أفكار وآراء

أنســاغ: بطونٌ منتفخة، أمعاءٌ خاوية: «نُمُّوٌ» بلا «تطوُّر» في أمريكا اللاتينيَّة «3»

30 مارس 2021
30 مارس 2021

عبدالله حبيب -

«كم هي مسكينة المكسيك: بعيدة من الله، وقريبة من الولايات المتحدة»

--الرئيس المكسيكي السابق بروفيرو دِيَزْ--

أنهيتُ حلقة الأسبوع المنصرم من هذه الـ»أنساغ» بالإلماح إلى التعبير الذي يطلقه الخطاب الرسمي والسياسي في الولايات المتحدة على أمريكا اللاتينيَّة (والحقيقة ليس الخطاب الرسمي والسياسي فحسب بل حتى الخطاب الشعبي والشَّعبوي، وبصورة في غاية الخطورة واللاإنسانيَّة لمن يتابع أدبيَّات الخطاب الثاني خاصة إبان صعود إدارة دونَلْد ترمب و»الترمبيَّة» معه، واستشراس حملة رسميَّة وإعلاميَّة مُنَظَّمَة وشعواء ضد المهاجرين من أمريكا اللاتينيَّة، بل وحتى مهاجرين من بعض الدول العربيَّة والإسلاميَّة، وبناء ذلك السور «الأبرتيدي» الصارم على الحدود الأمريكيَّة/ المكسيكيَّة)، وذلك التعبير هو: «الباحة الخلفيَّة (لِبَيتِنا)» (our backyard). حقَّاً، لا يمكن لنا أن نتصوَّر عبارة أكثر وقاحةً، وأكثر إسرافاً في قلَّة الأدب، وسوء التهذيب، والصَّفاقة، والوقاحة، وأكثر ادعاءً في المِلكيَّة والاستحواذ أكثر من هذه. وحقَّاً لا يمكن بحال من الأحوال فهم مشكلة «النمو» بلا «تطور» في أمريكا اللاتينيَّة من دون تسليط الضوء على دور وسياسات الولايات المتحدة هناك، وبصورة خاصة اعتبارا من المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وذلك حين وللمرة الأولى في التاريخ تمكنت الولايات المتحدة من أن تكون قوَّة إمبرياليَّة من دون أن تكون قوة كولونياليَّة، وذلك على عكس القوى الكولونياليَّة/ الإمبرياليَّة الأوروبيَّة التقليديَّة المعروفة كالفرنسيين والإنجليز (مثال الفلبين، في الحالة الأمريكيَّة، كان عابراً ولا يُعتَدُّ به. والحقيقة هي أن حتى أهل اليسار في الفلبين لديهم محاججاتهم في هذا الصدد). ولا ينبغي أن يُفهم من هذا أن علينا توجيه أصابع الاتهام إلى «اليانكيِّيِّن» (Yankees) و»الغرينغوز/ الغرينغاز» (Gringos/ Gringas) (ضمن نعوت تحقيريَّة وازدرائيَّة أخرى يطلقها أهالي أمريكا اللاتينيَّة على الأمريكيين الشماليين) في كل مشكلة، صغيرة أو كبيرة، تعيشها أمريكا اللاتينيَّة التي ينبغي الاعتراف أنها عانت تاريخيَّاً (ولا تزال) من أزمات إثنيَّة، وعِرقيَّة، وسوسيو ـ اقتصاديَّة، وسياسيَّة، وثقافيَّة لم تكن كلّها مصنوعة في البيت الأبيض؛ هذا ما بالغ الاحترام لثوريِّي أمريكا اللاتينيَّة، ومظالمهم الوجيهة، وتطلعاتهم المشروعة في مسعى الحب، والحق، والعدل، والخير، والجَمال. ما عَنَيتُهُ بالضبط هو أن فهم دور السياسات التي انتهجتها الولايات المتحدة في المآل السيئ الذي وصلت إليه الأمور في «الباحة الخلفية )للبيت)» لا يحتاج إلى أي تحامل من أجل إثباته، والسطور واضحة في الغالب وإن كان ينبغي في أحيان قليلة فقط الذهاب إلى ما بينها.

في هذا الشأن، تنبغي العودة إلى تاريخ الولايات المتحدة في بدايات القرن التاسع عشر التي شهدت ولادة نظريَّة وممارسة منهجيَّة إزاء أمريكا اللاتينيَّة. وفي تينك النظريَّة والممارسة تم تحديد دور أمريكا اللاتينيَّة بصورة صريحة على أنها المجال الحيوي لنفوذ الولايات المتحدة، وقد استند ذلك الموقف إلى ادعاءات واضحة وفجَّة بالفرادة والتفوق الاجتماعي والثقافي والأخلاقي، وهذا ما يؤهل الولايات المتحدة، ضمن ذلك المنظور العنصري، لأن تلعب دوراً شبه إلهي (إن لم يكن إلهيَّاً بالكامل، ومذِّكِّراً ومستعيداً لـ»مهمَّة الحَضْرَنَة» (civilizing mission) الأوروبيَّة في بدايات سيطرة الرجل الأبيض على الأرض) لقيادة تلك الرقعة من المعمورة، واستغلال مُقَدَّراتها، ونهب ثرواتها وخيراتها، واسترقاق أهلها، والسيطرة، والهيمنة عليها. وفي هذا السياق الأيديولوجي الحاسم (والحازم أيضاً) تم سَكُّ «عقيدة مونرو» (Monroe Doctrine)، نسبة إلى الرئيس الأمريكي جيمس مونرو، في العام 1823 لتشكل الدعائم السياسيَّة الضرورية لذلك المنطق الأخلاقي والثقافي العجيب الغريب. لقد كان القصد من التبشير بتلك «العقيدة» توجيه إنذار صارم إلى القوى الأوروبيَّة الكولونياليَّة الكلاسيكيَّة بأنه لم يعد لها موطئ قدم في النصف الغربي من المعمورة؛ فقد كانت المستعمرات الأمريكيَّة اللاتينيَّة خاضعة لإسبانيا والبرتغال. وهكذا، وبجرَّة قلم، أصبحت أمريكا اللاتينيَّة واقعة تحت جناح «العم سام». لقد كانت «عقيدة مونرو»، وبكافة المقاييس، أكبر من كارثة، وأعظم من خزي وعار، والكابوس الذي لا يزال جاثماً على أمريكا اللاتينيَّة لغاية اليوم.

أما القرن العشرون، بأحداثه الضخمة مثل انتصار الثورة الروسيَّة في العام 1917، ونشوب الحرب العالمية الثانية، ووصول الرأسماليَّة العالميَّة إلى مرحلة النضج، فإنه لم يشهد التطور السريع للديالكتيك الأخلاقي/ السياسي الأمريكي فحسب، بل انه شهد أيضاً ما لا يمكن تسميته بأي كلمات أخرى: ولادة الإمبرياليَّة الأمريكيَّة بصورة صريحة وعارية. حقاً، لا يمكن فهم سياسات واشنطُن الخارجية عموماً، وفيما يتعلق بأمريكا اللاتينية خصوصاً، في طور ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا باستحضار هذه الخلفيَّة. أما مشهد ما بعد برهة الحرب العالمية الثانية في أمريكا اللاتينيَّة نفسها فقد كان مشهد صراع حاد بين معسكرين: معسكر حركات جماهيريَّة إصلاحيَّة تكون أحياناً ثوريَّة وراديكاليَّة في طبيعة تكوينها وفي مطالبها وأجندتها، ومعسكر تحالف الميراث الإسباني الكولونيالي الثقيل وممثلو الكولونياليَّة الجديدة؛ أي مُلَّاك الأراضي، وأعضاء التيار المحافظ في الكنيسة الكاثوليكيَّة، وقيادات القوات المسلحة التي تمارس السياسة الداعرة والخسيسة بصورة مفتوحة، والنُّخبة ذات التراث المعروف في تبعيَّتها للماضي الأيبيري، وممثلو رؤوس الأموال الكبيرة.

ومع وجود استثنائين أوليين فحسب (سأتحدث عنهما) فإن الولايات المتحدة قد اتخذت بثبات ورسوخ، عبر كرنفال من الخطط والمكائد والمؤامرات، قرار الوقوف مع الوضع القائم ممثَّلاً في المعسكر المحافظ. وفي غالب الأحيان لم يكن ذلك يحدث ضد الشرعيَّة الدوليَّة وقراراتها فحسب، بل كان يحصل كذلك نهاراً جهاراً في تناقض صارخ مع القيم، والمبادئ، والمقولات الأمريكية الكبرى المُعلنَة نفسها، خاصة تلك المتعلقة بالحرية، والديمقراطيَّة، والعدالة الاجتماعيَّة، وحقوق الإنسان، وحق الأمم والشعوب في تقرير المصير.

والحقيقة انه مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة وانبثاق بُعْبُع «الخطر الشيوعي»، فقد ترجم الموقف الأمريكي نفسه في برامج «مساعدات» عسكريَّة إلى أكثر الأنظمة وحشيَّة ودمويَّة في أمريكا اللاتينيَّة، والتي لأهدافها بنفسها تقاسمت مع الولايات المتحدة «الرُّهاب الأحمر» بكل إريحيَّة لتبرير مزيد من البطش، والقمع، والاستغلال بحق شعوبها؛ فبرامج «المساعدات» العسكريَّة إن عتادا، أو تدريبا، أو بأوجه أخرى اُستخدِمت، وبأقصى الطرق الممكنة وأكثرها عنفا ودمويَّة، لقمع انتفاضات الطلبة في الجامعات، والعمَّال في المصانع، والفلاحين في المزارع ومحاربة حركات التحرر الوطني التي لم تكن، في الحقيقة، وليدة مؤامرة أو تحريضٍ شيوعي قادم من موسكو على التمرد والعصيان، بل كانت نتيجة طبيعية وإفرازاً منطقيَّاً لحالات التطرف المريع في التفاوتات الاقتصادية والاجتماعيَّة. هذا وللمادة تتمة في الأسبوع المقبل.