أفكار وآراء

عن ثقتنا بالعلم: أزمة ثقافة وتواصل

31 مارس 2021
31 مارس 2021

د. تمارا الزين*

"تراجع ثقة المواطنين بالعلم"!. عبارة تلخص استنتاجات دراسة حديثة أجريت في فرنسا في أواخر العام المنصرم، من ضمن سلسلة دراسات عن علاقة المجتمع بالعلم. أكثر من خلاصة تشي بتدهور صورة العلم في نظر الذين جرى استطلاع رأيهم، على الرغم من أن عام 2020 كان بامتياز، وبداعي وباء كورونا، عام اللجوء إلى العلميين والخبراء وتسليط الضوء على آرائهم. ما كان لافتا أيضا أن نسبة من يعتقدون أن ضرر العلوم والتكنولوجيا أكبر من فائدتها، قد ازدادت مع توالي السنوات، وأن أكثر من نصف المستفتَين هم ممن تراجعت ثقتهم بالعلوم والابتكارات التكنولوجية، وذلك بالتوازي مع إقرار الغالبية، للمفارقة، بوجوب استمرار البحوث، وبخاصة في المجالات التي تعالج تحديات مصيرية.

هذه النتائج، وإن كانت محصورة في بلد محدد، إلا أنها تعكس ميلا عاما نلمسه يوميا في محيطنا، ويحيلنا تلقائيا إلى الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه العلاقة المتذبذبة بين المواطن والعلم، والتي من أهمها تراجع الثقافة العلمية لدى غالبية شرائح المجتمع، وضعف التواصل بين العلميين الحقيقيين وعامة الناس، في الوقت الذي تجتاح فيه مواقع التواصل الاجتماعي وشاشات الفضائيات جحافل المروجين للعلم الزائف.

أما من ناحية العواقب، فينعكس غياب هذه الثقة في فك الارتباط بين المواطنين والعلميين، وبالتالي ضمور حضور المجتمع الداعم للمنظومة العلمية، ما يؤدي حتما إلى تهميش العلميين وإقصائهم عن صناعة القرار السياسي- العلمي، وأيضا إلى اضمحلال البحث العلمي والابتكار واستحالة مواكبة التقدم والانخراط في مسارات التنمية المحلية، مع كل ما يستجلب ذلك من تبعات كارثية على المجتمع والدولة.

فمع ظهور وباء كوفيد-19 وتفشيه، تكشفت بشكل جلي أزمة العلاقة بين العلم وأهل الاختصاص من جهة، والمجتمع والإعلام من جهة أخرى، وبرزت هشاشة الثقافة العلمية لدى المواطن، ما ارتد مباشرة على استيعابه وتفاعله وتعاطيه مع مستجدات الوباء. فعلى الرغم من أننا نعيش اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في صلب وتيرة متسارعة من التقدم العلمي والابتكارات المزعزعة والغليان التكنولوجي، وفي جو استهلاك مرضي لملايين المنتجات والخدمات والتطبيقات، يبدو وكأن العلوم لا مكان لها في ثقافة المواطنين، حتى النخب من بينهم. مثلا، في استطلاع أجري في لبنان بين يناير وفبراير 2021، تبين أن أكثرية المستطلعين (69%)، من الإناث والذكور، يرفضون تلقي اللقاح المضاد لفيروس كورونا أو لم يقرروا موقفهم بعد، الأمر الذي يترجم نوعا من فقدان الثقة بالتطوير العلمي وبنواتج البحوث لأسباب ترتبط بعجزهم عن المواكبة، وبهيمنة الآراء العلمية المضللة المبنية على الإشاعات والتسييس والأدلجة والشعبوية، والتي لم تكن لتجد تجاوبا، لولا الفجوات العميقة في ثقافة المواطن في ما يخص العلوم والابتكار.

كرست دول عدة جهودا ملحوظة لنشر الثقافة العلمية وتعميم العلوم ومكافحة ما أسموه "الأمية العلمية" عبر برامج تثقيفية تتوجه إلى الفئات العمرية كافة، وبواسطة أنشطة متنوعة، إلا أنها عجزت عن تحقيق خرق يرقى إلى الطموحات لسبب جوهري، وهو أن الخلل متجذر في تعليم العلوم في المدرسة والجامعة. فبمراجعة بسيطة لبرامج التعليم سنلاحظ:

- أولا، أن العلوم على أنواعها تدرس على مدى السنوات المتتالية وفق حقول معرفية مجزأة ومنفصلة عن بعضها البعض، ما يعيق تشكل ثقافة علمية بفعل غياب العناصر الموحدة والعابرة لهذه الحقول.

- ثانيا، أن غالبية البرامج لا تكرس المساحة الجديرة بالمنطق العلمي والطرائق العلمية والمنهجية، مع أنها دعامة الثقافة العلمية. وعلى الرغم من أن الفضاء الرقمي سهل الوصول إلى الكثير من المعلومات، إلا أن التمييز بين العلم الموثوق والدجل العلمي، لن يكون بمتناول المتلقي الذي يفتقد لأسس التقصي المنهجي.

- ثالثا، أن تاريخ العلوم لم يقارب في البرامج التعليمية كما يجب، فضلا عن تغييب شبه كلي لفلسفة العلوم. فاليوم، يتمحور محتوى المقررات المعنية بتاريخ العلوم حول إسهامات الحضارات المتتالية بينما المطلوب هو التركيز على عملية بناء العلوم وتحولاتها من وجهة نظر عملانية وفلسفية.

- رابعا، وهي نقطة ترتبط بالتي سبقتها، أن سردية الاكتشافات العلمية والتقدم التكنولوجي التي تتبناها مناهج التعليم، تخفي بغالبيتها المسار الطويل والتراكمي والمعقد للبحوث العلمية قبل الوصول إلى نواتج ملموسة. ونحن نحتفل باليوم العالمي للإبداع والابتكار، علينا أن نؤكد باستمرار على أن الاختراعات والابتكارات على أنواعها، لا تولد ولا تنفذ بين ليلة وضحاها، بل تستند إلى أفكار يستحيل تنفيذها من دون بحث وتطوير ومن دون الاستفادة من إسهامات البحوث السابقة، سواء أكانت نظرية أم تطبيقية. ضعف الثقافة العلمية بشكل عام تجلى بصورة فاضحة، خلال أزمة وباء كوفيد-19، بتذمر المواطنين من عجز العلميين عن تقديم إجابات وافية عن الفيروس، ثم بالخوف والريبة من سرعة الوصول إلى اللقاحات! والحالتان، وعلى الرغم من التناقض، هما دليل على جهل المواطنين بسيرورة البحث العلمي، على الرغم من أنه المحرك الأكثر فعالية في منظومة الابتكار وإنتاج المعرفة. فالوصول إلى إجابات عن أي مسألة علمية مستجدة يحتاج لبحوث جدية ورصينة، بينما تحتم الأخلاقيات العلمية على الباحثين ألا يشيعوا معلومات لم يتأكدوا بعد من صدقيتها ودقتها (وهو ما يستلزم وقتا أطول). أما التوصل إلى لقاح مثلا، في مدة زمنية عدت قياسية، فمرده إلى تراكم المعارف وتسريعها وتطور الأدوات والتقاطع البحثي بين مجالات شملت على سبيل المثال علم الفيروسات والأوبئة، علم الأحياء الخلوي والجزيئي، الذكاء الاصطناعي، النمذجة... إلخ. لو أن مناهجنا أدرجت مقررات توعوية عن ماهية البحث العلمي ومساره وسيرورته، لكانت قد أسهمت في بناء ثقافة علمية تجنبنا العواقب الوخيمة التي قد تنتج عن تراجع ثقة المواطن بالعلم والعلميين.

من جهة أخرى، وفضلا عن الخلل في مناهج تعليم العلوم التي تعيق -منذ مقاعد المدرسة- تشكيل ثقافة علمية، تبرز معضلة انقطاع التواصل الدائم بين الباحثين والمجتمع وغياب الإعلام العلمي المحترف والفعال (وهو على صلة بمنظومات الإعلام بشكل عام وأولوياتها وإمكانياتها ويحتاج منفردا لبحث مطول). منذ سنوات عدة، يتنامى الوعي العام السياسي والاجتماعي بأهمية الالتزام المجتمعي من قبل العلميين، وتزايدت التيارات التي تناشدهم الخروج من بروجهم العاجية ومشاركة نواتج بحوثهم العلمية مع العامة، بهدف التأسيس لحوار مثمر مع المجتمع، وبما يصب أيضا في تعزيز ثقافته وتحديثها. تستند هذه التيارات بأغلبيتها إلى تأثير التقدم العلمي، المباشر وغير المباشر، على حياة المواطنين وإلى الحضور الطاغي للتحديات الملحة كالتغير المناخي، مصادر الطاقة، ندرة المياه، الأمراض المزمنة، وصولا إلى الأوبئة، وجميعها تتطلب حلولا علمية مقبولة مجتمعيا، ما يستوجب استرداد الثقة والتفاهم بين المواطنين والعلميين. وعليه، بالنسبة إلى هذه التيارات، لا تقتصر مهام العلميين على إنتاج المعرفة والابتكار، بل تتخطاها -كجزء من المسؤولية المجتمعية- لتشمل نقل المعرفة إلى خارج الفضاء الأكاديمي والعمل على رفع مستوى وعي المواطن في ما يخص القضايا العلمية، بما يسهم في بناء علاقة تأثير متبادل بين أهل العلم والبيئة الاجتماعية (يذهب بعض علماء الاجتماع بتطرف في دراساتهم للعلاقة بين العلم والمجتمع، ومنهم برونو لاتور، إلى أن العلميين ملزمون أمام المواطن بإثبات المنفعة الاجتماعية لأبحاثهم). في سويسرا مثلا، ونتيجة للقوانين التي تفرض إشراك الشعب في القرارات العلمية عبر التصويت المباشر، ازدادت حدة المطالبة بالتحاق العلميين في حملات تثقيفية عن العلوم، وبخاصة بعد التصويت الشعبي على الهندسة الجينية في العام 1998. في حينها استطاع الباحثون، بواسطة تحركاتهم ونشاطاتهم التوعوية، قلب الرأي العام الذي كان بأغلبيته مناهضا للتكنولوجيا الحيوية... طبعا، ابتهج يومها رئيس المجلس السويسري للعلوم والتكنولوجيا بهذه النتيجة، ولكنه دعا العلميين إلى متابعة الحوار مع المجتمع وعدم العودة إلى مختبراتهم البحثية (وهي دعوة تحتمل الكثير من المناقشة)!. بطبيعة الحال، لا إجماع على إدراج التواصل ضمن مهام العلميين لأسباب عدة منها كثافة واجباتهم الوظيفية، وعدم توفر الوقت اللازم لنشاطات مجتمعية، ولاسيما أن الجهد الذي يبذل في إطارها، لا يثمن من مؤسساتهم، ولا يدخل ضمن تقييمهم العلمي، ولا يحتسب أثناء تقدمهم بطلب الترقية. أضف إلى ذلك صعوبة التبسيط في العلوم والبحوث النظرية، ما يعني مجازفة إضافية قد تزيد من إهمالها، وافتقاد غالبية العلميين للمهارات التي تخولهم إيصال المعلومة العلمية بأسلوب مبسط يفهمه المواطن الذي عادة ما يجذبه خطاب التهويل والإثارة ونظريات المؤامرة (للأسف هذا الخطاب يغزو بصورة متلاحقة الوسائط الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي كافة).

في المحصلة، بين مروج ومعارض لتحميل العلميين مسؤولية التواصل مع المجتمع، علينا الاعتراف بأن ثقة المجتمع بالعلم لن تنمو وتتعمق من دون مد الجسور بين الأطراف الثلاثة المعنية بقضايا العلم والبحوث والابتكار، وهي الحكومات والمؤسسات العلمية والعلميين، والمواطنين؛ إن كان بواسطة إعلام علمي مختص أو عبر علميين ممن طوروا مهاراتهم التواصلية وممن هم على استعداد لبذل جهود تطوعية. باختصار، يحتاج بناء ثقة المواطن بالعلم إلى مدماكين رئيسيين: مناهج تعليمية تأسيسية تدرج البعد التثقيفي وتولي الأهمية القصوى للثقافة العلمية بمعناها الواسع، وتواصل مستمر بين العلميين والمواطنين يهدف إلى تحديث الثقافة المجتمعية وإلى تفاعل أكثر إيجابية من المجتمع الذي عليه أن يتحول من "متلقٍّ" إلى "فاعل".

ونحن نعيش احتفاليات اليوم العالمي للإبداع والابتكار(21 إبريل من كل عام)، نستعيد البدهيات التي تسهم في الارتقاء نحو المواطنة العلمية، ونحو مجتمع تربطه علاقة ثقة بالعلم، بما يضمن مواكبة التقدم العلمي، ليس في أبعاده التكنولوجية وابتكاراته فحسب، بل الأهم في تلك التي تقودنا لبلوغ التقدم الاجتماعي. علينا الإقرار بأن غياب الثقافة بشكل عام وعزلة المجتمع عن العلم وهزال التآزر بين المواطنين والعلميين، هي من ضمن العوامل التي أعاقت بلورة تجاوب مجتمعي حكيم مع القضايا العلمية المصيرية. لذا يبدو أن ما قاله أرسطو، منذ أكثر من ثلاثة وعشرين قرنا، ما زال صالحا وبقوة وهو أن "لا قيمة لأي تقدم، إن لم يتقاسمه الجميع".

*المجلس الوطني للبحوث العلمية- لبنان

** ينشر بترتيب مع مركز الفكر العربي