عبدالرزاق الربيعي
عبدالرزاق الربيعي
أعمدة

هوامش.. ومتون: باقة ورد على طاولة أنيقة !

24 مارس 2021
24 مارس 2021

عبدالرزّاق الربيعي

تابعتُ عبر منصة افتراضيّة أمسية شعرية نظّمتها جماعة "منتدى شعراء المهجر"، وهي جماعة شعريّة تتّخذ من (باريس) مقرّا لها، أحياها شعراء عرب ومعظمهم لم أسمع بأسمائهم من قبل، باستثناء الصديق الشاعر عدنان الصائغ الذي حلّ ضيف شرف، ومن سير الشعراء عرفت أنهم دخلوا قصر الشعر من بوّابات متعدّدة، فبينهم المهندس، والطبيب، والفيزيائي، والأكاديمي، ورجل الأعمال، وما إلى ذلك من تخصّصات، فزاد فضولي لمواصلتها، ومنذ الدقائق الأولى غمرني إحساس أنني في جوّ مختلف، فما رأيته كان كافيا لكسر الصورة النمطية المرسومة للشاعر، الأقرب ما تكون لوصف "الأشعث الأغبر ذي طمرين"، والمقصود بذي طمرين: الذي يرتدي الثوب الخَلق البالي، من حيث أن الكتابة كما يقول ريلكة "عملية شبه مرضيّة، لا يقدر عليها إلا أولئك المجروحون من الداخل حتّى العظم"، بينما ظهرت علامات النعمة على وجوه معظم المشاركين بما لا يقبل الشكّ أن تلك الوجوه انعكست عليها عافية عاصمة الأناقة، والعطور، والجمال، فاستحضرت نصا للشاعر خوان فليبي هيريرا يتحدّث عن رجل يحافظ على أناقة مظهره، وهو في طريقه لحضور ندوة شعرية حذرا من أن يبلّ المطر قميصه النظيف المكوي، هكذا وجدت نفسي بحضرة شعراء يلقون نصوصهم، بقمصان نظيفة، ومكويّة، ويقينا أن عطور باريس كانت تفوح من كلماتهم، يقول هيريرا الذي رسم صورة كاريكاتيرية للشعراء في حوار منشور بجريدة "الشرق الأوسط" في 21 -7-2015 بمناسبة اختياره شاعر الولايات المتحدة، " نحن مثل النسّاك، نعيش في غرف صغيرة، عندما نريد أن نرفّه عن أنفسنا، نمشي وسط المزارعين، والعمال ومنظّفي الشوارع، وبنّائي المنازل. ونرمي أنفسنا في صناديق الطماطم، والخضراوات، حتى تصير ملابسنا حمراء في لون الطماطم. ثم نعود إلى غرفنا الصغيرة" ذلك لأن الشعر، حسب رأيه، ورأي الكثير من الناس" هويّة عاجيّة في برج عاجي. لا يقرضه غير الأكاديميين. ولا يدرسه غير طلاب المدارس الثانوية، وصار المكان الوحيد الذي يوجد فيه الشعر وسط عامة الناس هو في بيت أو بيتين من الشعر في بطاقات تهاني عيد الأب، أو عيد الأم، أو التخرج في جامعة"، لكنّه بالنسبة لشعراء تلك الأمسية تجاوز ذلك، رغم أن الكثير من النصوص التي قدّموها ( عدا الصائغ، وضيف آخر) تخلو من الاحترافية، حسب فهمهم للشعر، ودوره في الحياة، وعلاقتهم به التي تقوى أواصرها، كما أحسب، في وقت الفراغ لملئه، والنظر للشعر كونه باقة ورد على طاولة أنيقة، ووسيلة تنفيس، لكنّ الشيء الجميل، هو حضور الشعر في حياتهم، وحرصهم على التواصل مع عوالمه دون أن يتركوا له الحبل على الغارب ليعكّر صفوها، ويحول دون إتمام واجباتهم الاجتماعية، ووظائفهم التي تغرّد في جانب آخر، وهي وظائف تتطلّب منهم مزاجا مختلفا عن المزاج الشعري، يقول الفيلسوف إدغار موران "الشعر أوّل وآخر مهارات حسن العيش، فهو تمسّك بجمال العالم، والحياة، والإنسان، وفي الوقت نفسه مقاومة لقسوة العالم، والحياة والإنسان". وحين خيّروا بين أمرين: الشعر، أو المجتمع، اختاروا الثاني مع الحفاظ على علاقة أنيقة مع الأوّل من باب إشباع الرغبة في التحليق بفضاءاته، فحالهم حال من يلعب الشطرنج في منزله مع إنسان قريب من نفسه، دون الدخول في منافسات، واحتكاكات، وصراعات، فالشعر بالنسبة لهم مساحة للمتعة، والجمال، والعواطف، واحتشاد الأحاسيس، وبعد انتهاء اللقاء يعود كلّ لحال سبيله، مع شعور طاغ بالسعادة، والرضا الذاتي، وحين نقلت شعوري للصديق الصائغ، حدّثني عن أمسية ثانية أقامتها دار نشر بريطانية احتفاء بمناسبة صدور كتابه "اتركوني أقصُّ لكم ما رأيتُ" ورواية البريطاني بيتر بنسون "عشاء سترومنيس"، تلتهما قراءات للحاضرين ممن لديه رغبة بقراءة نصّ قصير عبر فقرة حملت عنوان (المايك المفتوح)، وعلمت أن هذه الطريقة متّبعة في الكثير من المهرجانات، والأماسي الشعرية لإتاحة الفرصة لمن يحبّ المشاركة بما لا يتجاوز قراءة نص واحد بدقائق معدودة، المهم أن يعبّر الناس عن أحاسيسهم، وهذا يتحقّق بشكل أفضل من خلال الشعر، كخطاب مفتوح، يفوح شذاه، ليملأ المكان بعبقه الآسر.