أفكار وآراء

لماذا الظاهرة الاجتماعية دون غيرها؟

28 مارس 2021
28 مارس 2021

أحمد بن سالم الفلاحي

يأتي الحديث عن الـ "ظاهرة" الاجتماعية، ليس لأنها مثار جدل زمني أو جغرافي، تستنطق الذاكرة للحديث عنها؛ فقط؛ ولكنها فوق ذلك تمثل لنا نحن -بني البشر- الكثير من الاهتمام، والكثير من الآمال الموصلة إلى الغايات الكبار، وكلما كانت الـ "ظاهرة" الاجتماعية حاضرة في ذاكرتنا، أدركنا جوانب كثيرة من حياتنا اليومية، واستحضرنا الكثير من تفاصيل أيامنا التي عشناها، والأيام التي نأمل أن نعيشها بمعززات أفضل، وبقناعات أكثر رضى، فالأيام حبلى بالكثير من التغييرات المفضية إلى كثير مما لا نتوقعه، وربما لا نريده، خاصة إذا كان هذا التغيير يغربنا أكثر عن واقع اجتماعيتنا المحدد جغرافيا، لأن ذلك سينسحب على مفاهيم كثيرة؛ تأتي في مقدمتها الهوية، والقيم، وخصوصية المجتمع، وهذه الصورة أعلاه تستوجب طرح أسئلة جوهرية عدة، منها: هل يمكن النظر إلى الظاهرة الاجتماعية على أنها نتيجة طبيعية لحركة الأفراد ونشاطهم اليومي؟ لماذا تشكل الظاهرة الاجتماعية حديث المجالس؛ وتشغل الذاكرة الجمعية على امتداد الزمن؟ أليس الظواهر الاجتماعية هي نتاج أفعال وممارسات يقوم بها أبناء المجتمع؟ ماذا تعني لنا أن تكون هناك ظاهرة اجتماعية في حالتيها العسر واليسر؟ هل يعبر حدوث الظواهر الاجتماعية عن حركة نشطة في المجتمع؛ وأن المجتمعات الخاملة لا تشهد ظواهر اجتماعية ما؟ وهل تحفزنا الظواهر الاجتماعية؛ أو تستفزنا فتوجد فينا ردات فعل تجاه ما يحدث حولنا؟ تنبري الظاهرة الاجتماعية من بين الظواهر: الاقتصادية، والثقافية، والسياسية، والطبيعية، على أنها الأكثر اهتماما من قبل أفراد المجتمع الإنساني، وهذا يؤكد أن مختلف الظواهر الأخرى التي تحدث هي نتاج تفاعل الظاهرة الاجتماعية في مناخاتها المختلفة، مع القناعة بأن الناس هم من يشكلون هذه الظواهر ويوجدونها من العدم، ومع هذا الاهتمام قد لا تمكث ظواهر اجتماعية بعينها حينا من الدهر، حيث تخلفها ظواهر جديدة، معبرة عن حركة الحياة اليومية، وتدافع البشر بعضهم ببعض، للبحث عن مواطئ جديدة لمسارات حيواتهم اليومية.

تعنى الظاهرة الاجتماعية بكل الأنشطة الإنسانية التي يقوم به، وبكل الإرث الإنساني المنجز، وليست مقصورة بنشاط دون آخر، ولذلك هي تكتسب أهمية كبيرة، ويقاس عليها كل التغييرات والتحولات التي تعيشها الإنسانية في كل بقاع العالم، فالظاهرة الاجتماعية هي ظاهرة كونية على المستوى البشري، وبالتالي فأي تغيير يحدث في جزئياتها الدقيقة يعني ذلك كل فرد منتمي إلى هذه الاجتماعية الواسعة الشاملة من مشرق الأرض إلى مغربها، لا فرق في ذلك لجنس أو لون، أو طائفة، أو مذهب، فالكل متساوون في تقبل نتائج مختلف الممارسات التي تحدث في هذه العولمة، سواء أقام بهذه الممارسات الفرد نفسه، أم جاءت من خارج السياق الاجتماعي؛ كالكوارث الطبيعية؛ مثلا؛ ولذلك تذهب الـ "ظاهرة الاجتماعية" بنا إلى النظر في سلوكيات الأفراد في كل مجتمع في أبعاد هذه السلوكيات التي تنقسم إلى مفترقين متوازيين، سلوكيات تشكل ظواهر إيجابية، وأخرى سلبية، ولا غنى لأي مجتمع أن يعيش كلا الظاهرتين، وإن كانت الظواهر الإيجابية من الظواهر التي يباركها أفراد المجتمع، فإن الظواهر السلبية تبقى الوجه الآخر لاكتمال سلوك أفراد المجتمع، وإن تواجه مقاومة جماعية نسبية معبرة عن رفضها، حتى تعود إلى حظيرة الظاهرة الاجتماعية الإيجابية، ومع ذلك لا ينظر إلى الظواهر السلبية على أنها "مصيبة" فهي نتاج طبيعي لسلوكيات الناس اليومية في المجتمع، وبالتالي فليس فيها من خوف مقلق، وإنما تستدعي دراستها، ومعرفة الأسباب التي أدت إلى ظهورها، وهذا يعكس حيوية أبناء المجتمع وقدرتهم على التفريق بين الخطأ والصواب، فليس كل سلوك معوج، هو مصيبة مطلقة.

تحل العولمة على الظاهرة الاجتماعية فتربكها في كثير من مناخاتها، سواء مناخات القيم المتوارثة، أو في علاقات الوشائج المختلفة، أو في سلوكيات وحركة الناس اليومية المعتادة، وقد يقابل كل ذلك بشيء من الاستحسان؛ من قبل الفئة الشابة، كما يقابل ذلك بكثير من الاستهجان؛ من قبل كبار السن، الذين يرون في أي خروج عن ما هو معتاد، هو خروج عن الأصل، وهذا أمر متوقع، لأن كل جيل ينتصر لأدواته، وإنجازاته، حيث يدخل عنصر صراع الأجيال بقوة في الظاهرة الاجتماعية، وهو صراع له ما يبرره، حيث إن كل جيل ينتصر لأدوات عصره، وليس هناك من مخافة مقلقة تجاه أي سلوك يرى فيه الطرف الآخر أنه تهديد لوجوده، ولا ينبغي النظر إليه بهذه الصورة التشاؤمية، لأن محطاتنا اليومية قائمة على الخطأ والصواب، فليس هناك خطأ بالمطلق، كما أنه ليس هناك صواب بالمطلق، وهذه المراوحة بين الخطأ والصواب، هي مراوحة مقبولة، ومقدرة، ولا يفترض أن تقلق المتابع لها، ولا يجب أن تفسر على أنها انتصار للذات الفردية فقط، بل إنها؛ وبكل اعتزاز؛ تعبر عن طموحات وآمال، وحرص كبير من أبناء المجتمع على السعي الدائم نحو الصلاح، وهذا الصلاح لن يتحقق إلا من خلال الوقوع في براثن الفساد، وإلا كيف يصلح ما هو غير فاسد؟ مع أن العولمة؛ ربما؛ لم تسم بمسماها الدقيق هذا في الماضي، ولكنها هي حالة إنسانية مستمرة، وأكاد أجزم؛ أنها لن تكون مرتبطة بعصر دون آخر، أو جيل دون آخر، كذلك، فهي سنة كونية مستمرة، ربما تتغير الأدوات المستخدمة في كل عصر على حدة، وتترقى الوسائل المؤثرة في سرعة شموليتها، ولكنها تبقى النتيجة واحدة، وهي: أن هناك تغيرا، وأن هناك تبدلا، وأن هناك تطورا، وأن هناك إرباكا للقيم، والثوابت، وأن هناك تعارضا للمسلمات، وأن هناك إلغاء لكثير من المعتقدات والتابوهات، وأن هناك صراعا قائما بين الأجيال التي تتناوب في استلام بداية محددات العولمة وشروطها، ومن ثم نتائجها، ويحدث ذلك كله – كما يعتقد البعض – أنه لم تهيأ البنى الأساسية لأي مكون اجتماعي قابل للتغيير، مع أن كل أنشطة الإنسان قائمة على تجربة الخطأ والصواب، لأن الغد حالة غير مستحضرة في وقتها الحاضر بالدقة المتناهية، فهناك عوامل كثيرة تحدث، بعضها من صنع الإنسان، وبعضها الآخر خارج عن إرادته المحدودة، مع الحرص على وضع التصورات المستقبلية فيما يعرف بالاستراتيجيات والبرامج، وحتى يعفي صانع القرار نفسه من مغبة الوقوع في مأزق الأحداث الجسيمة، والمتسببة في أضرار كثيرة، كان من الممكن الحد من تأثيراتها الكارثية.

ينحاز الأفراد نحو مجتمعاتهم الصغيرة، مهما كانت المفارقة موضوعية بين الطرفين، وهذا شعور فطري، يذهب بالفرد إلى ضرورة الإحساس بأن له انتماء "هويّاتيا" وأنه بغير هذا الانتماء لن تكون له أية أهمية اجتماعية، أو فردية، ولذلك يحمل كل منا مجتمعه أينما حل وارتحل، حتى ولو ساقه الاغتراب لأن يبتعد عن مجتمعه الصغير عشرات من السنين، فإنه يظل على حنين دائم لمجتمعه، وأنه في يومه وليله يمني النفس بأنه عائد عائد، ولو بعد حين، فهذا النداء الداخلي الـ "مؤرق" هو انبعاث شعور فطري، ليس للإنسان فيه يد؛ سواء في مقاومته، أو في تهيجه، أو إطلالته اليومية على الذات، حتى ولو كان هذا الفرد يعيش في مجتمعه البديل، وقد توفر له كل مقومات الحياة الرفاهية، سيظل مأسورا نحو قيمه الاجتماعية، وسلوكيات مجتمعه البعيد، ومن هنا يمكن القول أن الـ "ظاهرة الاجتماعية" متموضعة في أعماقنا أينما كنا، أو حللنا.

يمكن النظر؛ وفق الـ "ظاهرة الاجتماعية" التي نتحدث عنها هنا، إلى أن كل المجتمعات تحتوي بين مكوناتها الإنسانية؛ جمهورين: الأول؛ جمهور خاص، والثاني؛ جمهور عام، وكلا الجمهورين محط أنظار، ويحظيان بالاهتمام، والعناية والرعاية، ويمكن قياس هذا الأمر حتى على مستوى الأسرة الواحدة، فهناك جمهور خاص بالأسرة، وهم مجموعة الأفراد المكونين لها، من الآباء والأمهات والبنين، والأحفاد، أما جمهور هذه الأسرة الخارجي، فهم مجموعة الناس الذين لا يمتون للأسرة بأي صلة كانت، ولكن يبقى له ارتباط عام، قد ينزله البعض منا إلى الارتباط الخاص، وذلك امتثالا لهذا الحنين الاجتماعي المسكون بين حشايانا، ولا نستطيع أن ننفك عنه "قيد أنملة".