أفكار وآراء

خير الدين حسيب: الرجل الذي آمن بالوحدة العربية

29 مارس 2021
29 مارس 2021

زاهر بن حارث المحروقي

وأنا أقرأ خبر رحيل المفكر العربي خير الدين حسيب، الذي رحل عن دنيانا يوم الجمعة الثاني عشر من مارس 2021، تذكرتُ الحرارة التي تحدّث بها أستاذنا أحمد الفلاحي أكثر من مرة عن الراحل، عندما سنحت له الفرصة أن يرافقه في جولة إلى ولايتي الرستاق وصحار، امتدت ساعات طويلة، دار بينهما حديثٌ ممتد ومتشعب عن قضايا كثيرة تخص العروبة، ومركز دراسات الوحدة العربية الذي أنشأه حسيب. وكثيرًا ما عبّر الفلاحي عن فرحته بتلك الفرصة التي جمعته مع الراحل، الذي عمل محاضرًا في جامعة بغداد في الستينيات والسبعينيات، وشغل بعدها منصب محافظ البنك المركزي العراقي بدرجة وزير، وأصبح في الوقت نفسه رئيسًا للمؤسسة الاقتصادية العامة في العراق، التي أشرفت على جميع الأنشطة الاقتصادية بعد تأميم المشاريع الكبرى، وهو الذي أعدّ الدراسة التي اعتُمدت في عملية تأميم النفط بالعراق. ورغم أنّ د. حسيب لم يكن على خلاف فكري مع التيار الحاكم في العراق، إلا أنّ هذا لم يمنع من دخوله السجن عام 1968 لمدة تسعة أشهر، متنقلا بين أربعة سجون، ذاق خلالها أصنافًا من التعذيب، لكن تصميمه وصلابته جعلتهما يتحمل كلَّ الآلام. وبعد خروجه من السجن عاد إلى التدريس في جامعة بغداد، لكن السلطة العراقية ضيّقت عليه الخناق، فانتقل إلى بيروت عام 1974، وعمل في اللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة، ثم أسهم بعد ذلك بعام في تأسيس أهم مركز دراسات في الوطن العربي هو مركز دراسات الوحدة العربية، بهدف تعميق الوعي العربي بقضايا الأمّة العربية، وبالتحديات التي تواجه الوحدة العربية، وشغل منصب مديره العام ثم رئيس مجلس أمناء المركز إلى شهر سبتمبر 2017، والذي غادره على خلفية أزمة مالية عطلت عمله وأوقفت إصداراته.

يُعَدّ مركز الدراسات العربية، من أعرق مراكز الأبحاث العربية، وهو متخصص - كما يكشف من اسمه - في قضايا الأمة العربية ووحدتها. أصدر أكثر من ألف عنوان في شتى المجالات الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن أكثر من 487 عددا من مجلته الشهرية «المستقبل العربي»، وعشرات الأعداد من المجلات الفصلية العلمية المتخصصة، ونظم عشرات الندوات والمؤتمرات حول قضايا الأمة العربية وعلاقاتها الإقليمية والدولية. ورغم أنّ المركز قد حقق منذ تأسيسه إنجازات رفيعة وضعته على قمة المراكز البحثية العربية المستقلة، وجعلت من إصداراته مرجعًا رئيسيًا للباحثين والمثقفين العرب في شتى القضايا المحورية التي تناولتها هذه الإصدارات، إلا أنّ ذلك لم يحل دون وقوعه في أزمات مالية عانى منها كثيرًا، وهددته بالإغلاق أكثر من مرة. وفي هذا حكى حسيب للأستاذ أحمد الفلاحي، أنّ هناك بعض الأنظمة العربية حاولت أن تدعم مركز دراسات الوحدة العربية بطريقتها الخاصة التي اعتادتها، بأن تضخ الأموال للمركز، شرط أن يكون لهذه الأنظمة دور في إدارة المركز وفي اختيار عناوين وموضوعات الكتب التي تُنشر، إلا أنّ الرفض كان سيد الموقف؛ فقد كان حسيب حريصًا على استقلالية العمل الثقافي والقومي عن الواقع الرسمي العربي، ورسم في استراتيجية العمل القومي مفهومًا للاستقلالية، برفض التبعية لأيِّ نظام عربي كان، كما كان يرفض - حسب الكاتب معن بشور - «سياسة العداء غير المبرر، وذلك عبر الحرص على الموضوعية في المواقف، فينتقد الخطأ حين يقع به المسؤول، ويؤيد الموقف السليم له حين يتخذه»، وهو ما أشار إليه د. حسيب أيضًا في حديثه مع الفلاحي حين سرد له أنّ المركز كان يتابع الأزمة بين عُمان واليمن الجنوبي وقتها، لكنه كان يركز على الجوانب الإيجابية سواء كانت صادرة من اليمن أو من عُمان، رغم أنّ الكثير من المغالطات كانت قد وصلته عن عُمان عمل الفلاحي على تصحيحها له كما قال.

حمل خير الدين حسيب همّ الوحدة العربية، فناقش الموضوع مع عدد من الشخصيات القومية، وكان السؤال حول الطريق إلى الحركة العربية الواحدة، حتى تبلورت فكرة إطلاق المؤتمر القومي العربي عام 1990 «كتجمع من المثقفين والممارسين العرب من مختلف الأقطار العربية ومن أجيال عدة، مقتنعين بأهداف الأمّة العربية، وراغبين في متابعة العمل من أجل تحقيق هذه الأهداف، وإنجاز المشروع الحضاري القومي العربي وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، وتحقيق التفاعل بين الوحدويين العرب»، وتولى موقع أول أمين عام للمؤتمر عام 1991. ويضم المؤتمر اليوم ثمانمائة عضو من نخبة من المثقفين العرب، بمن فيهم المفكرون والكتاب وكبار السياسيين المخضرمين، ومنهم رؤساء دول وحكومات ووزراء ونواب سابقون. وبما أنّ حسيبًا كان لا يؤمن بفصل العروبة عن الإسلام، ويرفض المحاولات التي تضع أحدهما في وجه الآخر، فقد كانت المبادرات التي أطلقها تصب كلها في خدمة الوحدة الشاملة؛ فمثلما ساهم في تأسيس مركز دراسات الوحدة العربية، وساهم في تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، والمنظمة العربية للترجمة، والمنظمة العربية لمكافحة الفساد، كان له أيضا دورٌ فعال في تأسيس المؤتمر القومي الإسلامي، حتى يزيل تلك الثنائية المفتعلة بين الدين الإسلامي والعروبة، وهي النغمة التي ارتفع رنينها كثيرًا في السنوات الأخيرة، بدأت مع ارتفاع المد القومي العربي؛ فكانت هناك أنظمةٌ تتبنى الإسلام السياسي لمواجهة ذلك المد؛ فنتج عن ذلك صراعٌ شارك فيه كثيرون بوعي منهم أو دون وعي، مع إيماني الشديد أنّ الصراع مفتعل، ولا يمكن أن يكون الإسلام قويًا إلا بالعروبة، لاعتبارات كثيرة ليس منها العصبية - كما يظن البعض - فيكفي أن يكون القرآن قد نزل باللغة العربية، ورسولُ الإسلام -صلى الله عليه وآله وسلم- عربي، ولا يمكن أن يُرفع الأذان في قارات الأرض إلا باللغة العربية. (وكثيرًا ما أتساءل مع نفسي: هل لكي أكون مسلمًا حقيقيًا يجب عليّ أن أتنكر لعروبتي؟! لماذا على العربيّ أن يتنكر لعروبته، فيما بقية الأجناس لا تلام عندما تتمسك بلغتها وهويتها وثقافتها وتاريخها وموروثاتها؟!)

كان من نتائج الصراع المفتعل بين العروبة والإسلام، بأن تتراجع العروبة، وأن تظهر مطالبات غريبة وعجيبة، تنادي بالقوميات، وبتأسيس أحزاب لها أهداف انفصالية في الكثير من البلدان العربية، لفصل هذه البلدان عن عروبتها، وهذه الخطوات ما هي إلا مقدمات فقط لإضعاف الإسلام، لذا يُحسب لحسيب جهده في تأسيس المؤتمر القومي الإسلامي حتى يزيل ذلك الالتباس عند البعض.

وإذا كان تأسيس مركز دراسات الوحدة العربية، وما لحقه من منظمات، هو الإنجاز الأكبر للراحل، إلا أنه كإنسان قد تميّز بصفات عظيمة؛ فرغم هجرته إلى بيروت مضطرًا، إلا أنّ وطنه الأصلي (العراق) لم يغب عن باله لحظة واحدة، ولم يحاول أن ينتقم عن فترة الشهور التي قضاها في السجن والمضايقات التي نالته بعد ذلك، مثلما فعل المعارضون العراقيون الذين رجعوا إلى بغداد فوق القاذفات والدبابات الأمريكية، ثم لفظتهم أمريكا ورمتهم في المزابل، بعدما استخدمتهم، كما يلفظ الإنسان محارم الورق بعد استخدامها؛ كان الرجل معارضًا للنظام الحاكم، لكن حين تعرضت بلاده إلى العدوان منذ عام 1991، وإلى الحصار لأكثر من عقد من الزمن، ثم للاحتلال بعد عام 2003، رأى أنّ الوطن أغلى من أيّ اعتبار سياسي، وكان في مقدمة الذين حملوا قضية بلاده على مدى ثلاثين عامًا دون كلل أو ملل، بمعنى أنّ الرجل فرّق بين النظام الحاكم وبين الوطن؛ فالنظام الحاكم يتغيّر، بينما الأوطان تبقى، وهذا درسٌ لكلِّ من يعمل ضد وطنه لحساب غيره.

برحيل خير الدين حسيب، خسرت الساحة العربية فارسًا من فرسانها، آمن برسالة الأمة العربية بعيدًا عن الشعارات، إذ قرن الفكر بالعمل. وإذا كانت الأجيال الجديدة لم تعرفه بعد، ولم تقف على ما بذله من خدمات للأمة، فإنّ عزاءنا الوحيد هو أنّ مثل ذلك الجهد لن يضيع مدى التاريخ.