أفكار وآراء

المؤرخ والإيديولوجيات في أحكامها المسبقة

24 مارس 2021
24 مارس 2021

عبدالله العليان -

ظهر الاتجاه التاريخاني في الغرب كعقيدة فكرية في الغرب، وكأحد التوجهات الفكرية التي برزت في القرن التاسع عشر وبداية العشرين، وهي من المذاهب الفكرية ودخلت فيما يسمى بالعلوم الإنسانية، التي بدأت تستقل عن الفلسفة، وتطرح رؤى ونظرات أخرى، لتفسير بعض الظواهر الإنسانية، خاصة بعد التحولات الكبيرة التي جرت في الغرب في مجال النهضة وفلسفات الحداثة، بعد التحولات الكبيرة التي جرت في الغرب في القرن الثامن عشر وما بعده، والتي ترى أن كل شيء ينطلق أو يتحقق من خلال تطور مسار التاريخ، وهي نزعات متعددة الاتجاهات والمسارات العقلية والسوسيولوجية، لكن البعض من أنصارها غالى في مذهب التاريخانية، حتى اعتبرها علما ضمن بقية العلوم الطبيعية، ومن هؤلاء فريد ريك هيجل، وكارل ماركس وغيرهم من أنصار تطّور التاريخ وحركته المستمرة خاصة المثاليين الألمان، لكن هذا القول لاقى نقدا شديدا من العديد من الفلاسفة والمفكرين الغربيين أنفسهم، ومن هؤلاء الفيلسوف النمساوي «كارل بوبر» إذ قال في كتابه (عٌقم المنهج التاريخاني)، الذي نشره في عام 1957، هاجم التاريخانية واعتبرها سطحية في رؤيتها تجاه صيرورة التاريخ البشري، وأن علوم الإنسان وكذلك علوم الطبيعة، هي الأجدر والأدق بدراسة الإنسان من العقيدة الاتجاه التاريخاني.

ويعتبر الأكاديمي والمؤرخ المغربي د/ عبد الله العروي، هو أحد المؤرخين والباحثين العرب البارزين في حقل التاريخ، إذ اهتم بالفكر التاريخي بمنطلقات ماركسية..وتمسكه بالتاريخانية كرؤية وفكرة رائدة في النشاط الإنساني، وأحيانا اعتبرها علما قائما بذاته، وهي الحل والمنقذ للتأخر التاريخي العربي، وأول المؤلفات التي كتبها د.عبدالله العروي في عام 1967 كتاب:(الأيديولوجيا العربية المعاصرة)، ثم تبعها في أوائل السبعينيات بكتاب يقترب من الأفكار والتوجهات نفسها في بعض القضايا المتعلقة بالواقع العربي، وهو كتاب:(العرب والفكر التاريخي)، وهذه الأفكار المطروحة التي طرحها في كتابيه، تتعلق بالوضع العربي القومي بالأخص كما سارت عليه الدول العربية القُطرية بعد الاستقلال، التي جمعت بين الأفكار الاشتراكية، مع الاحتفاظ بالقيم الموروثة، فعبد الله العروي وفق منطلقاته الماركسية آنذاك وأفكار ما بعد (عصر التنوير الغربي)، ولذلك شدد على القطيعة التامة مع واقع العرب خاصة التراث، وما سماه بـ( بالتجاوز)، والالتحاق بالفكر الغربي وعصر التنوير، إن أرادوا أن يصلوا إلى ما وصل إليه التقدم الأوروبي، وبالأخص الماركسية التاريخانية ـ وأحيانا يسميها الماركسية الموضوعية ـ والغريب أنه في مؤلف: (خواطر الصباح)، والتي هي عبارة عن تسجيل ليومياته الصباحية، منذ عقود طويلة ـ كما يقول ـ فمع خسارة العرب في حرب حزيران 1967، كتب العروي في خواطره كلاما غريبا عن النكسة المؤلمة وأسبابها، فيقول معلقا على خطاب الرئيس عبدالناصر في 9 يونيو: « سياسة عبد الناصر، في آخر تحليل، سياسة برجوازي صغير(!) حانق ومتحيز رغم البلاغة المصطنعة». وفي فقرة تالية من خواطره يقول العروي عن خطاب عبدالناصر حين استقال من رئاسة الجمهورية في مصر في ذلك اليوم:« خطاب.. مؤثر وصريح. يدعو إلى الرثاء. لاعب خانه الحظ، لم تتوفر لديه الورقة الرابحة.. أول انطباع: كلام برجوازي صغير في مبناه ومعناه»!! والحقيقة لو شخصا أكد لي أن الأكاديمي والمؤرخ المعروف عبد الله العروي قال هذا القول، لن أصدقه، ذلك أن هذه أقوال ما يعرف: بالطفولية اليسارية، كما يسميها البعض اليسراوية نسبة لليسار، مع أن التوقع أن يكون موقفه مختلفا فيما جرى للعرب في ذلك اليوم المشؤوم في تاريخ الأمة، وكأنه سعد بهذه الهزيمة، ليتحول العرب إلى الماركسية الموضوعية أو التاريخانية الماركسية، بعد أن تتم القطيعة التامة مع التراث والأصالة، صحيح أن بعض الحركات اليسارية آنذاك، قالت بهذا القول، وأنها بعد نكسة 67، قفزت من الالتحام بالناصرية، إلى اتخاذ مواقف جذرية في تطبيق ما سمي بـ «الاشتراكية العلمية»، وهذه المواقف معروفة لكل متابع لتوجهات اليسارية وانقلابها على الأفكار القومية والعروبية بعد نكسة 1967، والإشكال الغريب في توجهات عبد الله العروي، أنه يريدنا أن نكون نسخة باهتة من الغرب نفسه، في فكره ونظرته، وحياته، وهذه رؤية تخالف المعقول والمقبول والتميز والاعتزاز بالذات، وهذه التوجهات التي أطلقها العروي، ليست جديدة، فقد أطلقت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من بعض المثقفين والباحثين، لكنها كانت منطلقة من توجههم الرأسمالي/ الليبرالي، والمطالبة بأن تكون مصر جزءا من أوروبا في حياتها ومنطلقاتها الفكرية، ومن هؤلاء إسماعيل مظهر وطه حسين ـ وإن كان د/ طه حسين تراجع عن هذه الآراء قالها في فترة انبهاره بالغرب ـ كما يذكر د/ محمد عمارة، في كتابه (طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام).

كما لاقت مؤلفات وأطروحات عبدالله العروي التالية، خاصة سلسلة المفاهيم: مفهوم الايديولوجيا.. مفهوم التاريخ.. مفهوم الحرية.. مفهوم الدولة.. مفهوم العقل)، نقدا شديدا من العديد من الباحثين والمفكرين العرب والمسلمين، تجاه رؤيته حول الالتحاق بالغرب، أو تجاه الماركسية الموضوعية، وأحيانا بالتاريخانية الماركسية، وإن كان الكلام عن الماركسية الموضوعية تراجعت في كتابات العروي الأخيرة، فلا يكاد يعثر ـ كما يقول د/ محمد الشيخ ـ: «للماركسية التاريخانية»، أو بالأولى على «التاريخانية الماركسية»، أو لما سماه ـ العروي ـ ذات مناسبة «فهمي التاريخاني للماركسية»! وهذه بلا شك من تقلبات العروي الفكرية، وارتباكاته طرحه من آراء عديدة، فيما يراه كحل كـ(للتأخر التاريخي العربي)، ولا شك أن التبرير الذي طرحه العروي في مسألة رؤيته للتاريخانية ـ مع من ناصره في تلك الرؤى ـ ليست موضوعية، وليس لها الحاضن الفكري لقبولها في الوطن العربي قضية غربية، بعد الصراع مع الكنيسة، والعودة للتراث الروماني المادي واستمدادهم من الفلسفة اليونانية، وهذه المنطلقات التي تطرح من العروي ومن بعض المثقفين كلها انهارت، خاصة بعد سقوط المعسكر الاشتراكي برمته، فكيف يتحقق لهذه الأفكار النجاح في بيئة مغايرة،، وقد فشلت في بيئتها؟! مع أن العروي برر ما سماه فشل حركة الإصلاح في القرن التاسع، بقصة:الشيخ محمد عبده.. والليبرالي لطفي السيد.. والتقني سلامه)، لكن العروي مع ذلك، تجاهل ظروف حركة الإصلاح في ظل الاستعمار، وحصاره لحركتها بالقوة وبالطرد والملاحقة لوأد نشطاها، واندحار الدولة العثمانية وتراجعها بعد حروبها مع الغرب، ثم احتلالها من قبلهم، وكذلك ما واجهته الحركة الإصلاحية في البلاد العربية، فكل هذا تجاهله عبد الله العروي تماما، دون الأخذ في الاعتبار تلك الظروف التي واجهة حركة الإصلاح الديني والفكري والتربوي.

يقول د. بنسالم حمّيش في كتابه (نقد ثقافة الحجر وبداوة الفكر)،أن العروي يستهدف فيما يقوله ويرمي عليه كل مثالب الأمة وتأخرها،هو التقليد لماضي الأمة، وينقل عن العروي قوله: «إن البحث عن الأصالة [..] هو الوجه الآخر لضعفنا».

ويعلق د. بنسالم حمّيش على هذا من العروي، إن « الترياق ضد هذا الضعف في الوعي العربي وهو» التلاؤم مع الإنسانية الجديدة»، أي مع الكوني الذي يدعوه مفكرنا ويترجاه بكل جوارحه وقواه، واضعا إياه في مثاله النموذجي ومقامه الإشعاعي: الغرب، وسالكا كما لو أنه يقول: الغرب شموليتنا حتى وإن تحفظ عليها أو دعا إلى التعددية والتنوع».! ومما يفسره عبد الله العروي في معنى التاريخانية ومقوماتها في خط سيرها، فيرى أنها:(ثبوت قوانين التطور التاريخي (= حتمية المراحل). وحدة الاتجاه ) الماضي ( = الماضي والمستقبل. إيجابية دور المثقف والسياسي (= الطفرة واقتصاد الزمن)، لكن العروي ربط هذه الأسس كما يراها بالرؤية التاريخانية في الماركسية، لكن البعض ينتقد هذا الربط، لارتباط الكثير من الرؤى التاريخانية بالمثالية الألمانية كما كانت عند الفيلسوف هيجل وغيرهم من المثاليين.

ومن الذين نقدوا د.عبد الله العروي بعد صدور كتابه (العرب الفكر التاريخي) وجزء مما قاله في كتابه ( أزمة المثقفين العرب)، د. محمد عابد الجابري، في سلسلة مقالات كتبها في جريدة المحرر المغربية التابعة، وجمعت في كتابه (في غمار السياسة: فكرا وممارسة). وكانت ضمن قضايا سياسية عندما كان عضوا في الحزب الاشتراكي المغربي، ومما قاله الجابري حول رؤية العروي، في رده على العروي حول التاريخانية، ومسألة أن «الإنسان صانع التاريخ»، عبد الله العروي ـ بحسب الجابري ـ يقول: «استعمل كلمة التاريخانية للتعبير عن النزعة التاريخية التي تنفي أي تدخل خارجي في تسبب الأحداث التاريخية، بحيث يكون التاريخ هو سبب وخالق ومبدع كل ما روي ويرى عن الموجودات». لكن الجابري يرى عكس هذا القول فيما يراه العروي في مسألة تصوره للتاريخ فيقول: « لكننا نختلف معه ـ مع العروي ـ في جعله التاريخ (هكذا بكيفية مجردة مطلقة) علة نفسه: هناك فعلا سلسلة الأحداث التاريخية المنقولة والمروية، وهناك أيضا منطق التاريخ، أي قوانين يمكن استنباطها من حركة هذه السلسلة وتطورها.. لكن يجب أن لا ننسى أن هذا التاريخ لا يصنع نفسه، بل يصنعه الناس من خلال الإنتاج علاقات الإنتاج.

وهذا ما يغفله العروي، أو على الأقل لا يبرزه في تحليلاته وتاريخانيته».

وعندما طلب المحرر الصحفي بجريدة المحرر الثقافي من العروي على نقد الجابري له، جاء رد العروي على الجابري في كتابه:(خواطر الصباح)، في 27 يناير 1975: « قلت له ـ للصحفي ـ إنه كلام رجل لا يعي ما يقول. لا كان واعيا لأدرك التناقض بين حالته الشخصية، هو يقدم نفسه كمفكر ثوري ملتزم، وحالة الحصار التي أعيشها.. يسبح في بحر الأيديولوجيا ككل المتفيهقين. من المستحيل أن يستوعب الفقيه الأيديولوجيا»!.. وللحديث بقية...