أفكار وآراء

في التحديث والاجتماع السياسي

24 مارس 2021
24 مارس 2021

محمد جميل -

بعد انقطاع التجربة الحضارية لإسهام المجتمعات المسلمة في تدبير اجتماعها السياسي، أصبح واقع الاستبداد في المنطقة العربية ينعكس في تعبيرات السلطة العارية أو شوكة المتغلب كما كان يطلق عليها في أدبيات الفقه.

لكن هذا الاجتماع الهش، وإن بدا مضطربا، كان لا ينطوي على أي تفكير متطور في النظام، والأخطر من ذلك، انه كان عاجزا تماما عن لجم حراك البدو خارج المدن وما تعكسه طبيعة الحياة البدوية من حراك لا يخلو من فوضى.

مع حركة المد الاستعماري، الذي أسس الشكل الحديث للاجتماع السياسي في ديار المسلمين، فيما ما يعرف بـ(الدولة - الأمة) التي أصبحت هي هوية الاجتماع البشري في إعادة تعريف المواطن كفرد وليس كجزء من قبيلة.

لكن ما واجهته بعض الدول الاستعمارية عند احتلالها لمناطق كانت شبه صحراوية وبعيدة، مثل السودان، عندما احتله البريطانيون، كانت مصاعب تدبير الاجتماع السياسي للوحدات القبلية غاية في الصعوبة نظرا لأن نظام القبائل كان تقريبا هو الشكل المتوارث لآلاف السنين في انتظام تام وتماهٍ فاعل مع إيقاع الحياة وطبيعتها.

وكان على الإنجليز مواجهة تحديات تنظيم الدولة التي اقتضت منهم درس النظم الاجتماعية للقبائل ودلالاتها الرمزية وطرق الحكم التقليدية من أجل قوننتها وإعادة إنتاجها في نظام أهلي يكون أكثر اتساقا ومرونةً مع متطلبات الدولة الحديثة وصولا إلى نقطة في مشوار التحديث يصبح معها الاستغناء عن نظام الإدارة الأهلية مسألة وقت.

والملاحظ أن ما نظمه الإنجليز من قانون للإدارة الأهلية بعد أن درسوا بعض القبائل السودانية كقبائل النوبة والبجا، أنهم نجحوا في تسكين الكثير من المشاكل التي كانت يمكن أن تعيق الانتقال الحضري وبناء هياكل الدولة. فقد كان لاشتغال الإنجليز على إحكام قانون الإدارة الأهلية أن عمل بكفاءة لقيت تفاعلا إيجابيا ناجحا مع القانون من قبل المجموعات القبلية، مما أدى لاستتباب الأمن بصورة عامة في البوادي ومناطق القبائل خلال الفترة الحاسمة في مراحل الانتقال الراديكالي من البوادي إلى هوية الاجتماع الحضري والسياسي الذي كان يشهده السودان.

وكان جزءا مهما من ذلك الإصلاح الذي صممه الإنجليز لقانون الإدارة الأهلية من أجل حكم البلاد يصب على المدى الطويل، في مصلحة استقرار الحكومات الوطنية التي جاءت بعد الاستقلال.

لقد أحدثت هيبة التغيير الحضري لأحوال المجتمعات القديمة من نظام إلى نظام، نوعا من الصدمة الحضارية، إذ أن تعبيرات الخجل غير المبرر التي كانت تصاحب بعض تعبيرات أبناء القبائل في الأوساط الحضرية، كانت في معنى ماـ اعترافا بأفول أزمنة قديمة أصبحت تتوارى وراء القرون، وبروز بدايات لأزمنة حديثة في علاقات حياتهم الحضرية وصلاتها البينية عبر البنية المدنية للدولة. وكان من ضمن التعبيرات السلبية للحرج أن أهدر خجل أبناء القبائل، في سبيل محاولات التماهي مع الحياة الحديثة، مخزونا ثقافيا وفولكلوريا مهما. حتى أن بعض نظار القبائل المخضرمين الذين عاشوا المرحلة الجديدة من الانتقال الحضري وطرفا من أزمنة الحكم القديمة للقبائل، أدركوا بامتنان طبيعة التغيرات الإيجابية الهائلة التي وفرت لهم حياة منظمةً في الريف.

في تقديرنا؛ أن ثلاثين سنة من نظام الإسلام السياسي الذي قام في السودان، ولأنه نظام استند في تأويله المؤدلج على خطاب للهوية المجردة يهدر الفرق الضروري بين ثقافة النص وثقافة التاريخ بالنسبة لفهم الإسلام، كما لا يفرق في وعيه للغرب بين غرب حضاري وقيمي وبين غرب انتهازي، كانت نهايته أن أحيا لنا خطابا قديما وجد في شعار « الأصالة» ضالته لإحياء نظام القبائل في الزمان الخطأ والمكان الخطأ.

وهكذا من أجل التفاف النظام السابق على الشعب وضمان ولائه من خلال القبائل التي ينتمي لها الأفراد؛ أحيا نظام الإدارة الأهلية فسيس القبائل وزج بها في السياسة مما أدى إلى تخريب السياسة والقبيلة جميعا فكان فعله ذاك بعد ثلاثين عاما من توظيف القبائل في الشأن العام بمثابة خراب كبير وارتداد على مكتسبات الاجتماع السياسي الذي بناه البريطانيون في السودان.

لقد أصبح الواقع السياسي قُبيل التغيير الكبير الذي حدث في السودان عام 2019 واقعا خطيرا جرَّاء اشتغال الكيانات القبلية في ممارسة السياسة، بحيث أصبح تصميم ذلك الواقع على تفجير نفسه بنفسه قاب قوسين أو أدنى، لولا حدوث الثورة.