أفكار وآراء

هل تشهد سوريا انفراجا مشابها لما حدث في ليبيا؟

27 مارس 2021
27 مارس 2021

د. عبد العاطي محمد

بدأت ليبيا العام الحادي عشر من أزمتها السياسية بانفراجة مهمة تمثلت في إيجاد مجلس رئاسي وحكومة وحدة وطنية لقيت ثقة من البرلمان وأدى أعضاؤها اليمين الدستورية وتحركت عجلة التسوية السياسة، وبالمقابل فإن أزمة مشابهة إلى حد كبير في سوريا من حيث الزمن والموضوع والخلافات ظلت على حالها من حيث النتائج، وسط مؤشرات على أنها مرشحة لأن تمضي في نفس الطريق لتضع نهاية لأزمة فاقت كل التصورات من حيث الخسائر المادية والبشرية في الزمن العربي المعاصر.

ويثير التباين في وضعية الأزمتين، التساؤل حول الأسباب التي دفعت إلى تحقيق الانفراج ولو نسبيا في المشهد الليبي، بينما لا يزال المشهد السوري على حاله من حيث تأخر الوصول لنتائج مشجعة للمسار السياسي الذى بدأ منذ عشر سنوات. كما يثير التساؤل من جهة أخرى حول مدى إمكانية أن يتكرر في الأزمة السورية الطريق الذى اتخذته الأزمة الليبية وقادها إلى الحل الانتقالي، ومن جهة ثالثة إلى أي حد يظل الافتراض بأهمية تلاقي مصالح القوى المحلية أو الوطنية مع مصالح القوى الخارجية مما يؤدي إلى انفراج الأزمات التي من هذا النوع، وذلك على ضوء ما حدث بالنسبة للأزمة الليبية.

ما يدعو إلى المقارنة أن هناك أوجه تشابه بين الأزمتين تبرر إلى حد كبير مشروعية إجراء المقارنة، وفي نفس الوقت هناك أوجه اختلاف تفسر الانفراج في إحداهما والتعثر في الأخرى. فالمعلوم للكافة أن كلا البلدين تعرض لموجة تغيير حادة فيما يسمى بالربيع العربي هدفت إلى تغيير النظام السياسي القائم، ونتيجة له دخل كل منهما في مرحلة من عدم الاستقرار والفوضى والعنف وتدهور الأحوال الاقتصادية والمعيشية وعانى من الإرهاب والتدخلات الخارجية وأصبح في بعض الأوقات مكانا لوقوع ما يسمى بالحرب بالوكالة، كما انفرط عقد الوحدة الداخلية وانشق المجتمع هنا وهناك إلى جماعات شتى تتقاتل مع بعضها البعض أو تختلف سياسيا إلى حد الاستقطاب العصى على الانفكاك، هذا ناهيك بالطبع عن الاهتمام الدولي بكل التطورات في كل منهما والعمل من جانب المجتمع الدولي ممثلا في الأمم المتحدة أو القوى الكبرى في مجلس الأمن على دفع الأزمة في كل منهما إلى الحل السياسي الذى يحظى بتوافق القوى المحلية المتنازعة. وظل جوهر الحل السياسي هو التوصل إلى صيغة جديدة للسلطة أو بناء نظام سياسي جديد.

وبالمقابل كانت هناك أوجه اختلاف جوهرية في وضعية الأزمتين. فمن ناحية أولى أدت موجة التغيير إلى سرعة إسقاط النظام القديم في ليبيا، بينما لم تنجح في إسقاط النظام القديم في سوريا الذى تمكن بمرور الوقت بمساعدة أطراف خارجية من استعادة السيطرة على حوالي 70% من الأراضي السورية، وحافظ على بنيته السياسية سواء من حيث تماسكه الداخلي أو توفير القاعدة الشعبية المؤازرة له. وبناء عليه تركزت أزمة السلطة في وجود معارضة سياسية ومسلحة للنظام في سوريا، بينما لم يحدث هذا في ليبيا لأنه لم تعد هناك سلطة من الأصل حيث قادت ظروف الحالة الليبية إلى وجود فراغ سياسي انتهى إلى وجود سلطتين من حيث الواقع أحدهما في الشرق وأخرى في الغرب (تنفيذية وتشريعية). وظهرت مشكلة الأمن بشكل أكثر حدة وخطورة في سوريا قياسا على الحالة الليبية، فقد تشكلت جماعات مسلحة منظمة وقوية وتموضعت في مناطق شتى بسوريا واختلفت أكثر ما اتفقت مع القوى السياسية الوليدة التي خاضت معركة تغيير النظام في البلاد، بينما جاء الوضع مختلفا في ليبيا حيث تشكلت جماعات مسلحة عديدة مختلفة المقاصد والأهداف والتحالفات مع الداخل والخارج تركزت في الغرب الليبي يقابلها جيش منظم في الشرق يسعى إلى القضاء عليها ويفرض كلمته على أي جهود لاستعادة الاستقرار أو التوصل إلى الحل السلمي، وبالطبع كان اختفاء الأمن، ولا يزال، عنوانا للأوضاع في كلا البلدين خصوصا مع ارتباط اختفائه بظهور الجماعات الإرهابية، ولكن حدته وقوة تأثيره كانت أشد في الحالة السورية من الليبية بسبب بقاء نظام حاكم يملك قدرات عسكرية كبيرة، ودعم أطراف خارجية له وتحديدا من روسيا التي استطاعت عام 2015 أن تتدخل بوضوح وتنقذه من الانهيار بعد أن تعرض لذلك إثر النجاحات العسكرية التي حققتها الجماعات المسلحة المعارضة، هذا من ناحية، وتواجد جماعات إرهابية عديدة ذات إمكانيات مسلحة مؤثرة (عناصر منها منشقة عن الجيش السورى) فرضت نفوذها في تطورات الأزمة. ومن ناحية ثانية ظل الدور الخارجي أكثر تأثيرا في مجريات الأحداث في سوريا سواء كان عسكريا أو سياسا، بينما لم يكن بنفس القدر في الحالة الليبية التي لم يظهر فيها بقوة إلا في وقت قريب، ربما لأن إمكانيات التدخل كانت أسهل في الحالة السورية مقارنة بالحالة الليبية، حيث كانت لها جذورها القائمة قبل حدوث موجة التغيير، بينما لم تكن كذلك في الحالة الليبية. فالمعلوم للكافة أيضا أن الوضع الجيوسياسي لسوريا أي الأبعاد السياسية المرتبطة بالوضع الجغرافي للبلاد كان يسمح سواء للنظام القديم أو المعارضة سياسية كانت أم مسلحة بالحصول على الدعم من الخارج، وأما في ليبيا فإن ذات الوضع كان يعوق التدخل الخارجي السريع والسهل، فلم تكن هناك سلطة قوية ملأت الفراغ بعد سقوط النظام القديم بل كانت هناك سلطتان على أرض الواقع، بالإضافة إلى تركيبة الشعب الليبي القبلية وحساسيته الشديدة لأسباب تاريخية لأى تدخلات خارجية.

وبرغم أوجه الاختلاف في وضعية الأزمتين، أشارت النتائج في نهاية المطاف الطويل إلى أن التدخل الخارجي استطاع أن يحقق نجاحا ملفتا في الأزمة الليبية بينما لا يزال يبحث عن مخرج للأزمة في سوريا. وحدث هذا برغم أن الحل السياسي المطروح لكل منهما عناصره واحدة إلى حد كبير. فقرار مجلس الأمن بشأن سوريا رقم 2254 الصادر في 18 ديسمبر 2015، تضمن عدة عناصر هي، أن المحادثات هي السبيل لحل الأزمة، وإجراء عملية سياسية تقود لحكم ذي مصداقية تمثل جميع الأطراف، وتحقيق انتقال سياسي برعاية أممية، وصياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات نزيهة برعاية دولية، ووقف الهجمات ضد المدنيين، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية، وحث القرار جميع الدول الأعضاء على دعم الجهود المبذولة لتحقيق وقف إطلاق النار. ومن السهل ملاحظة أن معظم هذه العناصر هو ما تم الاستناد إليه في حل الأزمة السياسية في ليبيا، أي هو نفس المسار. فلماذا تعثر إذن في سوريا ونجح في ليبيا؟. هنا تتضح أهمية التلاقي في الرؤى والمصالح بين الطرفين الخارجي من ناحية، والوطني أو المحلى من ناحية أخرى.

لقد كانت العقبة الأساس التي أطالت أمد الأزمة هي الاستمرار في تبادل إطلاق النار بين قوات الجيش السوري وقوات الجماعات المسلحة وخصوصا المتطرفة منها، وكذلك بين قوات الشرق الليبي وقوات حكومة الوفاق والجماعات المسلحة في الغرب. ومع أن كلا الأزمتين شهدتا جهودا عديدة لتفعيل الحل السياسي السلمى، إلا أن هذه الجهود كانت تتحطم تباعا بسب العجز في وقف إطلاق النار. وعندما تمكنت الأطراف الدولية والإقليمية، عبر توحد إراداتها وتصميمها على وضع نهاية للنزاع في مؤتمر برلين ثم في مؤتمرات جنيف، من تفعيل وقف إطلاق النار في ليبيا، انفرجت الأزمة بانفتاح القوى المحلية على تقبل صيغة سياسية لحل الأزمة، وهو ما تم بالفعل. وفي الحالة السورية لم يحدث هذا الإنجاز مثلما حدث في الحالة الليبية. ومن ملاحظة نص القرار 2254 لم يتضح الإصرار الدولي على الإسراع بتحقيق وقف إطلاق النار. ويرجع ذلك إلى عدم الاتفاق دوليا وإقليميا واقعيا على استبعاد الحل العسكري على عكس ما يقال ظاهريا، لأسباب تتعلق بظروف الصراع الخارجي والإقليمي على النفوذ في سوريا، ولأن جانبا كبيرا من الأزمة على الصعيد المحلى اتخذ طابع المواجهة مع الإرهاب، مما جعل الباب مفتوحا أمام استمرار المواجهات المسلحة، بينما لم يتخذ النزاع هذا الطابع في الحالة الليبية. ومن الصحيح أن الوضع الليبي شهد نفس المشكلة، أي المواجهة مع الإرهاب، ولكن هيمن عليه بالدرجة الأولى الصراع على السلطة وسط توجهات أيديولوجية وسياسية مختلفة.

ولمزيد من التوضيح فإن تفسير المقصود بالتلاقي المذكور يمكن القول إن الأطراف المعنية في الحالة الليبية خارجية كانت أم محلية توصلت إلى اقتناع لا رجعة فيه بأن الحل العسكري غير مجدى لأى منها، ولنا أن نتذكر في هذا الصدد أهمية اعتبار خط سرت - الجفرة خطا أحمر. وبالمقابل تحقق الاقتناع المضاد عند الجميع أيضا بأن التوافق عبر الحوار هو الذى يحقق مصالح كل منها خصوصا بالنسبة للأطراف الليبية. ومن متابعة التطورات الأخيرة في المشهد السوري فإنها تشير إلى أنه بدأ يتأثر إيجابيا بما تحقق في ليبيا، أي تسعى أطرافه المؤثرة إلى تبني نفس المسار تقريبا على أرض الواقع، وفي أقل الحالات تطبق جانبا منه. ففي خلال الأيام القليلة الماضية بدت في الأفق مؤشرات على التقدم تجاه الحل السياسي في سوريا بالتركيز أساسا على النجاح في وقف المواجهات المسلحة أو تفعيل وقف إطلاق النار، وقد أشار إلى ذلك غير بيدرسون المبعوث الأممي إلى سوريا معلقا على أخر التطورات عندما قال: "إنها المرة الأولى التي لم تتغير فيها خطوط المواجهة في سوريا مما يعد فرصة نادرة يتعين استغلالها". ومن جهة أخرى ظهرت جهود سياسية جديدة تعكس تقارب المواقف على الصعيد الخارجي من شأنها المساعدة للمسار السياسي القائم منذ سنوات، وظهر ذلك من خلال اتصالات ولقاءات جمعت أطرافا دولية وإقليمية مؤثرة في المشهد السوري هي روسيا والسعودية والإمارات وقطر وتركيا هدفت إلى دعم عمل اللجنة الدستورية السورية دون أي تدخل خارجي والعمل على عودة سوريا إلى الجامعة العربية . هكذا تتكرر بعض الخطوات التي ثبت نجاحها في الحالة الليبية مثل وقف إطلاق النار، وتعزيز الإرادة الدولية والإقليمية الهادفة إلى تحقيق الحل السياسي. ولكن تبقى خطوات أخرى لم تتحقق. ولكى يكتمل هذا الاختراق يتعين أن تقتنع الأطراف المحلية بأن الحل العسكري لم يعد مفيدا لها أو فرصه باتت ضيقة وأنها تستطيع أن تحقق مصالحها عبر الحل السياسي المطروح وأبرز خطواته الراهنة عمل اللجنة الدستورية.