أفكار وآراء

الثقافة في صناعات المعرفة

27 مارس 2021
27 مارس 2021

د.عائشة الدرمكي

في مؤتمر (هانغجو الدولي) في الصين الذي عقدته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) بعنوان (الثقافة مفتاح التنمية المستدامة)، أوصى المشاركون في ختامه بأن "يُدرج هدف محدد يركز على الثقافة في خطة الأمم المتحدة للتنمية لما بعد 2015". إلا أن المنظمة لم تُفرد هدفا خاصا بالثقافة، من بين أهداف خطتها التنموية المستدامة 2030 السبع عشرة، على الرغم من اهتمامها الكبير بالثقافة والاعتراف بدورها الفاعل وأثرها في تنمية بلدان العالم.

فاليونسكو اعتمدت على "دمج الثقافة بوصفها عنصرا ممكِّنا ومحرِّكا للتنمية المستدامة" – بحسب تقرير الثقافة والتنمية المستدامة - في خطتها التنموية؛ انطلاقا من قدرة الثقافة بتنوعها وإثرائها الحضاري على التأثير في تطوير آفاق التنمية البشرية، وبالتالي تنويع مصادر الابتكار والإبداع، انطلاقا من ممكنات الهُوية الوطنية للمجتمعات، وبالتالي تُعد الثقافة (موردا) أساسيا لتحقيق الأهداف الإنمائية.

ولأن الثقافة أساس ومورد محرِّك للتنمية المستدامة فقد وجب إدماجها في أهداف التنمية من خلال إيجاد سياسات واضحة واستراتيجيات تُبرز دورها في التنمية الاجتماعية والتربوية والبيئية والاقتصادية، وبالتالي قدرتها على تلبية احتياجات التنمية المستدامة للمجتمع. ولهذا فإننا في عُمان نُعد الأوفر حظا عندما كُنَّا شركاء – وما زلنا – في إعداد رؤية عمان 2040، والأوفر حظا بأن تكون الثقافة إحدى ركائز هذه الرؤية، لتكون قاطرة نحو (مجتمع المعرفة) باقتصاداته و آفاقه الإبداعية الرحبة.

إن دور الثقافة في مجتمع المعرفة يُعد من الأسس التي ينبغي علينا دراستها على المستويين الاجتماعي والاقتصادي؛ ذلك لأن الثقافة اليوم في ظل التوجهات العالمية تدخل ضمن معدلات النمو الاقتصادي للدول الحديثة، مما يعني أن معادلات القطاع الاقتصادي تتغير سواء في عمليات التصميم أو الإنتاج ضمن معطيات رأس المال المعرفي وإنتاجات الإبداع والابتكار الإلكتروني والصناعات المرتبطة به. إنها معايير تنموية تتأسس على التنمية الثقافية المتغيرة بفعل التواصل المعرفي وتطورات التنمية البشرية المتسارعة بفضل التطور التقني والانفتاح.

يقدم التقرير العربي السادس للتنمية الثقافية الصادر عن مؤسسة الفكر العربي بعنوان (الاقتصاد العربي القائم على المعرفة)، تفصيلات مهمة عن دور الثقافة في التوجه أو التحوُّل نحو مجتمع المعرفة باعتبارها أساسا تنمويا في هذا المجتمع؛ حيث يقدم التقرير مقترحات عديدة عن تلك التغيرات الاجتماعية والثقافية الواجب تأسيسها في عمليات التحوُّل تلك، بالإضافة إلى تغيرات في التكامل الوطني والإقليمي والعالمي على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، الأمر الذي استفادت منه الدول المتقدمة في تشييد (البنى التحتية للمعلومات باستعمال ما يسمى طرق المعلومات السريعة)- بحسب التقرير – مما يؤسس لتغييرات حتى في الاحتياجات الاجتماعية والعمرانية تحت مظلة ما يُسمى بالمدن أو القرى الذكية.

لقد خصص هذا التقرير دراسات مستفيضة للصناعات الثقافية والمعرفية في عدد من الدول منها الخليج العربي ومصر والمشرق العربي والمغرب العربي مقارنة بدول العالم، وما يهمنا هنا هو واقع الصناعات الثقافية في عُمان؛ حيث يكشف التقرير ارتفاع واردات السلع والخدمات الثقافية غير الإبداعية مقارنة بالصادرات، في حين أن السلطنة تأتي بين المرتبتين الرابعة أو الثالثة بين دول مجلس التعاون في مؤشر المنافسة في مجال مقومات السياحة الثقافية، وحجم العائدات الإعلانية في الوسائل المختلفة، باعتبارهما مؤشرين يمكن القياس عليهما في غياب المؤشرات الثقافية الأخرى، مما يعني أن المردود الاقتصادي لقطاع الثقافة ما زال يحتاج إلى دعم وتعزيز، الأمر الذي يكشف أن هذا القطاع على أهميته ما زال بعيدا عن مرأى الخطط الإنمائية التي تنظر إليه باعتباره قطاعا حيويا يمكن استثماره.

فعلى الرغم من الإمكانات التي تتميز بها السلطنة والجهود المبذولة في تحقيق معدلات النمو الاقتصادي المتعلقة بقطاع الإعلام والسياحة والاستثمار في التراث الثقافي من خلال الصناعات الحرفية المتعددة، إلا أن هناك تحديات كبرى تواجه الصناعات الإبداعية في مختلف مجالات الثقافة سواء في الفنون أو الآداب أو التراث أو السياحة أو الإعلام أو غير ذلك. ولهذا فإن الحاجة إلى تعظيم دور الاستثمار في الصناعات الثقافية أصبح ضرورة ملحة تقتضيها المرحلة التنموية المهمة من عمر النهضة الحديثة المتجددة المتطلعة إلى مجتمع المعرفة.

إن إيجاد استراتيجية وطنية لدعم الصناعات الثقافية بالشراكة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني أمر له أبعاده التنموية في تعظيم هذا الدور؛ ذلك لأن الجهود التي تقوم بها المؤسسات الثقافية على أهميتها تحتاج إلى تأسيس مبادرات وطنية لفرص الاستثمار الثقافي وإيجاد حلول مبتكرة لتمويل هذه المبادرات اعتمادا على ما تقدمه التكنولوجيا والتقنيات الحديثة من مجالات ابتكارية واسعة النطاق، تعمل في الأصل على المعلومات وما توفره الثقافة من إمكانات في مجالاتها المختلفة.

ولأن الثقافة ركيزة التنمية من ناحية، وموردٌ لتأسيس مجتمع المعرفة من ناحية أخرى، فإن التوجه إلى استثمار مواردها بما يدعم اقتصاد الدولة يُعد من الضرورات، ذلك لأن الثقافة بعد أن كانت "تدخل في معادلة النمو الاقتصادي كعامل خارجي أصبحت الآن عاملا داخليا" – بحسب تقرير مؤسسة الفكر العربي. الأمر الذي يكشف عن قدرة هذا القطاع الحيوي على الدفع باقتصادات الدولة، ولهذا فإن الالتفات إلى الاستثمار في هذا القطاع من قِبل المؤسسات الاقتصادية في السلطنة وعلى رأسها جهاز الاستثمار وبنك التنمية وغيرها، مع إيجاد آفاق وتسهيلات لدعم الشركات خاصة الصغيرة والمتوسطة سيفتح مجالات الإبداع والابتكار وبالتالي الاستثمار، وتوليد فرص العمل للشباب سواء للمبدعين أو المساعدين والمساندين ضمن قطاع التنمية الصناعية الإبداعية.

ذكرت اليونسكو في تقريرها الخاص بـ (الثقافة والتنمية المستدامة)، أنه من خلال تحليلات لمجموع (42) دولة في مجال الاستثمار في الصناعات الإبداعية بلغت "مساهمة القطاع الإبداعي في الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط 5.18 %، وقد ولَّد هذا القطاع فرصا للعمل بلغت نسبتها 5.35%"، الأمر الذي يبرهن على أهمية قطاع الثقافة بوصفه (قوة دافعة)، وركيزة تنموية تسهم في دفع الاقتصاد الوطني وتشغيل الكوادر الشبابية. ولعل تلك الفرص الاستثمارية التي توفرها الثقافية في عُمان بما لها من خصوصية حضارية وتنوع وثراء، تقدم للقطاعات الصناعية والتقنية إمكانات هائلة للعمل والإبداع سواء في المجالات البصرية أو الصوتية أو الطباعة والنشر وغيرها.

إن الاستثمار في الثقافة يُقدم الخيارات الآمنة في ظل المتغيرات الاقتصادية التي تعتمد على أسعار النفط أو تلك المرتبطة بالمتغيرات الصحية والبيئية المختلفة، فالثقافات الوطنية تمتلك قدرات هائلة وفرصا للاستثمار والابتكار تفوق قطاعات أخرى، وبالتالي فإننا بحاجة إلى وجود خطة وطنية اقتصادية تقوم على استثمار مواد الثقافة وزيادة القدرة التنافسية للصناعات الثقافية بما يعزز كفاءة الإنتاج والابتكار والإبداع الثقافي، ويدعم الهُوية الوطنية للمنتج الثقافي العماني، الذي يركز على العادات والتقاليد والفنون وغيرها من ركائز تلك الهُوية، وبالتالي يُنتج علامات تجارية منافسة ليس على المستوى الوطني وحسب بل أيضا على المستوى الإقليمي والعالمي، الأمر الذي سيحقق أهداف التنمية الوطنية التي تسعى إليها رؤية عمان.

ولهذا فإننا من خلال هذه المساحة الأسبوعية سنقوم بمناقشة مجالات قطاع الثقافة التنموية والفرص الاستثمارية المتاحة في كل مجال من تلك المجالات، وما تمتلكه السلطنة من ثراء وإمكانات حضارية من ناحية وإمكانات بشرية إبداعية من ناحية أخرى، تؤهلها للدور القيادي في مجال الصناعات الإبداعية الذي خططت له رؤية عُمان 2040.