سليمان المعمري
سليمان المعمري
أعمدة

نوافذ: كُتب "ضد النسيان"

03 أبريل 2021
03 أبريل 2021

سليمان المعمري

إذا كنا نتفق أن "كورونا" محنةٌ كبيرة حاقت بالبشرية، فإننا سنتفق أيضًا أن لها بعض الإيجابيات القليلة التي لا يراها عادةً إلا أولئك القادرون على تحويل المِحَن إلى مِنَح (مع خالص الاعتذار لمدربي التنمية الذاتية على استعارة صورتهم النمطية الأثيرة). من هؤلاء؛ الكاتبان هدى حمد وهلال البادي اللذان التفتا، بإغراء من الوقت الذي منحه لهما الحجر المنزلي في النصف الأول من السنة الماضية (2020)، إلى بعض مشاريعهما الثقافية المؤجلة سابقًا لعدم كفاية الوقت. ومن هذه المشاريع قناتهما اليوتيوبية "ضد النسيان" التي رأت النور في إبريل من عام 2020 وتحتفل هذه الأيام بإطفاء شمعتها الأولى.

تسرد هدى حمد – القارئة النهمة للكتب - في حوارها الأخير عن القناة مع إذاعة مونتي كارلو الفرنسية أن الحديث عن هذه الكتب التي قرأتها فشُغِفتْ بها كان أمنية تراودها منذ فترة طويلة قبل أن يطويها النسيان من الذاكرة، ومن هنا جاء اسم القناة. ولأن هلال البادي - الذي لا يقل نهمًا للقراءة عن زوجته - كان داعمًا دائمًا لهدى في مشاريعها الأدبية والثقافية، فإنه لم يكتفِ بالتحمّس للفكرة، بل اضطلع بمهمة الإخراج أيضًا، متكئًا على خبرة كبيرة في التصوير الفوتوغرافي، وشغف أكبر بتعلم أسرار التصوير ككل.

ومنذ بث الحلقة التجريبية في السابع من إبريل 2020، التي كانت عن رواية "صمت البحر" للكاتب الفرنسي جان بروليه (فيركور)، عَرضت قناة "ضد النسيان" حتى الآن ثمانيًا وعشرين حلقة قدمتْ هدى خلالها العديد من الكتب التي حرصتْ أن تكون رسالتها فيها موجهة للقارئ العام أكثر منها للقارئ المتخصص أو النخبوي، لذا نجدها تستخدم في حديثها "لغة ثالثة" هي مزيج من الفصحى والعامية، محاولِةً إبراز أهم ما يميّز الكتاب ويُغري بقراءته، بدءًا بالموضوع، ومرورًا بأسلوب الكاتب ولغته وألاعيبه الكتابية.

تميزت الكتب التي تناولتها القناة بالتنوع والثراء، فمن روايات عالمية (كــ"أورشليم" لجونزالو تافاريس، و"عودة الروح" لــ"يا جسي") إلى كتب فكرية (كـ"دوائر الخوف" لنصر حامد أبو زيد و"علم الأديان" لخزعل الماجدي") إلى كتب علمية ("أشكال لانهائية غاية في الجمال" لــ"شون كارول") إلى كتب أطفال ("شجرة الأماني" لكاثرين آبلغيت)، إلى شعر مترجم ("شهي خسارة كل شيء" لدونالد هول)، إلى سير ذاتية مُلهِمة ("عقل غير هادئ" لـ.كاي ردفيلد جاميسون) إلى كتب في التاريخ ("أمستلفين: قصة غرق سفينة هولندية على ساحل عُمان عام 1763 لكلاس دورنبوس)، إلى كتب غاصت في أعماق المرأة كاتبةً وأمًّا ("الكاتبات والوحدة" لنورا ناجي، و"كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها" لإيمان مرسال). كما يُحسب لها أيضًا أنها حرصتْ أحيانًا على مواكبة بعض الأحداث الثقافية في وقتها، كما هي الحال في تخصيصها حلقة عن الروائي الإسباني كارلوس زافون إثر رحيله منتصف السنة الماضية، وحلقتين منفصلتين في الأيام الماضية عن روايتَيْن عُمانيتَيْن شكل صدورهما حدثًا ثقافيًّا مبهِجًا، هما "حرير الغزالة" لجوخة الحارثي، و"دلشاد" لبشرى خلفان.

غير أن أكثر الحلقات إمتاعًا بالنسبة لي هي تلك التي تضمنت مقارنات بين أكثر من كتاب؛ كما هي الحال في الحلقة التي جمعتْ بين كتابَيْ "رسائل إلى كاتب شاب" لماريو بارجاس يوسا، و"رسائل إلى شاعر شاب" لريلكه، والحلقة الأخرى التي قارنتْ بين روايتي محمد البساطي وكنوت هامسون اللتين تتحدثان عن نفس الموضوع وتتخذان نفس العنوان: "جوع"، وكذلك الحلقات التي قارنت بين روايات أدبية وأفلام سينمائية اقُبِستْ منها ("84 شارع تشيرنغ كروس لــ"هيلين هاتف"، و"حياة باي" لـ"يان مارتل"، و"غاتسبي العظيم"لسكوت فيتزجيرالد)، وقد تطلب هذا النوع من الحلقات جهدًا إخراجيًا مضاعفًا، مما سمح بإظهار بعضٍ من مواهب هلال البادي.

ورغم أن "ضد النسيان" هي من قنوات اليوتيوب القليلة المتخصصة في القراءة في الخليج، إلا أنها تحتفل اليوم بمرور سنة على إطلاقها بعدد قليل من المشتركين لم يتجاوز الألف. وهذا أمر متوقع طبعًا لقناة ثقافية جادة في وقتٍ يذهب فيه ملايين المتابعين لقنوات أخرى ذات محتوي سطحي. وإذا كنتُ شخصيًّا أشعر بالاندهاش الشديد الممزوج بشيء من الحسد أن "يوتيوبر" خليجيًّا شابًّا حصد في أحد فيديوهاته تسعة وسبعين مليون مشاهدة! –حتى كتابة هذا المقال- لمجرد أنه أخبر متابعيه وهو يغني ويتراقص أن عاملة المنزل طلبت منه شراء خبز من البقالة!، فإني متفائل –رغم ذلك- أنه سيأتي يومٌ على وطننا العربي يلتفتُ فيه المتابعون بالدرجة نفسها من الاهتمام، لمشاريع ثقافية جادة وهادِفة، كقناة "ضد النسيان".