا من رد ممثل اتحاد العمال ـ ولا أعرف كيف يكون في عضوية مجلس إدارة اتحاد عمال يرى أعمالهم لا تليق ـ وقلت إذا كان هذا رد رئاسة الاتحاد فلا غرابة في رأي الشخص المتداخل أو في الاعتقاد السائد لدى بعض الشباب أن هناك أعمالا/ وظائف تليق بالعمانيين وأعمالا/ وظائف لا تليق بهم وإنما هي للعمالة الوافدة. هذا رأي متطرف جدا في سياقه، فالعمل لا قومية له، ولا أساس لهذا الرأي عند آبائنا وأجدادنا الذين عملوا في كل الوظائف والأعمال التي وفرت لهم لقمة عيش شريفة، ولم تكن لديهم عمالة وافدة قبل نصف قرن من الزمن. ولا أساس لهذه الثقافة في الإسلام الذي يعلي من شأن أي عمل كان ما لم يخالف المبادئ والقيم الإسلامية.

هذه الفكرة حول العمل موجودة في دول الخليج بشكل خاص وإن بنسب متفاوتة وبرزت مع طفرة النفط منتصف القرن الماضي. وأثرت هذه الفكرة على تركيبة سوق العمل وبالتالي على التركيبة السكانية في دول الخليج التي وصلت نسبة المواطنين فيها بالمقارنة مع العمالة الوافدة إلى 15% وربما أقل من ذلك.

وكنت أعتقد أن هذه الثقافة في تزايد مع جيل الشباب وتكرس وجودها مع الوقت وتحولت إلى مبادئ راسخة لا سبيل لتغييرها أو حتى مناقشتها حتى زرت مدينة نزوى الأسبوع الماضي وأتبعتها بزيارة خاطفة أمس الأول. تغير رأيي تماما حول مساحة انتشار تلك الثقافة.

أعرف عراقة مدينة نزوى ومكانتها بين المدن العمانية والمدن الإسلامية، وفي كل زياراتي السابقة كنت أنظر للمدينة باعتبارها إحدى المدن الإسلامية العريقة، واقرأ تاريخها الضارب في القدم في كل الردهات التي أمر بها وعلى كل الجدران التي أشاهدها.. لكنني أخيرا استطعت أن أنظر، إضافة إلى ذلك، إلى أمر آخر جديد لم انتبه له سابقا. لقد رأيت الشباب العماني يعملون في كل الوظائف والأعمال في هذه المدينة، إنهم يمسكون بكل تجارتها.. من تجارة الذهب التي يمتلكها أغنياء المدينة إلى مهنة "الإسكافي" التي يمارسها البعض في السوق القديم. هذا أمر نادر جدا، ويستحق أن يسلط عليه الضوء، وهو الأصل وما عداه مجرد استثناءات لا يمكن أن تدوم طويلا.

شاهدت شباب نزوى يعملون في كل الأعمال تقريبا، ويسيطرون على سوق العمل بشكل كبير.. وسيطرتهم حقيقية وليست شكلية فلا يعملون أجراء عند عامل وافد، أو يقفون في الواجهة فيما خلفهم تجار آسيويون، بل هم أرباب أعمالهم يملكونها بالكامل وأغلبهم ورثها من والده وحافظ عليها وطورها كما يليق بأي شيء أن يتطور في هذه الحياة.

زرت سوق نزوى ووجدت أغلب من يعمل فيه شباب عمانيون يجاورون آباءهم في "دكاكين" السوق الشرقي والغربي، ويقيمون حوارات بين بعضهم البعض، ويتناقشون كيف يمكن أن يتجاوزوا الركود في السوق، ويطرح الشباب وسائل ترويجية جديدة لم يسمع بها الآباء، ولكنها مع الوقت تثبت نجاحها.. يأخذون الحرفة من الكبار ويطورونها وفق متطلبات المرحلة، ويسوقونها بأساليب التسويق الجديدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ستجد محلا يبيع البهارات وبعض أدوات الحرف التقليدية ولكن له حساب على "الانستجرام". زرت محلا لبيع التحف والهدايا يملكه شابان عمانيان ورثا "الدكان" من والدهما وطوراه بشكل حديث وله حساب على "الانستجرام" وتتم عمليات البيع عبر حساب الانستجرام أكثر مما تتم في المحل نفسه. وزرت سوق الذهب في المدينة ووجدته بأيدي العمانيين لا بأيدي العمالة الآسيوية الوافدة التي تسيطر على أغلب محلات الذهب في مسقط والباطنة على أقل تقدير. ووجدت شابا عمانيا يعمل في الصحراء، وخلال إجازته بعد دوام الصحراء والتي تمتد لأسبوعين يعمل في أحد محلات بيع الذهب، وربما مع الوقت ومع فهم المهنة سيصبح صاحب محل ذهب ويترك وظيفة الصحراء.

وسوق الفاكهة والخضار بيد العمانيين، والبسطات الصباحية التي تبدأ بعد صلاة الفجر لا يبيع فيها إلّا هم. وهناك عماني يبيع الشتلات ويلقى إقبالا كبيرا، وآخر يبيع السعفيات، والفخاريات.. إنها سوق عمانية حقيقية.

وزرت مصنع "السيفي" للحلوى العمانية وفهمت أن من أسرار نجاحه وتفوقه أن الأبناء أخذوا المهنة من والدهم مباشرة وطوروها ويعملون فيها بإخلاص من الألف إلى الياء. وتحدثت إلى أحدهم وعرفت أنه يحمل شهادة في الهندسة إلا أنه رأى في مهنة والده آفاقا تجارية أكبر بكثير مما يمكن أن تحققها له وظيفة مهندس، على أنه يوظف وعيه الهندسي و المعرفي الذي تحصل عليه خلال دراسته الجامعية في خدمة مهنته الجديدة.

حتى الشركة التي تدير قلعة نزوى الآن تستحق أن نقف معها قليلا.. وظفت هذه الشركة "المتوسطة" عمانيين بشكل غير مترابط. فكما عرفت أنها قبل كورونا كانت تقيم معارض دائمة للصناعات الحرفية، والحرفيون الذين يشاركون في تلك المعارض كانوا يحصلون على أجرين: الأول نظير مشاركتهم والثاني نظير بيع ما ينتجونه من صناعات، وكانت مجموعة من النساء يعملن في صناعة "الكمة" العمانية يعملن هناك في القلعة وفق نظام الأجرين أيضا، وكذلك النساء الآتي يطبخن الأكلات العمانية.

المثير جدا في مدينة نزوى ما يحدث في حارة العقر، وهي إحدى أقدم الحارات العمانية. هذه الحارة حولها أبناؤها من حارة مهجورة تسكنها قصص السحر والمغايبة إلى واحدة من أجمل حارات عُمان حينما بدؤوا في ترميمها بأنفسهم دون أن ينتظروا من الجهات الحكومية أن ترممها لهم. وبيوتها تتحول يوما بعد آخر إلى مزارات سياحية وبعضها تحولت إلى نزل فندقية راقية واستراحات لها مردود استثماري جيد جدا. السياح يتسابقون لحجز ليلة أو ليلتين في هذه الاستراحات الفندقية التي تشبه تلك الموجودة في مدن الأندلس. وبجهود الشباب تم تبليط طرقات الحارة بالحجارة الجميلة، وتم تعليق الفوانيس التقليدية في جميع الممرات. سرت ليلا في تلك الطرقات وشعرت بشعور لم أعشه أبدا رغم أنني من قرية جبلية فيها حارات قديمة لا تختلف كثيرا عن هذه الحارة. ورغم أن المشروع في بداياته الأولى إلا أنه مبشر جدا، والواضح أن الجميع هناك مؤمن بالفكرة بعد أن شعر أنها لها عائد مادي جيد.

هذه النُزل الفندقية صنعت أعمالا إضافية مجاورة لأهالي الحارة والحارات الأخرى حيث يتم التعاقد معهم لإعداد الطعام العماني للنزلاء، ومع تكاثر هذه النُزل سيتطور العمل مع عمل منزلي إلى مطاعم عمانية متخصصة لها دخل متنامٍ مع تنامي الحركة السياحية.

ورغم أنني لم أزر النُزل التراثية في قرية مسفاة العبريين في ولاية الحمراء إلا أنني سمعت أنها تدور في هذا الإطار، وتحولت بيوت طينية كانت على وشك السقوط إلى مقاه عالمية لا يجد الزائر مكانا فيها إن لم يكن قد حجز مسبقا.

ماذا لو كان هذا النموذج موجودا في كل ولاياتنا العمانية ألن نصنع عشرات الآلاف من الوظائف والأعمال إلى جوار أماكن سكننا؟! هذا مجال خصب جدا للاستثمار ولصناعة وظائف وأعمال بأعداد كبيرة جدا في وقت يبحث فيه سياح العالم عن السياحة التاريخية والتراثية التي تذكر الإنسان بالأزمنة السابقة.

هذا النموذج هو الذي يستحق أن يكون نموذج الشباب العماني، والنموذج السائد في كل الولايات. فالشباب هم الذين يصنعون واقعهم وهم القادرون على صناعة سوق عملهم الجديد. والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة هي التي تستطيع أن تستوعب الأعداد الكبيرة جدا من الباحثين عن عمل. فقط علينا أن نفكر خارج الصندوق وخارج النظرة التقليدية لحلم الوظيفة الحكومية.