أفكار وآراء

خطاب الأزمة.. وآفاق تفكيك الجائحة

30 مارس 2021
30 مارس 2021

أ.د. حسني محمد نصر -

هناك مقولة شهيرة متداولة في عالم الصحافة تؤكد أن «نفس الأشياء القديمة تحدث لنفس الأشخاص تقريبا.. والقضايا المثارة هي نفسها القضايا القديمة تقريبا». ولعل هذا ما يجعل أمل الصحفي والإعلامي في إلقاء ضوء جديد وتقديم معالجة مختلفة لهذه الأحداث والقضايا ضئيلا. ومن هنا قد يجد الصحفي نفسه يدور في حلقة مفرغة، ويغطي نفس الموضوعات بنفس الطريقة طول الوقت، وهو الأمر الذي يحد كثيرا من تأثير الصحافة في المجتمع.

تحيلنا تلك المقولة إلى محاولة تفكيك المعالجة اليومية التي تقدمها الصحف ووسائل الإعلام العمانية لجائحة كورونا وما يرتبط بها من أحداث وقضايا، لوضع أيدينا على مواطن الخلل في تلك التغطية التي تشكل سببا من أسباب عدم التقدير المجتمعي الواسع لخطورة الوضع القائم، وبالتالي رفض قطاعات من المواطنين والمقيمين المستحقين الحصول على اللقاح الذي وفرته الدولة.

لعل أول ما يلاحظ على تلك التغطية الإعلامية أنها منذ اليوم الأول للجائحة لم تخرج عن إطار النشر المنتظم لبيانات وزارة الصحة عن عدد الإصابات الجديدة، وإجمالي العدد الكلي منذ انتشار الوباء، وعدد الوفيات، وعدد المرقدين في المستشفيات وفي العناية المركزة، إضافة إلى رسالة توعوية شبه ثابتة عن ضرورة التباعد الاجتماعي، ومنع التجمعات وارتداء «الكمامات». وبالنهج نفسه يتم التعامل مع قرارات اللجنة العليا المكلفةُ ببحثِ آليةِ التعاملِ مع التطورات الناتجةِ عن انتشار فيروس كورونا. في تقديري أن تلك التغطية التسجيلية المعتمدة في الأساس على المصادر الرسمية- رغم أهميتها- حدّت كثيرا من قدرة وسائل الإعلام على تغيير قناعات ومعتقدات وسلوكيات بعض الناس تجاه الجائحة وخطورتها وتداعياتها على الفرد والمجتمع، وأجبر اللجنة العليا على اتخاذ قرارات بالإغلاق التام في بعض الفترات والإغلاق الجزئي، كما هو الحال الآن.

قد يقول قائل إن وسائل الإعلام التقليدية من صحف ومحطات إذاعية لم يعد لديها ذلك الجمهور الكبير من القراء والمستمعين والمشاهدين، الذين انصرفوا إلى شبكات التواصل الاجتماعي أو الشبكات الاجتماعية الخاصة لتبادل الأخبار عن الجائحة، وبالتالي سواء قدم الإعلام تغطية تقليدية أو تغطية تحليلية نقدية متعمقة، فإن الأمر سيان. والواقع أن هذا غير صحيح، لأن غالبية ما يتم تداوله على هذه الشبكات يأتي في الأساس من صفحات وحسابات وسائل الإعلام، التي تنقل إما مباشرة من المصادر الرسمية التي أشرنا إليها، أو من وكالة الأنباء العُمانية.

إن مراجعة أمينة للجهود التي بذلتها وسائل الإعلام العمانية على مدى عام تقريبا في معالجة أزمة كورونا تكشف بجلاء أن الدور الأساس والمؤكد الذي لعبته تلك الوسائل هو الدور المعرفي. فقد نجحت في تقديم المعلومات والمعارف المرتبطة بالفيروس والجائحة عموما إلى الناس وعرفتهم بها، وهو دور لا يمكن بالطبع الاستغناء عنه، خاصة وأن الجائحة تضمنت كمّا هائلا من المعلومات سواء عن معدلات انتشارها في العالم، أو الآثار المترتبة عليها، أو ما تعلق بتطوير لقاحات للوقاية من الإصابة بالفيروس. ويمكن القول إنها نجحت إلى حد ما في تغيير الاتجاهات والقناعات، وحولت تبني الممارسات الصحية من الدائرة الضيقة للمتبنين الأوائل إلى دائرة أوسع تشمل المجتمع كله.

أين المشكلة إذن؟ المشكلة في تقديري تتعلق بتغيير السلوك، بما يعني الالتزام بالإرشادات والإجراءات والضوابط الخاصة بالحد من انتشار الفيروس، وتلقي اللقاحات التي أنفقت الدولة أموالا طائلة للحصول عليها. ولعل ما يؤكد أن التغيير الذي أحدثته وسائل الإعلام لم يصل إلى مرحلة تغيير السلوك بعد، تلك الزيادة الكبيرة في أعداد المصابين والمرقدين في المستشفيات وفي غرف العناية المركزة و نسب الوفيات، ولعل هذا ما دفع اللجنة العليا إلى أن تعلن الخميس الماضي الإغلاق الليلي للأنشطة التجاريّة ومنع الحركة للأفراد والمركبات من الساعة الثامنة مساءً إلى الساعة الخامسة صباحًا، اعتبارًا من الأحد القادم وحتى صباح يوم الخميس بعد القادم، وتمديد العمل بقرار استمرار الطلبة في تلقي التعليم في المدارس الحكوميّة بطريقة التعليم عن بعد، باستثناء طلبة الصف الثاني عشر الذين سيتم التعامل معهم بنظام التعليم المدمج. وتأتي تلك القرارات وسط توقعات بأن الفترة من أول أبريل وحتى نهاية مايو ستكون فترة صعبةً وحرجةً للغاية في وضع الجائحة في السلطنة، وهو ما دفع اللجنة إلى الإشارة إلى أنها قد تتخذ سلسلة من الإجراءات الأشد والأشمل قد تصل إلى الإغلاق التام ومنع الحركة كليًّا خلال الفترة المذكورة، لتجنب الأسوأ حسب وصفها. وفي بيان سابق لها في مطلع هذا الشهر كانت اللجنة قد «شددت على خطورة هذه المرحلة التي ينتشر فيها هذا المرض على المستويين المحلّي والعالمي، ودعت الجميع إلى أخذ أقصى درجات الحيطة والحذر، وحماية جميع أفراد أسرهم ومجتمعهم، وتجنّب إقامة التجمّعات، التي ثبت علميًا تسببها في تفشّي العدوى بشكل واسعٍ وخطيرٍ.

ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أن هناك حلقة مفقودة في التواصل الفعال مع قطاعات من المجتمع تقاوم الرسائل الحالية ولا تستجيب لها. ما أكثر الرسائل التوعوية التي يتم بثها عبر مختلف وسائل الإعلام عن خطورة الوضع الوبائي لجائحة كورونا في السلطنة، ولكن ارتفاع معدل الإصابات والوفيات، بشهادة اللجنة العليا، يؤكد أن هناك ما ينقص هذه الرسائل، وينقص المعالجة الإعلامية للأزمة بشكل عام.

ما أحوجنا في الوقت الحالي الذي تشتد فيه خطورة الجائحة إلى مراجعة المعالجة الإعلامية ومراجعة الرسائل التي يتم بثها من مختلف وسائل الإعلام، لتكون معالجة أكثر إنسانية، تكشف للناس بالكلمة والصوت والصورة مخاطر عدم الالتزام بتعليمات الجهات المسؤولة، وتحول الرصيد المعرفي الذي وفرته لهم على مدى عام تقريبا، إلى سلوك فعلي يومي. نحتاج إلى أن تخرج وسائل الإعلام إلى الشوارع في جميع الولايات، لترصد مع الجهات المختصة السلوكيات المرفوضة في وقت الأزمة، وتقدم النماذج الملتزمة التي يجب أن تكون أسوة للآخرين، والنماذج غير الملتزمة التي يجب التصدي لها. نحتاج إلى أن تخرج وسائل الإعلام من الإطار الرسمي لبيانات اللجنة العليا ومؤتمراتها الصحفية، وأن تذهب كاميرات الصحف والتلفزيون وميكروفونات الإذاعة إلى التجمعات وأماكن العمل والمستشفيات والمراكز الصحية لتعرض للناس مشاهد وصورا حقيقية من الواقع الصعب المترتب على انتشار الجائحة، وتنقل- وفق الضوابط الأخلاقية المعروفة- معاناة المصابين، وحزن أسر المتوفين.

إن الوضع الحالي الحرج للجائحة الذي صارحتنا به اللجنة العليا في بيانها الأخير، يدعونا إلى المطالبة بتغيير الخطاب الإعلامي الموجه إلي الناس. لا بأس بالطبع من استمرار متابعة بيانات اللجنة العليا ومؤتمراتها الصحفية، فهذه ضرورة خبرية لا يمكن الاستغناء عنها، وإن كان من الممكن إعادة صياغة تلك البيانات في لغة سهلة الفهم قادرة على التأثير. ولا بأس كذلك من استمرار بث الرسائل التوعوية حول التعامل مع الجائحة بشرط أن تكون ضمن خطاب إعلامي يواكب خطورة الجائحة، قادر على التأثير في السلوك، وليس في المعارف والاتجاهات فقط، خطاب لا يقوم على الرسائل التي تخاطب العقل والمنطق فقط، وإنما على الرسائل التي تجمع بين مخاطبة العقل ومخاطبة العاطفة، ويمزج بين الاستمالات المنطقية وبين الاستمالات العاطفية واستمالات التخويف بدرجة معقولة. كيف يتم إنتاج هذا الخطاب؟ وما مكوناته؟ هذا ما نتناوله في المقال القادم بإذن الله.