أفكار وآراء

كارل يونج (2): رحلة التسامي عبر متاهة اللاوعي الجمعي

29 مارس 2021
29 مارس 2021

سعيد الريامي

سبق فرويد يونج في التلميح إلى وجود مشاهد غامضة في أحلام مرضاه، ورموز دخيلة لا تمت بالصلة المباشرة لمركباتهم النفسية وعقدهم الشخصية، ولا حتى لتفاصيل حياتهم الواعية. أي أنها كانت تقع خارج النطاق الزماني والمكاني لحياتهم. لكن فرويد لم يعرها اهتمامًا، فقد اعتبرها مجرد عناصر بدائية، وصورًا قديمة هائمة في اللاوعي، فهي لذلك غير ذات قيمة. أما يونج فقد أدهشته تلك الرموز والمشاهد الدخيلة على اللاوعي الشخصي، فوقف عندها مذهولًا حيرانًا؛ ذلك لأنها لم تكن - وهي الدخيلة - تتكرر فقط في أحلام البالغين من مرضاه الذين قد تشفع لهم أحيانًا تجاربهم الشخصية الممتدة في الزمان والمكان، بمعنى أن تكون تلك المشاهد والرموز قد انتقلت إلى لاوعيهم من مشهد عابر لَمَحُوه ذات يوم أثناء رحلة في قطار، أو من أقصوصة حكتها لهم الجدّة ذات ليلة باردة وهم صغارٌ متحلّقون حول المدفأة، أو من كتاب قرأوه. ثُم - ولسبب ما - تسللت تلك المشاهد من عقلهم الواعي واستقرت في اللاوعي. لا، لم تلك الرموز والمشاهد مقصورة على البالغين، ولا على ذوي التجارب المنسية أو المهملة، فقد لاحظ يونج وجودها في أحلام الأطفال وخيالاتهم، كما لاحظ أنها في أحيان كثيرة لا تتسق مع ظروف الحالم المكانية ولا مع ثقافته، بمعنى أن تكون المشاهد لأماكن خارج النطاق الجغرافي أو السياق الثقافي للحالم؛ كأن تحتوي أحلامُ طفلة سويسرية في التاسعة من عمرها مثلًا على مشاهد من أساطير يونانية أو هندية قديمة، أو أن تُلمّح أحلامُ خمسيني أوروبي إلى قصص قرآنية، أو أن تتكرر مشاهد، أو شخصيات، أو إشارات بعينها في أحلام مجموعة كبيرة من الأشخاص ممن ينتمون إلى ثقافات وبيئات مختلفة. مثال ذلك ما يتكرر في أحلام البشر من صور أو رموز تشير إلى الرجل العجوز الحكيم ذي اللحية البيضاء الطويلة والرداء الأبيض الفضفاض، أو إلى الأم الحنون المعطاءة، أو البطل المخلّص، أو الخطر المتربص الرابض في الظل أو الظلام، أو إلى الأنوثة أو الذكورة. كل هذه - وغيرها - رأى يونج أنها غير ذات صلة مباشرة بالحالم وظروف حياته وتعالقاتها، إنما هي إشارات إلى أنماط يشترك فيها جميع البشر أينما وجدوا في الزمان والمكان. ولعل كتاب جوزيف كامبل "البطل بألف وجه" الذي صدر في منتصف القرن العشرين توثيقٌ لأحد هذه الأنماط التي تسكن اللاوعي الجمعي، وهو نمط البطل المخلص، الذي تتكرر ثيماته - ربما بحبكات مختلفة - في جميع الثقافات.

لاحظ يونج - كذلك - أن هذه الرموز والمشاهد المتكررة في أحلام البشر يوجد مثيل لها في الأساطير الشعبية والنصوص الدينية، بل إن بعض مشاهد ورموز الأحلام هي ذات المشاهد والرموز التي نجدها في تلك الأساطير والنصوص، فكان لزامًا عليه أن يقرأ تلك الكتب ويتعرف على تلك الأساطير والنصوص التي كانت تختزن ذاكرات الشعوب وثقافات البشر. ولذا فلا غرابة أن تتكون لديه - بعد فترة من الزمن - مكتبة ضخمة ضمت مئات الكتب القديمة والنادرة في هذا المجال. اعتزل يونج العالم وانكب على قراءة أساطير الشعوب القديمة والحديثة وتمحيص نصوصهم الدينية والعقدية، في الوقت الذي كان يستقبل في عيادته الخاصة أعدادًا كبيرة من الناس - قليل منهم مرضى، وأغلبهم "أصحاء" يحاولون فهم ذواتهم عبر تفسير أحلامهم. كانت الأحلام عند يونج ذات أهمية قصوى من حيث كونها المنفذ الأوسع - لكن ليس الوحيد - إلى اللاوعي. فهي اللغة التي متى ما تمكن الشخص من فك رموزها، أمكنه التحاور مع اللاوعي، وبالتالي البدء في تفكيك مركباته وعقده الكامنة في لاوعيه الشخصي، والأهم من ذلك بدء رحلة البحث عن ذاته الحقيقية المتسامية الموصولة بالمطلق، وذلك عبر التحاور مع مكونات اللاوعي الجمعي - التي سنأتي على ذكرها لاحقًا. لكن الأحلام لغة صعبة الفهم، فلا وجود لقاموس يحيط بمفرداتها، بل لا يمكن أن يوجد هذا القاموس - كما يقول يونج - الذي يرى أن قواميس تفسير الأحلام ليست سوى نكتة سمجة؛ فالأحلام ملكية الحالم، ورموزها - حتى تلك التي تتكرر مع الآخرين - لا يمكن فهمها إلا في ضوء ما تشكله من أهمية للحالم؛ بمعنى أن الرمز الواحد يمكن أن يحمل أكثر من معنى، فهو انعكاس لمكانته في حياة الحالم ولأهميته بالنسبة إليه؛ هذه الأهمية التي تتغير بتغير عمره وثقافته وسعة اطلاعه. جدير بالذكر أن عدد الأحلام التي تعامل معها يونج - تفسيرًا وتدقيقًا وبحثًا - جاوز ألفًا وثمانمائة حلم.

اقتنع يونج - بعد فترة من التدقيق والتمحيص وقراءة الأحلام - أن النفس البشرية - في شقها اللاواعي - تحمل إلى جانب المطمور من التجارب الشخصية، جانبًا آخر لا علاقة له بالأشخاص، فهو مُعطىً ثابت - أي لا يتغير في الزمان ولا في المكان - وهو كذلك شامل - بمعنى أنه مُعطىً بشري مشترك. كان ذلك واضحًا ليونج بعدما تأكد له تكرار الرموز والمشاهد وتواترها ليس فقط في كتب الأساطير والمعتقدات التي كان يتفحصها بتمعن واهتمام، بل كذلك في أحلام مرتادي عيادته من النساء والرجال - البالغين منهم والأطفال. والأهم من ذلك أنها كانت تتجلى له بوضوح في أحلامه خلال رحلته الطويلة والمضنية في تحليل نفسه وفهم محتواها.

لاحظ يونج أن جميع تلك المشاهد والرموز والخيالات يمكن تصنيفها إلى مجموعات متشابهة من الأفكار، ترمز كل واحدة منها إلى "قيمة" محددة أو نمطًا واضحًا. أطلق يونج على هذه الأنماط اسم Archetypes - الذي لا يزال المترجمون العرب يبحثون له عن مقابل في العربية، ولعل المصطلح الغالب في المراجع العربية الذي يقابل كلمة archetype هو "النموذج الأصلي"، أو "النموذج البدائي". إن فهم الفكرة هنا - في اعتقادي - أهم بكثير من محاولة نحت مصطلح عربي يقابل في المعنى مصطلح archetype؛ فهذه الكلمة في الأصل مركبة ولها أكثر من جذر، كما أن لها تاريخًا سبَرهُ يونج وقلّب صفحاته طويلًا قبل أن يستقر رأيه على استخدام المصطلح واعتماده - وهذا مما لا يتسع المجال للخوض فيه. ولمحاولة فهم الفكرة وتقريب المعنى - ربما لا يضير أن نُذكّر هنا بنظرية المُثُل لأفلاطون، التي يذكرها يونج عَرَضًا أثناء شرحه لهذا المصطلح، مع أنني شخصيًا أرى أنها تتقاطع تمامًا مع نظرية "النماذج الأصلية" هذه. فمثلما يُفرّق أفلاطون بين العالم المادي والحسي والمتغير والوهمي الذي نعيشه، والآخر غير الحسي والحقيقي والثابت الذي سبقه، والذي يستقي منه عالمُنا قيَمه، نجد أن يونج يتصور حيّزًا نفسيًا يقع خارج وعي الإنسان - أسماه اللاوعي الجمعي - يحتوي على النماذج الأصلية لسلوك النفس البشرية - الخيّر منها والشرير-، ثم يتصور حيزًا نفسيًا آخر هو الوعي الذي تُسيّره الحواس والغرائز. ويرى أن حياة الإنسان ليست سوى محاولة للتواصل بين هذين العالمين، لغرض الارتقاء والتسامي، أو التصالح مع الذات الحقيقية على أقل تقدير. وأن هذا التواصل يحدث - في الأصل - بطريقة طبيعية خلال حياة الإنسان، الذي يصبح في سنوات عمره الأخيرة أكثر حكمة واستقرارًا، أي أكثر قربًا من المطلق. لكن هذا التواصل - الطبيعي والمختلف في عمقه وتسارعه من شخص لآخر - يمكن أن يكون أسرع وأكثر عمقًا وتأثيرًا إذا ما مهد الإنسان الطرق التي تصل بين هذين العالمين. ولعل أهم هذه الطرق وأوسعها هي الأحلام.

في ذات السياق، لابد من التذكير بأن كارل يونج - وهو العالم الملتزم قدر الإمكان بالمنهج العلمي في البحث - كان طوال حياته يصارع رغبة داخلية مُلحّة تدعوه إلى الانفلات من الحدود الضيقة والجامدة للعلوم التطبيقية، التي لا تعترف إلا بما تثبته التجارب المعملية. وقد كلفته مغامراته غير العلمية الكثير في بداية حياته البحثية، فقد تخلى عنه كثير من العلماء - أولهم فرويد - كما خسر بعض مناصبه القيادية التي أسندتها إليه تلك الدائرة الضيقة منهم. لكن ذلك لم يُغير في منهجه البحثي الذي كان يعتمد على التوسع في الزمان والمكان، وعلى تضمين كافة المتغيرات لتأكيد أو نفي فكرة ما؛ على عكس المنهج العلمي البحت الذي يعتمد عادة على تضييق دائرة المتغيرات، وتحديد المُدخلات، والمبالغة في ضبط بيئة التجربة العلمية. كان يونج عالمًا عرفانيًّا (وهذا موضوع لمقال آخر، ربما!)، تسكنه رغبة، ويقوده شغف إلى معرفة ذاته أولًا، والاقتراب عبر هذه المعرفة - وليس عبر ممارسة الشعائر الدينية المسيحية - من سر الوجود الأعظم. ولذا فإنني شخصيًا أعتقد أن نظرية "الأنماط البدائية" هي طريقة يونج "العلمية" في معالجة مسألة فلسفية - أو ربما دينية - تتعلق بسمو النفس البشرية - أو على الأقل إمكانية هذا السموّ - المستمد من القرب اللصيق من النبع الخالد والثابت والمطلق لجميع القيَم.. من الرب الخالق. وقد عبّر يونج عن ذلك بوضوح عندما سأله الصحفي البريطاني ذات مقابلة: هل تؤمن بالله؟ فأجاب: "لا حاجة لي إلى الإيمان، أنا أعرف".